الاعتراف بالماضي الاستعماري وعقدة الأب القاسي
نصب تذكاري في ناميبيا لضحايا الإبادة الجماعة التي ارتكبها الاستعمار الألماني
محمد سامي الكيال
يبدو أن الدول ذات الماضي الاستعماري باتت أكثر استعداداً للاعتراف بالجرائم التاريخية، التي ارتكبتها بحق سكان المستعمرات السابقة، وأيضاً أدوارها السلبية في مرحلة ما بعد الاستقلال. من الإقرار الفرنسي بالذنب في المشاركة بالمجازر الجماعية المهولة في راوندا، مروراً باعتراف ألمانيا بقيامها بـ»تطهير عرقي» في ناميبيا، وصولاً للمطالب المستمرة، في بلجيكا وهولندا، بل حتى في برشلونة الإسبانية، بإزالة الرموز والنصب الكولونيالية، ومنح التعويضات المادية والمعنوية لضحايا الهيمنة الغربية.
المطالب بمعالجة الجراح التاريخية المزمنة، ليست منحصرة في مجال العلاقات الدولية، بل أصبحت جانباً من الخطاب السياسي «التقدمي» في غالبية الدول الغربية، فقد ارتبطت إزالة تماثيل القادة والحكّام، المشاركين في تجارة العبيد والممارسات العنصرية، بحركات تعتبر نفسها مقاومة لليمين الشعبوي والتمييز الهيكلي، في الولايات المتحدة وبعض الجامعات البريطانية، ولذلك تبدو إعادة فتح ملفات الماضي، والنزعة التطهيرية تجاه التاريخ، واحدةً من أهم القضايا المعاصرة.
إلا أن الحديث عن «سياسة» قضايا الاعتراف التاريخي يطرح عدداً من الأسئلة، فعلى الرغم من أن «الاعتراف» له جانبه المادي غالباً، مثل التعويضات التي قررت ألمانيا دفعها لمستعمرتها الافريقية السابقة؛ والتمكين المؤسساتي، وما يرافقه من «تمييز إيجابي» تجاه أبناء الهويات الأكثر تضرراً من الممارسات القديمة، إلا أن القضية تم رفعها أيديولوجياً إلى المستوى الرمزي – الثقافي، فلم تعد متعلّقة بمطالب، مرتبطة بمشروع سياسي واضح المعالم، كما كان سائداً في عصر التحرر الوطني، وحركات الحقوق المدنية في القرن الماضي، عندما كانت المطالبة بـ»الاعتراف» متلازمة دوماً مع نوع من الاستقلال، أو فك الارتباط مع الدول أو المؤسسات، المسؤولة عن الظلم أو الاستغلال. اليوم لا مجال لأي فك ارتباط، بل يبدو طلب الاعتراف محاولة لإعادة اندماج، ربما بشروط تبدو أفضل، في المنظومات، التي يتم تحميلها مسؤولية الجانب الأكبر من المعاناة الحالية.
من جانب آخر يبدو أن الاعتراف لا يؤدي إلى تغيير جذري في الأوضاع القائمة، فدول مثل فرنسا، مازالت مهيمنة اقتصادياً وسياسياً على دول افريقية عديدة، في ما لا يمنع الميل الألماني الدائم، للاعتراف بسيئات الماضي، حكومة البلاد من القيام بممارسات مالية وسياسية قاسية، مثل موقفها المتشدد تجاه اليونان، إبان أزمة مديونيتها. أما «التمكين» على النمط الأنكلوفوني فلم يثبت أي نجاح في تقليل التفاوت العرقي – الطبقي.
في ما مضى كانت المطالبة بفك الارتباط، مهما كانت فاشلة، أو موصلة لنتائج كارثية، لا تمر دون تحقيق تغيير سياسي واجتماعي كبير. فما دلالة صعود الرمزي على حساب السياسي في مطالب الاعتراف؟ وما الأسس الأيديولوجية لهذا الصعود؟
أيديولوجيا الآباء
لا يمكن اعتبار ميل الدول الاستعمارية السابقة للاعتراف بمظالم ماضيها نتيجةً مباشرةً لنضال تحرري ما، بقدر ما هي نابعة من تغيّرات داخلية في الأيديولوجيا السائدة فيها، فثورات الاستقلال الكبرى انتهت منذ زمن، وأنتجت دولاً متفاوتة النجاح والتطوّر، في حين خمد الحراك الاجتماعي المنظّم داخل الدول الغربية، منذ انكسار الطبقة العاملة الكبير، أواخر سبعينيات وبداية ثمانينيات القرن الماضي، أمام السياسات النيوليبرالية.
يمكن ربط التحوّل الهيكلي في المؤسسات الغربية، بالتغيرات التي طرأت على مفهوم «الاندماج الاجتماعي» بعد اضمحلال دولة الرفاه: لا يمكن لأي مجتمع معقّد أن يستمر دون وجود مؤسسات وسيطة، بين السلطة السياسية بمعناها المباشر، والبشر المُعرّفين بوصفهم أفراداً، أو حتى مجموعات أولية (هويات، طوائف، مجموعات مصالح، إلخ) وتلعب تلك المؤسسات دوراً في تأهيل ورعاية البشر، وبناء نوع من الوازع القانوني والأيديولوجي لديهم، فالسلطة لا تعتمد فقط على السجون والشرطة والمحاكم، لإلزام البشر بمواقعهم في المنظومة الاجتماعية، وقواعد نشاطهم الحياتي وتواصلهم وحقوقهم وواجباتهم الأساسية، بل تقوم بمنحهم نوعاً من الحس السليم، المتسق مع هذه القواعد، عبر سلسلة من المؤسسات غير العُنفيّة. وسواء اعتبرنا هذه المؤسسات «مدارس للديمقراطية» أو «أجهزة أيديولوجية للدولة البورجوازية» فالنتيجة واحدة: ينبني الجانب الأساسي من تعريف الذات الفردية والجماعية على الطريقة التي تؤدي بها المؤسسات الوسيطة وظيفتها، في دمج الذوات بالكل الاجتماعي، بوصفه بنية متسقة.
قامت وظيفة الاندماج طيلة فترة دولة الرفاه على مبدأ «الحقوق الاجتماعية» إذ تلعب الدولة دوراً أبوياً تجاه مواطنيها، سواءً عبر تغطيتهم بالتأمينات الاجتماعية، في مجال الصحة والعمل والبطالة، أو عبر رعاية التفاوض الجماعي، بين أرباب العمل والعمال، ومختلف القوى السياسية والاجتماعية. وفي حقل العلاقات الدولية، رعت دول الرفاه الكبرى التنمية في المستعمرات حديثة الاستقلال، التي وافقت على شروطها السياسية والأيديولوجية، أو التي لم تستطع التخلّص تماماً من هيمنتها.
تعيد السلطات إذن، ربط الأفراد والمجموعات بمؤسساتها عبر «الاعتراف» وتلعب مجدداً دورها الأبوي، بوصفها الجهة التي تقي البشر من اختلال علاقاتهم بذواتهم، أو تبنّي النظرة الدونية تجاه أنفسهم، أثناء تعاملهم مع الكل الاجتماعي، وهذا النمط من «التربية الحديثة» يعمل أيضاً على صعيد العلاقات الدولية.
الدور الأبوي لدولة الرفاه، أثار كثيراً من المقاومة داخل الدولة الغربية وخارجها، وصلت إلى ذروتها في الاحتجاجات الطلابية والعمالية في ستينيات القرن الماضي ضد المؤسسات الانضباطية، أي مؤسسات الاندماج الاجتماعي الأساسية؛ وفي تصاعد النزعة المعادية للإمبريالية، المطالبة بفك الارتباط عن المنظومة الرأسمالية، ما أدى، إلى جانب أزمة الركود الاقتصادي وصعود الأيديولوجيا النيوليبرالية، إلى التراجع التدريجي لدولة الرفاه، إلا أن هذا لم ينه وظيفة الاندماج الاجتماعي بالتأكيد، لكنه غيّر بؤرة تركيزها من «الحقوق الاجتماعية» إلى «الاعتراف الثقافي – الرمزي» فلم تعد الدولة ترعى التفاوض على حقوق مجموعات سياسية، سواء كانت طبقات منظّمة في نقابات أو اتحادات، أو حركات تحرر وطني تطالب بتحسين موقعها في المنظومة العالمية، بل باتت تسعى إلى تغيير أساليب عمل مؤسساتها، لتستوعب أكبر قدر من التنوّع، ومنح الاعتراف لكل من يطلبه. ومن هذا المنظور فالذوات لا تضغط على المؤسسات نحو مزيد من الحقوق، بل يتم تحفيزها مؤسساتياً، لإبداء كل الصيغ الممكنة للخصوصية والاختلاف، لنيل حقوق ثقافية، يغدو تكثيرها، ومن ثم استيعابها، محدداً أساسيا لعمل الأيديولوجيا السائدة.
أيديولوجيا الأبناء
تعيد السلطات إذن، ربط الأفراد والمجموعات بمؤسساتها عبر «الاعتراف» وتلعب مجدداً دورها الأبوي، بوصفها الجهة التي تقي البشر من اختلال علاقاتهم بذواتهم، أو تبنّي النظرة الدونية تجاه أنفسهم، أثناء تعاملهم مع الكل الاجتماعي، وهذا النمط من «التربية الحديثة» يعمل أيضاً على صعيد العلاقات الدولية، فإعادة ربط المستعمرات السابقة بالمنظومة العالمية، سواء في مجال مكافحة الهجرة والإرهاب، أو التنمية الاقتصادية، أو التعاون الأمني والسياسي، يستلزم اعتراف الأب القاسي بالإساءات التي ارتكبها بحق أبنائه، في ما مضى، لفتح صفحة جديدة. أما إعادة توزيع الثروة، والحقوق الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، فباتت عتيقة الطراز، أو لا يمكن تمييزها عن الاعتراف الرمزي في أحسن الأحوال.
ضمن هذا الشرط الأيديولوجي يصبح التعرّف على الذات متعلقاً بما تمنحه المؤسسات المعولمة من اعتراف أبوي، بدلاً من أن يكون نزوعاً للنضوج، أو الاستقلال عن الهيمنة الأبوية. يمكن ملاحظة أن معظم المطالبات بالاعتراف بالمظالم التاريخية لا يرتبط بنشوء حركات منظّمة، تمكّن من بلورة مفهوم للذاتية الجمعية في مقابل السلطات، بل تقوم على انفصال الأفراد تدريجياً عن كل رابطة اجتماعية، ليمسوا أشبه بذوات مطفلنة معزولة، تتذمّر دائماً، وتثير كثيراً من الضجيج، كي تنال شيئاً من اهتمام الآباء/المؤسسات.
كثيرٌ من المستعمرات السابقة تخلّى بدوره عن محاولة بناء مشاريع مستقلة للتحرر والتنمية، وبات أقرب للمطالبة بـ»التمكين» أي استجداء المساعدات والتعويضات، ممن كانوا يوماً آباءه المتوحشين، وبمقارنته مع دول عانت بشدة في ما مضى من الاستعمار بأبشع أشكاله، لكنها نجحت ببناء نموذج مستقل نسبياً للتنمية، مثل الصين، نرى أن الدول الاستعمارية السابقة هي من بدأ يطالب بتعويضات، والحديث عن تغريم الدولة الصينية، بسبب دورها في انتشار وباء كورونا مثلاً؛ والعمل على فرض ضرائب وعقوبات عليها، بدعاوى البيئة وأمن المعلومات وحقوق الملكية الفكرية.
قتل الأب
لا يعني هذا أن دولاً قمعية مثل الصين، هي النموذج الأفضل لبناء الذاتية الجمعية في مواجهة أبوية الاعتراف، أو أن الدول التي ظنت أنها فكت ارتباطها بالمنظومة العالمية، مثل كوريا الشمالية، قد توقفت عن استجداء المساعدات من أعدائها الإمبرياليين، لكنه محاولة للإشارة إلى أن الاعتراف، الذي تبدي الدول الأقوى سخاءً متزايداً في منحه، لا يعني بالضرورة أننا نشهد تغييراً في المنظومة القائمة نحو شرط أكثر عدالة، بل ربما نتجه نحو هيمنة أشد.
ارتبطت معظم الحركات التحررية في التاريخ بمفهوم «قتل الأب» ولو بشكل مرحلي، ومحاولة بناء ذوات مستقلة عن الهيمنة السلطوية، ولذلك يبدو طلب التمكين، من مؤسسات اتُهمت دائماً بقيامها بنيوياً على التمييز، متناقضاً منطقياً، ما لم تتم إعادة بناء هذه المؤسسات من جديد، عبر فرض نمط جديد من الهيمنة فيها، يجعلها تمنح حقوقاً سياسية واجتماعية، وليس مجرد اعتراف رمزي، وهذا يتطلّب نشأة ذاتية سياسية جديدة، لا شيء يجمعها مع أيديولوجيات «العدالة الاجتماعية» و»نزع الكولونيالية» المعاصرة.
باحث سوري