لهذه الأسباب الوقت ليس في مصلحة "إسرائيل"
من شأن استمرار "سيف القدس" فترةً أطول تزخيمُ الملحمة الفلسطينية وانضمام جبهات أخرى إلى المواجهة في ظل تعميق المأزق الإسرائيلي.
يتفاقم مأزق الاحتلال الإسرائيلي أكثر كلما طال أمد عدوانه على قطاع غزة، في حين يتعزّز في المقابل موقفُ المقاومة وإنجازاتها. أحد أوجه المأزق الإسرائيلي يتمثَّل بعجز قادته حتى الآن عن تقديم أيّ إنجاز يمكن تسويقه في جبهتهم الداخلية. وبالتالي، فهُم يُمَنّون النفس بتحقيق أهداف، من قبيل اغتيال قيادات في المقاومة بعد أن عجزوا عن تحقيق أهداف أُخرى، منها شلّ قدرة المقاومة على إطلاق الصواريخ، وإعطاب عصب إنتاج الصواريخ فترةً طويلة.
يمكن القول إن قادة الاحتلال، ولاسيما رئيس الحكومة المستقيلة بنيامين نتنياهو ورئيس الأركان أفيف كوخافي ووزير الأمن بيني غانتس، وصلوا إلى حالة استعصاء، لا هم قادرون على إيقاف الحرب الآن والرضوخ لشروط المقاومة، وإلاّ فإن الأمر سيبدو كأنه هزيمة محقَّقة في نظر جمهورهم وستكون له انعكاسات على طموحهم ومستقبلهم السياسيَّين، ولا هم قادرون، من جهة أُخرى، على الاستمرار في العدوان أمداً طويلاً، لأن من شأن ذلك أن يعمّق إخفاقاتهم ويُضيف إليها تحديات جديدة سوف تفرض نفسها مع مرور الوقت.
كثُرت الإشارات في الصحافة الإسرائيلية إلى انتصار المقاومة في معركة الوعي، خلال هذه المواجهة. هذا ما يؤكّده ناحوم برنيع في "يديعوت أحرونوت"، مشيراً إلى أن "إسرائيل" موجودة في مصيَدة: "لا نية للمستوى السياسي في الانتقال إلى عملية برية، ولا أحد يتوقع أعلاماً بيضاء فوق منازل غزّة".
ويستنتج الكاتب أن لعملية "حارس الأسوار" اسماً معلناً. لكنْ، لا هدفَ معلنًا لها. "يوجد هدف واحد فقط: الوقت".
المأزق الإسرائيلي يتجلّى في أكثر من وجه، وعلى أكثر من صعيد، ويمكن تلخيص أبرز العوامل والأسباب، التي تدفع إلى هذا المأزق، في النقاط التالية:
اشتعال الضَّفة الغربية
تخشى "إسرائيل" دخول جبهة الضفة الغربية بقوة أكثر على خط المواجهات وتقويض سلطة رام الله. عدد من الصحف الإسرائيلية أبدى خشيته من اشتعال الضفة، الأمر الذي من شأنه أن يَقْلِب المشهد بصورة دراماتيكية، وأن يُصَعّب على قوات الاحتلال احتواء الأحداث، بينما لا تزال تحت صدمة المواجهات في فلسطين الـ48.
تُعَنون "جيروزاليم بوست"، في هذا السياق، أن "الخاسر الأكبر في التصعيد بين إسرائيل وغزة: محمود عباس"، مشيرة إلى تقويض موقف عباس بين الفلسطينيين، بحيث بات "لا يجرؤ حتى على دعوة الفصائل إلى إيقاف إطلاق الصواريخ على إسرائيل". وتُذكّر بأن عباس "اعتاد، في الماضي، السخريةَ من صواريخ "حماس" المحلية الصنع، ووصفها بأنها عقيمة وضارّة بالفلسطينيين".
ارتباك الساحة الإسرائيلية
واضحٌ الارتباكُ الداخلي في "إسرائيل"، على وقع اتِّهام نتنياهو بإعلاء مصلحته الشخصية على حساب المصالح الاستراتيجة. يجري ذلك في ظلّ انقسام غير مسبوق في المجتمع الصهيوني، سياسياً وأيديولوجياً، بالإضافة إلى التحديات التي فرضها دخول فلسطينيي الـ48 على خط المواجهة على امتداد فلسطين التاريخية، ووجود أزمة ثقة وقيادة. يقول وزير الأمن السابق ورئيس حزب "إسرائيل بيتنا" أفيغدور ليبرمان، في مقال خصّ به "معاريف"، إن "نتنياهو يقود إلى تدمير الهيكل الثالث، ويعرّض وجودنا نفسه للخطر، ويقودنا إلى الهلاك"، مشيراً إلى أن "الخسارة الكاملة للردع والنظام والأمن والحوكمة وانهيار المنظومات الحكومية، لم يسبق لها مثيل".
ويوضح أنه "في العملية الحالية لا يوجد هدف استراتيجيّ ولا أهدافٌ واضحة. يجب على إسرائيل أن تحدّد ما هي نهاية لعبتنا ضد قطاع غزة وكيف ستنفّذها. وهذه مناقشة يرفض نتنياهو بعناد إجراءها في الكابنيت".
في هذا السياق، تتحدث "جيروزاليم بوست" عن خطورة العدوان الذي تشنّه "إسرائيل" على غزة، لأنه يترافق، هذه المرة، مع تصدُّعات سياسية في الجبهة الداخلية الإسرائيلية، الأمر الذي قد يؤدّي إلى خسائر من الصعب تعويضها، بحسب تعبيرها.
وبينما تدّعي الصحيفة أن جيش الاحتلال يسجّل إنجازات كبيرة في عملية "حارس الأسوار" بخلاف تقارير إسرائيلية أخرى، إلاّ أنها تؤكد "أن المنزل في غضون ذلك ينهار من الداخل".
سلسلة تحليلات نشرها في هذا الإطار النائب السابق لرئيس مجلس الأمن القومي، عيران عتصيون، في حسابه في "تويتر"، يقول فيها إن "إسرائيل دخلت هذه المعركة في ظل ظروفٍ دونية، ولأسبابٍ سياسية شخصانية لنتنياهو. حركة "حماس" انتصرت في هذه الجولة منذ بدايتها، وإسرائيل لن تخرج منتصرة منها".
يجري ذلك بموازاة تكرر الإشارات في الصحافة الإسرائيلية عن أن العملية استنفدت في ظلّ تحذيرات من إطالة أمدها لأنها دخلت في مرحلة "التوحّل"، الأمر الذي قد ينقلب على "إسرائيل" سلباً، بحسب ما رأى المحلل العسكري في صحيفة هآرتس، عاموس هرئيل، الذي أضاف أنه من المرجح أن ترتكب "إسرائيل"، أخطاءً في هذه المرحلة.
الخشية من انضمام حزب الله إلى المواجهة
أكثر ما تخشاه "إسرائيل" انضمامُ جبهات أخرى إلى المواجهة، ولاسيما جبهتا لبنان وسوريا، واللتان أصبحتا منذ اندلاع الأزمة السورية جبهةً واحدة، تُسمّيها "إسرائيل" جبهة الشمال، وتتعامل معها على هذا الأساس.
في حال طال أمد العدوان وتكثَّفت المجازر الإسرائيلية، يُستبعد أن يسمح محور المقاومة بالاستفراد بغزة. وليس مستبعَداً أن يتدخل إنِ اقتضت الضرورة. إطالة أمد العدوان من شأنها أن توفّر الظروف الموضوعية لتحوّل كهذا. ويمكن، في هذا الإطار، قراءة عمليات إطلاق الصواريخ من جنوبيّ لبنان مرتين. في المرة الأولى، أُطلقت من منطقة القليلة جنوب صور وسقطت قرب مستعمرة شلومي، كما أعلن إعلام العدو. وفي المرة الثانية (الإثنين) أُطلقت من منطقة العرقوب وسقط بعضها داخل الأراض اللبنانية فيما سقط اثنان منها في منطقة مفتوحة من مستعمرة مسكاف عام قبالة العديسة. ولا يُستبعَد أن نشهد مرات ثالثة ورابعة وخامسة، الأمر الذي قد يجرّ إلى تدحرج الأمور، بحيث تؤدي إلى اشتعال الجبهة.
الخوف من اشتعال هذه الجبهة تحديداً تردَّدت أصداؤه في أكثر من صحيفة، وعلى لسان أكثر من مسؤول سياسي إسرائيلي. في هذا الإطار، يقترح ليبرمان على "كل مواطن في إسرائيل" أن يسأل نفسه: "إذا كان هذا هو وضعنا في مواجهة حماس، فما هو موقفنا في مواجهة حزب الله وإيران؟".
رأي آخر صادر من شخصية اعتبارية، هي بوعاز غانور، الذي يحمل أكثر من صفة. فهو "المؤسس للمعهد الدولي لمكافحة الإرهاب ومديره التنفيذي، ورئيس مركز رونالد أس لاودر لمكافحة الإرهاب في مدرسة لاودر الحكومية في مركز هرتسليا المتعدد التخصصات". يقول غانور في "جيروزاليم بوست" إنه "إذا تمكنت "حماس" و"الجهاد الإسلاميّ" من إطلاق عدة مئات من الصواريخ يومياً في وابل من عشرات الصواريخ، فإن حزب الله يخطط لإطلاق الآلاف يومياً في وابل من مئات الصواريخ". وينصح غانور القيادة الإسرائيلية بأن تستعدَّ فوراً للتحديات التي من المحتمل أن تشكّلها الحملة الشمالية، في أرض المعركة وفي الجبهة الداخلية.
موقف الإدارة الأميركية
موقف الإدارة الأميركية غير متحمّس للتصعيد، في ظل تنامي التيار المنتقد لـ"إسرائيل" داخل الحزب الديموقراطي. وعلى الرغم من استمرار الموقف التقليدي للحكومة الأميركية، عبر انحيازها التامّ إلى "إسرائيل"، فإنّ هناك عدة مؤشِّرات على عدم وجود رغبة لدى الإدارة الحالية في الانخراط في الصراع وتصعيد الوضع، هذا عدا عن غياب "الكيمياء"، في العلاقة الشخصية، بين رئيس الحكومة الإسرائيلي بنيامين نتنياهو والرئيس الأميركي جو بايدن.
ثلاثة اتصالات أجراها بايدن بنتنياهو منذ اندلاع المواجهة، وشدّد في الاتصال الثالث (الإثنين) على أنه يدعم وقفاً للنار في غزة كما نقل الإعلام الإسرائيلي.
تشي مواقف بايدن وكبار مستشاريه بأن أولوياتهم الدبلوماسية تتركز على مكان آخر، بحيث لا يبدو أن هناك غطاءً كافياً لاستمرار الحرب إلى وقت طويل. وبينما تحاول إدارة بايدن، كما يبدو، استعادة بعض عناصر السياسة الأميركية التي اختلّت بسبب موقف إدارة ترامب المؤيد لـ"إسرائيل" على نحوٍ سافر، تتعالى أصوات في أوساط حزب الرئيس، وخصوصاً "التيار التقدمي" الذي يمثله بيرني ساندرز وزملاؤه، في انتقاد العدوانية الإسرائيلية وغياب التوازن في مقاربة واشنطن للعلاقة بين الفلسطينيين والإسرائيليين. وهذا التيار يتمتع بقواعد شعبية لا يُستَخَف بها، وقد تتأثر بمواقف قادتها.
وكشفت صحيفة "يديعوت أحرونوت" في هذا الإطار أن الرئيس الأميركي مضطرّ للتعامل مع ضغطٍ متزايد من داخل الحزب الديمقراطي. ومنذ يومين وقّع 28 سيناتوراً، يشكّلون أكثر من نصف الديمقراطيين في مجلس الشيوخ، على رسالة تدعو إلى وقفٍ فوري للنار مع حماس.
في حال استمرار المواجهة، يمكن أن يتعزَّز تنامي الرأي العام المناهض لـ"إسرائيل" داخل الولايات المتحدة، وخصوصاً أن هناك إرهاصات واتجاهات في أوساط متعددة، بشأن العبء الذي باتت تشكّله "إسرائيل" على السياسة الأميركية، وبين هذه الأوساط يهود أميركيون.
لا يقتصر الأمر على واشنطن إذ نقلت تقارير إسرائيلية عدة أن الضغط الدولي على تل أبيب يتزايد من أجل التوصل إلى وقفٍ للنار، وأن الجهود الدولية مستمرة في الأيام الأخيرة بكامل القوة.
خسائر "إسرائيل" الاقتصادية
لا تقتصر خسائر الاقتصاد الإسرائيلي على الخسائر المباشِرة، بل على ما يتعداها من خسائر إستراتيجية يصعب ترميمها، وسوف يزيد هذا الأمر اطّراداً مع استمرار المواجهة العسكرية. من ذلك سمعة "إسرائيل" التي تسعى لجذب الاستثمار مستقبلاً في حقول الغاز، وتحويل فلسطين المحتلة إلى مركز لنقل الغاز إلى أوروبا عبر منصة "منتدى غاز المتوسط"، كذلك سعيها لأن تكون مركز الثقل في المنطقة، اقتصادياً وتجارياً ومالياً، وتعويلها في هذا الإطار على اتفاقيات التطبيع.
لقد تضرَّرت حتى الآن سمعة صناعاتها العسكرية بسبب محدودية قدرات أنظمتها الدفاعية الجوية التي تسعى لتسويقها في دول الخليج، كما حدث لفخر صناعتها "الميركافا" خلال حرب تموز/يوليو 2006.
استطاعت المقاومة حتى الآن إيقاف الإنتاج في حقل "تمار" للغاز، وتوقّفت شركة "شيفرون" عن التنقيب واستخراج الغاز، كما اعترف جيش الاحتلال باشتعال حريق في منصة حقل "لفياثان" لاستخراج الغاز في مقابل حيفا، وإن عزا الأمر إلى "خلل عملي". كما استهدفت المقاومة خط الأنابيب بين "إيلات" و"عسقلان"، الأمر الذي ستكون له تداعيات سلبيّة على مشاركتها في "منتدى شرق المتوسط".
وعدا عن أضرارها المباشرة الناتجة من توقف قطاعاتها الإنتاجية والتي يمكن تعويضها، إلا أنَّ من الصعب تعويضَ غياب الأمن والمخاطر القائمة، وهما عاملان أساسيان في جذب الاستثمارات، بعد أن استهدفت المقاومة منطقة "غوش دان"، التي تُعتبر درّة تاج الاقتصاد في الكيان.
المفاجآت العسكرية للمقاومة
تخشى "إسرائيل" ظهور مفاجآت عسكرية جديدة على خط المعركة، الأمر الذي من شأنه أن يُحرج أكثرَ قادةَ الاحتلال. تمثَّلت المفاجأة العسكرية حتى الآن بإدارة معركة الصواريخ والتحكّم والسيطرة ومَدى الصواريخ وقوتها التدميرية، وبدخول طائرات مسيَّرة وأنواع أسلحة جديدة خَطَّ المواجهة، هذا عدا عن مفاجأة دخول فلسطين التاريخية على خط المواجهة. لكنّ هناك مفاجآت لم تَظهر بعدُ، وعبّر عنها أكثر من قياديّ ومن ناطق باسم فصائل المقاومة.
وبينما أوضحت صحيفة "معاريف" قبل أيام أن حركة "حماس" "باغتتنا ونحن غير مستعدّين"، مُتسائلةً "كيف حدث أن الجيش الإسرائيلي لم يعرف بالقُدرات التي طوّرتها "حماس" في السنوات الأخيرة"، فإن صحيفة "يديعوت أحرنوت" تجزم بأن "حماس" لا تزال تمتلك كثيراً من المفاجآت.
في هذا الإطار، ينقل موقع "والاه" عن مسؤولين كبار في جيش الاحتلال الإسرائيلي مطالبتهم بوقف الهجوم العسكري والتوصل إلى إيقاف لإطلاق النار، "خوفاً من بروز مفاجأة تتطلب ردًّا عبر مناورة برية".
الرأي العام العربي والدولي
تولي "إسرائيل" اهتماماً كبيراً للرأي العام الدولي، وخصوصاً الغربي، في كل مواجهاتها مع المقاومة، وتحرص على تسويق وجهة نظرها وتبرير عملياتها باعتبارها "دفاعاً عن النفس ضد الإرهاب".
وإن كان منطقياً في السابق أن يتركّز الاهتمام الأكبر على الرأي العام الدولي مقارنة بالرأي العام العربي، فإن الجديد في هذه المواجهة أنها أتت بعد أشهر على اتفاقيات التطبيع. يُطمَئِن "إسرائيلَ" تصنيفُ حركات المقاومة، وضمنها "حماس"، "منظمات إرهابية" لدى الدول المطبّعة، إلا أنه مع استمرار المواجهة الحالية من المنطقي الافتراض أن العدوان الإسرائيلي سوف يفاقم إحراج أنظمة التطبيع وتهافُت منطقها في تبرير إقامة علاقات بـ"إسرائيل"، بدليل اضطرار عدد من هذه الأنظمة إلى إصدار بيانات إدانة للتصرفات الإسرائيلية، بما يؤدي في نهاية المطاف إلى نتائج تناقض المصالح الإسرائيلية.
توضح صحيفة "جيروزاليم بوست"، في هذا السياق أن "إسرائيل" "تخسر مرة أخرى الدعم في محكمة الرأي العام، بينما التعاطف الدولي يميل لمصلحة الفلسطينيين"، في حين تشير "معاريف" إلى أن استمرار القتال "يمكن أن يورّط إسرائيل مع المجتمع الدولي".
قبل مدة، كتب جاريد كوشنر في صحيفة "وول ستريت جورنال": "نشهد آخر بقايا ما عُرف بالصراع العربي الإسرائيلي". قال ذلك حين كان يعرض نتائج "اتفاقات أبراهام"، وكان لديه وهمٌ قاتل بأن الفلسطينيين كانوا مهزومين إلى درجة أن "إسرائيل" يمكن أن تتجاهل ببساطة أبسط مطالبهم.
لقد قطع "سيف القدس" الأوهام إلى غير رجعة، وأعادت "ملحمة فلسطين" إلى الواجهة من جديد قضية فلسطين، كل فلسطين، قضيةً محورية في وجدان العرب والعالم. في المعركة على الوعي، تعزّزت القناعة أنها مسألة وقت.. وفق حسابات منطقية ورياضية إنها مسألة وقت فحسب.