ألكسندر نازاروف: الولايات المتحدة الأمريكية – الصين – روسيا .. هدوء ما قبل العاصفة
المحلل السياسي ألكسندر نازاروف
في القمة المرتقبة مع الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، سيتعيّن على الرئيس الأمريكي، جو بايدن، أن يقرر ما إذا كانت الولايات المتحدة الأمريكية ستحارب على جبهتين، أم على جبهة واحدة.
بنهاية أبريل الماضي، وصلت المواجهة بين الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا حداً غير مسبوق، ربما أهدأ قليلاً من “أزمة الصواريخ الكوبية” التي وقعت بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الأمريكية عام 1962، عندما تبدّت في الأفق فرصة حقيقية لاندلاع حرب نووية بين البلدين.
بحلول أبريل الماضي، شرعت أوكرانيا، “الكبش الأمريكي لتوجيه ضربة ضد روسيا”، في تركيز مجموعات ضاربة على الحدود مع جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك. في الوقت نفسه، كان الرئيس الأوكراني، فلاديمير زيلينسكي، يعدّ المجتمع الأوكراني للحرب بخطوات تدريجية، فقد كثّف جهوده الدبلوماسية للتخلي عن اتفاقيات مينسك، وبدأ حملة دعاية عسكرية في وسائل الإعلام الخاضعة للرقابة، وقمع المعارضة، والقنوات التلفزيونية المستقلة.
قبل ذلك، حاول الغرب زعزعة استقرار الوضع الداخلي في روسيا باستفزازات مختلفة بمشاركة المعارض الروسي، أليكسي نافالني. ثم كانت هناك محاولة للإطاحة بالرئيس البيلاروسي، ألكسندر لوكاشينكو، ثم محاولة لاغتياله في بيلاروس، الدولة الحليفة لروسيا. ولا ننسى أيضاً الحرب بين أذربيجان وأرمينيا، والتي نجحت روسيا في عدم التورط فيها.
كذلك فقد كانت الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها يفرضون عقوبات اقتصادية جديدة على روسيا بشكل يكاد يكون يومياً، واتخذ الرئيس بايدن خطوة لم يكن بالإمكان تصورها سابقاً بوصفه الرئيس بوتين بـ “القاتل”. كما وصلت القوات الأمريكية إلى أوروبا الشرقية لإجراء سلسلة من المناورات العسكرية للناتو، بما في ذلك التدريب على أعمال عسكرية في شبه جزيرة القرم وأوكرانيا.
قامت روسيا، على هذه الخلفية، بتركيز حشودها العسكرية على الحدود الغربية، القادرة ليس فقط على تدمير أوكرانيا في غضون أسبوعين فحسب، وإنما أيضاً سحق قوات الناتو في أوروبا الشرقية، قبل أن تتمكن الولايات المتحدة الأمريكية من مساعدتهم. كذلك أجرت القوات الروسية هي الأخرى مناورات عسكرية، أكّدت قدرتها على الردع. حتى أن الرئيس بوتين صرّح أنه خلال انهيار الاتحاد السوفيتي، كانت روسيا من الكرم بأن منحت الجمهوريات السوفيتية سابقاً الكثير من الأراضي الروسية، ولن تتسامح مع استخدامها ضد روسيا، ملمّحاً إلى أنه في حالة عدوان كييف على جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك، قد تفقد أوكرانيا ما لا يقل عن نصف أراضيها، التي كانت تنتمي تاريخياً إلى روسيا.
وفي لحظة من اللحظات، بدت الحرب بين روسيا وأوكرانيا حتمية، وبين روسيا والناتو مرجحة للغاية.
ثم فجأةً، اقترح الرئيس بايدن أن يجتمع بالرئيس بوتين لحل الخلافات. لا يزال من المقرر عقد هذه القمة في 16 يونيو الحالي في جنيف، على الرغم من وجود بعض الشكوك حول إمكانية عقدها. وبمجرد ظهور الأنباء حول عقد هذه القمة، توقف الخطاب العسكري من كلا الجانبين على الفور، وانزوت أوكرانيا من عناوين الأنباء العاجلة، إلى الهامش. حتى أصبح المرء يقرأ الصحف فلا يعرف إذا ما كانت هناك أزمة قد وقعت بالأساس في يوم من الأيام. وساد صمت حذر، على خلفية تصريحات هنا وهناك، من موسكو وواشنطن، حول الاستعدادات للقمة المرتقبة.
فما الذي حدث؟ وماذا سيحدث بعد ذلك؟
أولاً، من بين الأسباب الرئيسية التي دفعت الولايات المتحدة الأمريكية وأوكرانيا إلى الاندفاع نحو الحرب، هو رغبة واشنطن في تعطيل مشروع الغاز الروسي “السيل الشمالي-2” بين روسيا وألمانيا، والذي يجب أن يكتمل قبل حلول الخريف. حيث تعدّ مدفوعات روسيا لأوكرانيا مقابل عبور الغاز أحد المصادر الرئيسية لحياة الجسد الأوكراني المتهالك، بينما تسعى الولايات المتحدة إلى تحويل عبء دعم أوكرانيا إلى روسيا. كذلك ستؤدي الحرب إلى توحيد وحشد أوروبا في مواجهة روسيا، واستعادة السيطرة الأمريكية على أوروبا، وسحق المقاومة الألمانية. ومع ذلك، فقد تمسّكت، المستشارة المنتهية ولايتها، أنغيلا ميركل، ومن ورائها أوساط الأعمال الألمانية بكل ما أوتوا من قوة بـ “السيل الشمالي-2″، ولم يستسلموا على الرغم من كل الضغوط الأمريكية. في هذه الظروف، يمكن للحرب مع روسيا أن تجعل ألمانيا عدواً للولايات المتحدة الأمريكية لا العكس.
ثانياً، أظهر بايدن مرة أخرى، من خلال اقتراحه لقاء “القاتل” بوتين، أن تلك العبارة، وقصة “رشا غيت” برمتها لم تكن أكثر من نتيجة ووسيلة للصراع على السلطة في واشنطن، بين الجمهوريين والديمقراطيين. وحينما كان من الضروري الإطاحة بترامب، تم تضخيم قصة “التدخل الروسي”، دون أن يكون لدى الولايات المتحدة أي أسباب حقيقية لمثل هذه الهيستيريا واسعة النطاق ضد روسيا. عندما دفعت الألعاب السياسية الداخلية في واشنطن البلدين إلى حافة صدام عسكري، أدرك الديمقراطيون أنهم تجاوزوا الحد المسموح، وكان عليهم التوقف، ولم يكن هناك مانع من أن يتّخذ بايدن الخطوة الأولى نحو بوتين.
ثالثاً، وهو الأهم، يبدو أن إدارة بايدن قد أدركت أن الصين هي التهديد الرئيسي للولايات المتحدة الأمريكية، وأصبحت مستعدّة لتبني خطط ترامب الصارمة تجاهها. ويمكن لمثل هذا التقارب في المواقف أن يساعد أيضاً في خفض مستوى الانقسامات الداخلية داخل الولايات المتحدة.
الآن، بدأ الخبراء ووسائل الإعلام الغربية، فجأةً، يتحدثون من جديد عن إمكانية وجود أصل اصطناعي لفيروس كورونا في المختبرات الصينية. أعتقد أن الغرب بذلك يستعد لزيادة الهجوم على الصين بشكل حاد في الأشهر المقبلة، وصولاً إلى تقديم مطالبات بتعويضات ضخمة بقيمة عشرات التريليونات من الدولارات، تليها عقوبات اقتصادية شاملة، وعلى المدى الطويل، حصار عسكري بحري. بالطبع، فهذا سيناريو راديكالي، إلا أنني أظنه واقعيا. فلا توجد طريقة أخرى لإمكانية حفاظ الولايات المتحدة الأمريكية والغرب على القيادة العالمية.
من الواضح أنه في ظل هذه الظروف، يجب على واشنطن ألّا تسمح بتحالف بين موسكو وبكين، وهو ما بدأ يتشكّل فعلياً نتيجة للاستفزازات والعقوبات الغربية. وسيواجه بايدن، في اجتماعه مع بوتين، مهمة تحييد روسيا. ولكن ذلك لن يكون مقابل أي ثمن، وإنما من المحتمل أن تكون اللغة المعتمدة أقرب إلى الإنذار النهائي، والإملاءات. وبالفعل، فقد أشارت الخارجية الروسية إلى تعارض تام بين جدولي أعمال القمة المقترحين من الجانبين. ما يعني، إلى حد كبير، أنه ليس لدى الأطراف ما تتحدث عنه. وفي أفضل الأحوال، سيحاول بايدن، الإشارة إلى فشل الضغط الأمريكي على ألمانيا، بخصوص “السيل الشمالي-2″، كتنازل أمريكي محتمل، وسيُطرح، بشكل عام، “حل وسط” يتمثّل في تجميد العقوبات على المستوى الراهن، ووقف المزيد من العدوان على روسيا بشكل مباشر، حال وقفها أي أنشطة خارج حدودها. خلاف ذلك، هناك فرصة كبيرة أن نشهد استئنافاً للمواجهة، وبكثافة أكبر بكثير.
من جهتها، يبدو لي أن القيادة الروسية لا تتوقع أي اختراقات من لقاء بايدن، لكنها سعيدة، على أي حال، بالحصول على هدنة للراحة لسببين:
السبب الرئيسي هو أن الغرب، وبخاصة الولايات المتحدة الأمريكية، يزدادون ضعفاً يوماً وراء يوم، بينما تزداد روسيا استعداداً. أي أن كل يوم يتأخر فيه الصدام يزيد من فرص روسيا في كسب هذه اللعبة العالمية.
من الناحية التكتيكية، فحتى التأجيل قصير المدى للصراع، ولو لعدة أشهر، مع الولايات المتحدة الأمريكية، سيسمح باستكمال “السيل الشمالي-2″، وهو ما سيقلل من ضعف روسيا أمام أي أحداث في أوكرانيا إلى الصفر تقريباً. ولن يؤدي هذا إلى زيادة درجة الحرية في اتخاذ القرارات بشأن أوكرانيا فحسب، وإنما سيؤدي أيضاً إلى تعزيز الروابط بين روسيا وألمانيا، ما قد يمنع أوروبا الغربية على الأقل من المشاركة في مغامرات عسكرية ضد روسيا.
في غضون ذلك، فإن قوات الجانبين على أهبة الاستعداد، ولم يتغير شيء على أرض الواقع… يستمر الغرب في التعبئة والاستعداد للحرب على قدم وساق، حيث اخترقت سفينة حربية بريطانية مؤخراً المياه الإقليمية الروسية قبالة شبه جزيرة القرم. وبعد حادثة هبوط طائرة “ريان إير”، واعتقال السلطات البيلاروسية النازي والمعارض البيلاروسي، رومان بروتاسيفيتش، الذي كان على متنها، شنّ الاتحاد الأوروبي، وبسرعة غير مسبوقة، حملة من العزل والضغط على بيلاروس، بل وتفتّق ذهن المملكة المتحدة عن اقتراح باستحداث عقوبات إضافية ضد من؟ … بالإمكان أن نحزر ضد من بمنتهى السهولة، أليس كذلك؟، بالطبع ضد روسيا. وكأن قرار العقوبات كان متفقا عليه في وقت سابق، ولم يتبق للاتحاد الأوروبي ببساطة سوى إيجاد الذريعة.
باختصار، فإن مؤيدي الحرب مع روسيا من بين دول الناتو لا يسعون فحسب، بل يخلقون أسباباً، من خلال استفزازات متعددة، لتصعيد الحرب الباردة مع روسيا، وتحويلها إلى حرب ساخنة.
في رأيي المتواضع، لا يمكن التوصّل إلى اتفاقيات إيجابية طويلة الأجل في القمة المزمعة بين بوتين وبايدن. في سبتمبر ستجرى انتخابات برلمانية في روسيا، وتليها في الخريف حملة انتخابية أخرى في إطار انتخابات الكونغرس الأمريكي. وأعتقد أن مواجهة صعبة ربما تستأنف حتى قبل الخريف المقبل. فالولايات المتحدة الأمريكية لم يعد لديها الوقت، واقتصادها في غرفة العناية المركّزة، على جهاز التنفس الصناعي.
إن الرئيس بايدن يجد نفسه في موقع نابليون وهتلر، حينما رأى كل منهما مهمة تحييد روسيا ضرورية للغاية قبل غزو العالم بأسره. التاريخ يعيد نفسه، وإذا كان من يقرأ التاريخ جيداً من الأمريكيين، فسيحاولون التهرّب من التورط المباشر في الأزمات التي يثيرونها على حدود روسيا.
إلا أن الأنغلو ساكسون، مثلما حدث في الحربين العالميتين، يراهنون على صدام بين روسيا وألمانيا. هناك أدوات في الوقت الراهن لتنفيذ ذلك، كتنسيق حروب في أوكرانيا وبيلاروس بمشاركة بولندا ودول البلطيق وغيرهما من الدمى الأمريكية الأخرى، من أجل زيادة توريط الاتحاد الأوروبي بأكمله، بما في ذلك فرنسا وألمانيا. بعد ذلك ستتعامل الولايات المتحدة الأمريكية مع الصين.
على الأقل، هذا ما أتخيّله للخطط الأمريكية، وبعد ذلك ستجري روسيا تعديلاتها الخاصة على تلك الخطط، مثلما فعلت من قبل في خطط نابليون وهتلر.