عن اليوم التالي لوقف القتال… الحقائق الجديدة لا تعيش للأبد
يبدو الشرق الأوسط بعد المواجهة العسكرية الأخيرة بين إسرائيل والفلسطينيين، على أبواب مرحلة جديدة، تحركها حقائق جديدة، قد تقود إلى حل سياسي، إذا أُحسن تفعيلها واستثمارها، أو قد تعود بالمنطقة إلى ما كانت عليه، فالحقائق الجديدة لا تعيش للأبد، وإنما قد تتبخر في أيام.
نعم لقد توقف القتال، لكن كل مقدماته والعوامل التي أدت إليه، ما تزال حاضرة بقوة، وإذا لم تتحرك القوى المعنية بالصراع في الاتجاه الصحيح وبالسرعة اللازمة، فإن المواجهة العسكرية الأخيرة ستدخل إلى أرشيف التاريخ، بوصفها حربا مما يمكن تسميته «حروب وقف إطلاق النار» وهي غير الحروب التي تنتهي بواقع سياسي جديد، يعكس التغير في موازين القوة.
أهمية المواجهة العسكرية الأخيرة، تعود إلى أن الحقائق السياسية الجديدة على الأرض، وفي الرأي العام العالمي تصب في مصلحة الشعب الفلسطيني، أكثر مما تصب في مصلحة إسرائيل، كما أنها أيضا تركت آثارا إيجابية غير متوقعة بالنسبة لمصر، التي تمثل مركز التوازن الحقيقي في العلاقات العربية – الإسرائيلية، سلبا أو إيجابا. وسوف نتناول هنا أربع ملاحظات رئيسية في شأن خريطة الأولويات والمسؤوليات التالية لوقف العدوان الإسرائيلي على غزة، تتعلق الأولى بأولويات الإغاثة الإنسانية وإعادة البناء، والثانية بمسؤولية حماس، والثالثة بدور الوساطة المصرية، والرابعة بدور الولايات المتحدة.
دعم صمود غزة
بعد أحد عشر يوما من القصف الوحشي الإسرائيلي لغزة، بواسطة الطائرات والصواريخ والمدفعية والدبابات، تتراجع كل الأولويات وراء أولوية قصوى، هي الإسراع بأعمال الإغاثة الإنسانية العاجلة، بما يشمل إطعام من فقدوا مصدر غذائهم، وإسكان من فقدوا السقف الذي كانوا يبيتون تحته، وعلاج المصابين المحتاجين إلى الأطباء والدواء والأجهزة الطبية. ونظرا لجغرافيا غزة، فإن إمدادات الغذاء والكساء والدواء ومواد البناء، لابد أن تمر عبر مصر أو إسرائيل، ومن ثم فإن ضمان تدفق احتياجات الإغاثة من خلال سياسة «المعابر المفتوحة» يمثل أولوية قصوى في الوقت الحاضر. وطبقا للمعلومات المتاحة فإن إسرائيل فتحت معبر كرم أبوسالم، كما فتحت مصر معبر رفح. ومن الضروري وصول المساعدات وقوافل الإغاثة إلى غزة بالكميات والانواع اللازمة. وبعد الإغاثة العاجلة تأتي مهمة إعادة البناء. وطبقا للمعلومات المعلنة من الإدارة الأمريكية والاتحاد الأوروبي، فإن إعمار غزة يحتل أولوية رئيسية، على التوازي مع جهود إحياء العملية السياسية لتسوية الصراع على أساس حل الدولتين. وهنا ستخضع الجامعة العربية مرة أخرى لاختبار جاد يتعلق بترتيب برنامج عربي متكامل للإغاثة والإعمار في قطاع غزة. ومن الضروري جدا بالنسبة للفلسطينيين إجراء توثيق دقيق للدمار الذي خلفه العدوان الإسرائيلي، قبل أن تبدأ عمليات إعادة البناء.
مسؤولية حماس
استطاعت حماس في المواجهة الأخيرة أن تحقق أهدافا سياسية وعسكرية نوعية، على العكس من إسرائيل، التي هي في أحسن الأحوال حققت أهدافا عدوانية عسكرية كمية، لا قيمة لها في التحليل النهائي للحرب. نتنياهو يضرب غزة بقسوة، لا جديد في ذلك، ويدمر أهدافا عسكرية لحماس، لا جديد في ذلك. لكنه فشل في نزع سلاح حماس بالقوة أو بغيرها، أو إسكات قدرتها على الرد. وفي تصريحاته أثناء القتال وبعده، لم يسجل نتنياهو لنفسه تحقيق هدف سياسي أو استراتيجي واحد، وهو ما يترك كل ما حققه داخل حيز الأهداف الكمية ضعيف القيمة، بل إن عمليات القصف التي استهدفت منشآت مدنية، أدت إلى نتائج عكسية ضده، بما خلفته وراءها من ضحايا بشرية، وخراب مادي. ويتجلى فشل نتنياهو في عجزه عن وقف صواريخ حماس، وعن اغتيال قائد كتائب عز الدين القسام محمد ضيف، الذي كان هدفا رئيسيا من أهداف القصف الإسرائيلي. أما حماس فإنها، وصلت بصواريخها إلى تل أبيب وإيلات وإلى كثير من الأهداف في وسط وجنوب إسرائيل بقوة صاروخية تدميرية، وهذا جديد عسكريا، واستطاعت تحفيز عملية إعادة رسم ملامح هوية موحدة لكل الفلسطينيين في داخل إسرائيل وفي الضفة وفي القطاع وفي القدس وفي المخيمات وفي بلدان المهجر، وهذا جديد سياسيا، كما أنها أسقطت منطق ما سماه ترامب «اتفاقيات العهد الإبراهيمي» وقذفت بالتطبيع للوراء، ووضعت السلام في فلسطين في مكانة متقدمة على خريطة اهتمامات الرأي العام العالمي، وفضحت ممارسات الاحتلال الإسرائيلي. وقد أثبتت الحرب أن تحقيق نصر عسكري على حماس بواسطة إسرائيل هو مسألة مستبعدة، لأن ذلك لن يتحقق حتى لو اجتاحت إسرائيل غزة وسوتها بالأرض، بنايات وسكانا، وهو ما لا تستطيعه، على الرغم من تفوقها العسكري الساحق، فهناك حدود أخلاقية وسياسية لاستخدام القوة المفرطة في أي وقت وأي مكان.
الوساطة المصرية
بعد خمسة أشهر من تسلمه مهام منصبه، تحدث أخيرا الرئيس الأمريكي مع نظيره المصري للمرة الأولى، معترفا بفضل الوساطة المصرية في ترتيب وقف إطلاق النار بين غزة وإسرائيل. ومع وضع مهمة الإعمار على رأس جدول الأولويات في واشنطن، فإن القاهرة ستصبح بوابة ثانية بعد تل أبيب لتفاعل الدبلوماسية الأمريكية مع القضية الفلسطينية. وسوف نرى في الأيام والأسابيع المقبلة زيادة في درجة التقارب الأمريكي المصري، على أرضية التعاون المشترك في غزة. نجاح الوساطة يمكن أن يصبح «نقطة انقلاب» إيجابية جديدة في العلاقات بين الطرفين، تنهي المرحلة القلقة التي مرت بها هذه العلاقات منذ يونيو 2013 حتى الآن، وهي الفترة التي اتسمت بتشكك الإدارة المصرية في نوايا واشنطن، خصوصا في موقفها من الإخوان المسلمين وحقوق الإنسان، وتشكك الإدارة الأمريكية في نوايا القاهرة، خصوصا في مجالات تعاونها مع كل من روسيا والصين. كذلك فإن نجاح الوساطة المصرية قطع الطريق على دعوة مجلس الأمن للانعقاد، لإصدار قرار دولي جديد لوقف إطلاق النار، طبقا لمبادرة فرنسية، كانت قد وصلت إلى مرحلة متقدمة في المشاورات والصياغة. وكان أحد النتائج العرضية لنجاح الوساطة مساء يوم الخميس الماضي، هو إنقاذ ماء وجه الدبلوماسية الأمريكية، التي كانت تعتزم استخدام حق الفيتو ضد مشروع القرار الفرنسي. ولم تكن واشنطن تعتزم الامتناع عن التصويت، وهو الموقف الذي لجأت إليه إدارة أوباما في ديسمبر 2016 إزاء قرار يعتبر المستوطنات الإسرائيلية «غير مشروعة قانونا وتمثل عقبة في طريق السلام». ومن ثم فإن الإدارة الأمريكية يجب أن تكون شاكرة للقاهرة على هذه الهدية. وليس من المستبعد أن تكون الدبلوماسية المصرية الآن متفائلة باحتمال أن ترد الولايات المتحدة الجميل، بإعلان موقف أكثر تأييدا لمصر في أزمة سد النهضة خلال الجولة المقبلة للمبعوث الأمريكي إلى القرن الافريقي جيفري فيلتمان.
إن لم تتحرك القوى المعنية بالصراع في الاتجاه الصحيح وبسرعة، فإن المواجهة العسكرية الأخيرة ستدخل أرشيف التاريخ
صفقة أمريكية إسرائيلية
برز اهتمام الولايات المتحدة بالتفاعل مع الأوضاع في فلسطين في الأسبوع الثاني من العدوان الإسرائيلي، وليس قبل ذلك. ويتأثر دور واشنطن بثلاثة عوامل رئيسية هي مصالحها الاستراتيجية في المنطقة، وموقفها من إسرائيل، والموقف من حماس. وتظهر حاليا ملامح مقايضة سياسية بين الولايات المتحدة وإسرائيل، حصلت بمقتضاها إسرائيل فعلا على صفقة أسلحة أمريكية متطورة، وستحصل على المزيد خلال الأشهر المقبلة، إضافة لتكثيف المجهود الدبلوماسي الأمريكي من أجل تعزيز قوة «قانون يهودية الدولة» الذي أقره الكنيست في عام 2018، ليصبح ركنا أساسيا في اتفاقيات التطبيع الجديدة، التي تطمح إدارة بايدن لأن تساعد على إبرامها بين الدول العربية وإسرائيل، بما في ذلك اتفاقية مرتقبة يجري الإعداد لها بإتقان بين إسرائيل والمملكة السعودية، مع النص على مبدأ «يهودية الدولة» صراحة أو ضمنا، في أي اتفاق مستقبلي بين إسرائيل والسلطة الوطنية الفلسطينية. كل ذلك ستقدمه الولايات المتحدة إلى إسرائيل، مع تجديد الالتزام المطلق بتفوقها، في مقابل أن تتوقف الحكومة الإسرائيلية عن معارضة عودة الولايات المتحدة إلى الاتفاق النووي مع إيران. كما أسهمت حرب غزة في تطوير الموقف الأمريكي من القضية الفلسطينية من ناحيتين، الأولى تتعلق برفع مستوى الأولوية، والثانية بإعادة التأكيد على أن حل الدولتين هو الطريق الوحيد لإنهاء الصراع، وهو ما يجعل الإعلان الاخير للرئيس بايدن في مؤتمره الصحافي مع رئيس كوريا الجنوبية يوم الجمعة الماضي قريبا جدا من مبادرة السلام العربية المعلنة منذ عام 2002.
تصنيف حماس
تشترط الولايات المتحدة أن تكون السلطة الوطنية الفلسطينية هي الجهة الرسمية التي تتسلم وتدير المساعدات، وهو ما يمكن أن يعرقل الدور الأمريكي في عملية السلام. ولن تستطيع القنصلية الأمريكية في القدس، التي سيعاد فتحها لتجديد الاتصالات المباشرة بين الإدارة الأمريكية والسلطة الوطنية الفلسطينية، أن تكون بديلا عن علاقات مباشرة مع حماس في غزة، وهو ما يقدم مبررا قويا لضرورة إلغاء تصنيف حماس كمنظمة إرهابية، على غرار ما فعلت الولايات المتحدة مع الحوثيين. ويعتبر ضم حماس للعملية السياسية واحدا من الشروط المسبقة لنجاحها.