عشرة أيام من انتفاضة شعبنا هزّت العالم
علمنا شعبنا أن صبره بلا حدود, ونضاله وهبّاته بلا حدود, صبور على معاناته ومآسيه جراء الاحتلال الصهيوني وقمعه وقتله وحصاره, وجراء الخذلان العربي على مدار سبع عقود هي عمر النكبة, وجراء الهبوط السياسي لقيادته الفلسطينية التي أقدمت على الاعتراف بالكيان وتقديس التنسيق الأمني معه...
لم يكن صبره ضعفاً, أو يأساً, أو قبولاً بالأمر الواقع, إنما هو انتظار للملء الكامل لطاقته المتجدده بعد كل جوله من الصراع, وقد عوّدنا بمفاجآته في مراحل التراجع والنكوص كيف يعيد الأمور إلى نصابها, ويعيد الروح مجدداً في أوصال أمة بكاملها, هكذا كان شعبنا الفلسطيني ممسكاً بناصية التاريخ, وهكذا هو اليوم صانعاً للتاريخ ومفجّراً طاقاته الوطنية عبر هبّاته الشعبية في كل مدن فلسطين, ويرسم الصورة الحيّة والحقيقية لإيمانه المطلق بقضيته الوطنية وحقه في أرضه وتاريخه وتراثه, ويرسم لوحة كفاحية جديدة بدم أبنائه تتجاوز المألوف من الصور الكفاحية على مستوى العالم...
مقدمات سياسية كامنه وصانعة للهبّات الشعبية...
لقد مورس على شعبنا كل أشكال الترويض والتدجين السياسي كي يقبل الأوهام المتجددة ومشاريع التسوية التي تتحدث عن إمكانية تحقيق بعض الحقوق الوطنية أو المطلبية وفي نفس الوقت تم حصاره سياسياً وأمنياً, واقتصادياً في غزة والضفة والقطاع والشتات كي لا يجدد هبّاته وانتفاضاته الشعبية, وكي لا يلحق الهزيمة بخيارات التسوية التي لم يزل يراهن عليها أصحابها عرباً وفلسطينيين...
وبرغم من خيارات التسوية وانخراط العرب والقيادة الفلسطينية في دهاليزها, إلا أن الكيان الصهيوني كان أكثر حضوراً وصلفاً في رفضه لأية حقوق وطنية للشعب الفلسطيني, حتى الفتات من الحقوق لم يمنحها للإنسان الفلسطيني, فأقدم على المزيد من الاستيطان وتهجير الأهالي من أراضيهم وبيوتهم, والمزيد من ابتلاع الحقوق الوطنية في سياق سياسياته العنصرية وقوانينه وتشريعاته, فأقدم على اعتماد قانون القومية اليهودية العنصرية الدينية, الذي وضع شعبنا في مناطق 48 في مكانة لا ترتقي بأي حال إلى مرتبة المواطن اليهودي, كما قام بضم مدينة القدس واعتبارها العاصمة الأبدية للكيان, بعد أن أعلنت الإدارة الأمريكية بشرعية ضم القدس إلى الكيان في سياق ما سمي بصفقة القرن, الأمر الذي يترتب عليه لاحقاً العمل على إنهاء الوجود الفلسطيني من مدينة القدس, بعد إغراقها بالمستوطنين, والعمل على مصادرة بيوتها ومرافقها وأراضيها وطرد أهلها عنوة تساوقاً وتنفيذاً لروايته الاستراتيجية في محو أي أثر جغرافي أو تاريخي أو إنساني يثبت وجوداً تاريخياً للشعب الفلسطيني في القدس...
ثمّة مقدمات سياسية وعملية على الأرض قد أدركها شعبنا الفلسطيني, تهدف إلى إنهاء وجوده كلياً من الجغرافيا الفلسطينية, كما أدرك أن كل الخيارات السياسية التي فرضت عليه عربياً وإقليمياً, ومن ثم فلسطينياً, لم تؤتِ ثمارها بالرغم من كل التنازلات الأكثر إيلاماً وعلى رأسها الاعتراف بالكيان الصهيوني دون أن يسبق ذلك أي اعتراف منه بأي كيان فلسطيني على الأرض...!!
لم يكن ممكناً قراءة الهبّات الشعبية في مدن فلسطينية وعلى رأسها القدس, دون لحظ ووعي المقدمات السياسية التي شكّلت وعياً مضاداً لحملات محو الوجود...فالأحداث في القدس والمسجد الأقصى وحي الشيخ جرّاح وباب العمود, لم تكن إلا شرارة احرقت سهلاً من السياسات الضارّة لشعبنا في مدنه وقراه وفي حياته ومستقبله, وعليه فإن أحداث القدس شكّلت ذروة التحدي لأسباب متراكمة منذ سنوات, كما أحدثت نقلة نوعية في الوعي الشعبي ونخبه الوطنية باتجاه رفض الرضوخ لخيارات التسوية الفاشلة....
من هنا فإن الهبّات الشعبية التي بدأت شرارتها من القدس واتساع نطاقها في المدن الفلسطينية, شكّلت وتطورت إلى انتفاضة سياسية بامتياز, ولم تكن هبّات شعبية بعيدة عن جذرها وأسبابها السياسية, ولم تكن ردة فعل عفوية على حدث بعينه, إنما هي هبّات وطنية سياسية, وردّات فعل واعية ومنظمة في آن, ترفض الاحتلال وسياساته, وتتمرّد على واقع السلطة الفلسطينية العاجزة عن حماية المواطن الفلسطيني من جهة ومنع الاحتلال من تنفيذ سياساته الاستيطانية من جهة أخرى...
الاشتباك المسلح ضرورة تاريخية...
وبالمحصلة نحن أمام ضرورة تاريخية تواجه الواقع المجافي, وتواجه انسداد الأفق لأي حل سياسي, وتواجه فشل السلطة الفلسطينية التي اعتادت على سياسة الانتظار والاستجداء دون صنع الحدث وتحمّل تبعاته...
ولم يكن ممكناً إدارة الظهر لهذه الضرورة التاريخية, وإضاعة الفرصة المواتية لتصعيد الحدث الانفجاري, سيما وأنه ليس حدثاً عفوياً, الأمر الذي جعل خيار الدعم والمساندة المسلحة لهذه الهبّات الشعبية خيار الضرورة وخيار الفرصة التاريخية, بل أن خيار المقاومة المسلحة واستخدام العنف الثوري عبر الصواريخ والقذائف يعطي هذه الهبّات الشعبية قوة انفجارية شعبية جديدة ليس في الضفة فحسب وإنما في كافة مدن فلسطين...
ولم يكن ممكناً أن تمتلك حركة المقاومة هذا الكم من الأسلحة والبارود, ولا تستخدمه في لحظات الاشتباك الشعبي وحماية الشعب من القتل المتنقّل من مكان إلى مكان في الضفة, إذ أن وظيفة السلاح قد آن أوانها, في الدفاع عن المواطن الفلسطيني, وليس من الحكمة السياسية أو الوطنية أن تأتي اللحظة المناسبة لاختبار وظيفة السلاح, ولا يتم استثمارها, فالسلاح ليس وظيفته الاستعراض أو التخزين حتى يصدأ كما هو سلاح الأنظمة العربية, وإذا لم تكن هي الفرصة التاريخية لإثبات جدارة السلاح المقاوم, وجدارة الإنسان الفلسطيني في المقاومة, فمتى تكون الفرصة التاريخية...!! فالسلاح ليس للمباهاة إنما هو قوة للردع ورسم معادلات الاشتباك مع العدو في كل مرحلة من مراحل الصراع....
ومن المنطقي أن يكون قرار الاشتباك المسلح مع الاحتلال قراراً صائباً, دفاعياً وهجومياً في آن, وله وظيفة سياسية ومعنوية وتثوير الحالة الشعبية الفلسطينية, وهذا ما ميز انتفاضة اليوم (بجمعها الشكل الشعبي والعنفي في آن لمواجهة الاحتلال) عن سابقتها من انتفاضة الحجارة السلمية, وانتفاضة الأقصى العنفية, وبمعزل عن إضفاء اصطلاح الانتفاضة على الانفجار الشعبي اليوم وتكامله مع الاشتباك المسلح من عدمه, فإن الأهم هو جوهر الحدث الانفجاري في الداخل والخارج, ونتائجه الفورية والبعيدة المدى, إذ لم يكن ممكناً دون توفّر الإرادة الشعبية الواعية في مواجهة الاحتلال في القدس أن تتطور الأمور إلى استخدام سلاح المقاومة لمناصرة الهبّات الشعبية, فهما مظهران متكاملان يفضيان إلى الحاجة الموضوعية لدور الجماهير في التحضير السياسي والبيئة الشعبية لعناصر الثورة واستخدام السلاح...
كما لا بد من إظهار التطور النوعي في أداء المقاومة بانتقالها من حالة الدفاع في مواجهة الاحتلال, إلى حالة الهجوم وأخذ القرار والمبادرة, وهذا في العلم السياسي والعسكري من أصعب وأدق القرارات التي يمكن أن تأخذها هيئات الأركان أو المرجعيات السياسية, لأنها تحتاج إلى قراءة واعية لميزان القوى العسكري والسياسي والشعبي, حتى يمكن أخذ القرار بحسابات الربح المباشرة والاستراتيجية, ومن الأهمية بمكان أن يكون قرار الحرب مسيجاً بالحالة الشعبية المؤيدة والمحفّزة لقرار دخول الحرب...
الانتفاضة والمقاومة المسلحة إنجازات تاريخية...
• إن هذه الانتفاضة الشعبية المسلحة قد حققت الكثير من ا لإنجازات النوعية/ الانتصارات لصالح القضية الفلسطينية, وهي انتصارات تتجلّى في إعادة بناء الوعي الوطني الفلسطيني والعربي من جديد, وترميم ما تهّدم من الوعي الوطني طيلة عقود غلبت عليها ثقافة خيارات التسوية الموهومة, والانتقال من وعي الهبوط السياسي وثقافة أوسلو إلى وعي الخيارات الوطنية واستحقاقاتها, عبر الهبّات الشعبية, والمقاومة المسلحة في مواجهة الكيان, وهذا انبعاث جديد للهوية الوطنية في ظل الظروف المجافية عربياً ودولياً, وهو النصر الأكبر والأهم في معركة الاقتدار...
• ومن نافل القول أن هذه الانتفاضة الشعبية والمسلحة قد أعادت القضية الفلسطينية إلى موقع الصدارة في سلم الاهتمام العالمي, وأعادتها إلى مكانتها المركزية, وانتشلتها من أدراج النسيان المتعمّد, وأعادتها قضية مركزية عالمية لا يستطيع العالم أن يدير الظهر لها, وهنا الانتصار الآخر, أن تنتصر أولاً لقضيتك وعلى ذاتك المترهلة وتعلو بوعيك الوطني كي تحقق الانتصار الدولي لقضيتك, والمفارقة التاريخية أن الأنظمة العربية على مدار عقود تجاهلت مركزية القضية وأهالت عليها التراب, غير أن الفلسطينيين بثورتهم في غضون أسبوع من المنازلة مع الكيان يعيدون للقضية وهجها عربياً ودولياً, ولم يبقَ بيت في العالم إلا ودخله الصوت الفلسطيني والعلم الفلسطيني والإرادة الفلسطينية, وخرجت الملايين من الشعوب متضامنة ومناصرة للشعب الفلسطيني في كل مدن العالم...
• إن الدرس الفلسطيني المستخلص من تضامن الشعوب مع الحق الفلسطيني هو أن ثلاثين عاماً من فعل التسويات والاتفاقات والاستجداء وقرارات الشرعية الدولية المنقوصة, لم تستطع أن تحرك مدينة واحدة أو مظاهرة واحدة لنصرة الحق الفلسطيني في حين أن أسبوعاً واحداً من المجابهة مع الاحتلال حرّكت شعوب الأرض من أقصاها إلى أقصاها لنصرة القضية, برغم الثمن العالي الذي يدفعه شعبنا, وحرية الشعوب وكرامتها واستقلالها, لا تمنح ولا تستجدى, إنما تنتزع انتزاعاً بالدم والمقاومة...
سقوط النظرية الأمنية والحرب خارج حدوده
• إن هذه الجولة من الصراع مع الكيان الصهيوني تقتضي من حيث المسؤوليات الوطنية لدى المحللين والسياسيين والباحثين أن يقفوا أمام هذا الحدث الانفجاري بالعمق وليس بمظاهر الحدث, أي البحث عما هو غير مرئي والنوعي في المتغير, أي البحث عن المتغير الاستراتيجي, الذي جعل الكيان في مأزق, والذي يؤشّر على كبر السؤال الوجودي بمستقبل الكيان , فلأول مرة في تاريخ هذا الكيان تتعرض عاصمته إلى هذا الكم من القصف الصاروخي من قطاع غزة, الشريط المحاصر براً وبحراً جواً, فهذا متغير استراتيجي في قدرات المقاومة من جهة, ومن جهة أخرى فهو متغير لجهة قصور أمن الكيان وضرب نظريته الأمنية التي على مدار عقود وهو يتفاخر بها, ويعمل على تطويرها ويضع خبراته البشرية والتقنية والتسليحية في خدمتها لتوفير الأمن لكيانه, فإذا بها تتهاوى في لحظات معدودة أمام إرادة المقاومة وسلاحها الخفي, كما تسقط نظريته القائمة على أن حربه يجب أن تكون خارج حدود كيانه...!! وتتحول حربه إلى قلب عاصمته تل أبيب وكل أماكن استيطانه في المدن الفلسطينية, وهذا هو المتغير الاستراتيجي الأمني...
• إن هذه الجولة من الصراع هي جولة صراع على الوعي, ومن يكوي وعي الآخر, فمعيار الخسارة لدى الكيان اليوم تتعدّى خسائره البشرية والمادية على أهميتها, فالقصف الصاروخي أصاب بناء الوعي الصهيوني ومنظوماته الأمنية والسياسية والفكرية, وأحدث هزّة عميقة في مستودع الوعي الصهيوني, وتخلخلت يقينيات وروايات العدو أمام هذا المتغير في طبيعة الصراع في جولة واحدة من جولاته القادمة, فالاستقرار والأمان الذي عاشه المستوطن الصهيوني على مدى عقود هو العنوان الأهم في تفكير خبراءه وسياسييه ومفكريه في مؤتمرات هرتسليا لم يعد متاحاً, حيث الخوف والرعب والهلع من المستقبل الآتي قد أحدث ضرراً هائلاً في الوعي الاسرائيلي, مما يدفع المجتمع الصهيوني بعوامه ومفكريه, أن يعيدوا بناء التصورات والروايات الصهيونية وحتى التوراتية حول فلسطين, كأرض الميعاد وأرض الأمان للشعب اليهودي...
• وإذا كان الكيان يستطيع أن يرمم ويعيد بناء ما تهدّم من خسائر مادية غاية في الكبر والاتساع, فإنه حتماً غير قادر على ترميم ما تهدّم من ا لوعي الاسرائيلي, وما تشوّه أو تكسّر في أيام...وعلى عكس المجتمع الفلسطيني وفصائله وقواه الحية, فقد أعاد الاعتبار لوعية الوطني بمجرد أن أخذ قرار المعركة مع الكيان, وبمجرد أن أعلن الشعب الفلسطيني فرحته العارمة بعد وقف إطلاق النار, واعتبار ما حصل هو انتصار بكل المعايير, هنا كشفت جولة الصراع هذه المعادلة وسؤال من يكوي وعي من...؟؟
• لقد أولى ما سمي "مركز النظم البيني – مؤتمرات هرتسليا" الأهمية القصوى للتحدي الديمغرافي باعبتاره من أهم الأخطار التي تواجه الكيان الاسرائيلي في المدى الاستراتيجي, وعلى مدى عقود أفاض المركز في البحث والتحليل والتوصيات لتجاوز هذا الخطر هذا الخطر ا لمرتقب على مستقبل الكيان...
إن هذه الجولة من الصراع المكشوف والتي تحول فيها شعب فلسطين على امتداد الأرض الفلسطينية إلى مشارك حقيقي وليس افتراضي, وتحولت المدن الفلسطينية المستولى عليها في عام 48 إلى قنبلة موقوته, حيث تجاوز شعبنا هناك المألوف من التضامن والمساندة والتقط اللحظة التاريخية ليعلن المشاركة الفعلية في المواجهة مع الكيان, وتتحول الهوية الفلسطينية واستحقاقاتها النضالية إلى قنابل جديدة في وجه المحتل, حيث كاد أن يفقد سيطرته على مدن فلسطينية كاللد الثائرة, وحين انتفضت أم الفحم عن بكرة أبيها وهي تودّع ابنها البار محمد كيوان, فهي تسجل ان القادم أعظم, ولا أسرلة ولا تذويب, ولا سلام مع الاحتلال...إن هذه الجولة من الصراع قد أسقطت كل توصيات مراكز بحثه ومؤتمراته على عقود, والأولى على مراكز البحث الفلسطيني أن تعيد البحث في معنى انتفاضة شعبنا في مناطق 48 وعلاقته الاستراتيجية بعناوين التحرير وزال المغتصب..