بهدف إضعاف حماس.. إسرائيل: هذه هي “الآلية الدولية” للخروج من مأزق غزة
انتهت الحملات العسكرية التي خاضتها إسرائيل مع قطاع غزة منذ استولت حماس على الحكم في القطاع (“الرصاص المصبوب” 2009، و”عامود السحاب” 2012 و”الجرف الصامد” 2014) بدون تسوية شاملة لثلاثة عناصر مركزية: سياسي، أمني واقتصادي، وبالأساس لم تؤد إلى إضعاف حماس وسيطرتها على القطاع. بدون تسوية شاملة تتداخل فيها الجوانب المركزية الثلاثة هذه، ثمة احتمال عال في ألا تحقق حملة حارس الأسوار أيضاً نتائج مختلفة عن تلك التي حققتها سابقاتها. ولهذا فإن على إسرائيل أن تتطلع إلى تغيير الواقع السياسي والأمني والاقتصادي في القطاع كي تمتنع عن العودة إلى الوضع الذي ساد في هذه الساحة عشية الجولة الأخيرة والجولات الثلاث التي سبقتها. أولاً وقبل كل شيء، يتعين عليها أن تقرر استراتيجية شاملة، ليس فقط لإيجاد حلول تفصيلية لمسائل محددة. في هذا الإطار سيتعين عليها أن تبلور تعاوناً مع السلطة الفلسطينية، ومع الدول العربية التي طبعت علاقاتها معها ومع دول ومحافل دولية أيضاً.
يجب أن يكون الهدف الأساس لخطة عمل متداخلة هو تثبيت معادلة استقرار متعدد السنين تمنح إعماراً شاملاً للقطاع، وتحسيناً مهماً في مستوى معيشة سكانه، ووقفاً تاماً لكل أعمال العنف من غزة نحو إسرائيل. تحقيق هذا الهدف يستوجب ثلاث آليات مختلفة بالنسبة للجوانب المركزية الثلاثة.
الجانب السياسي: دون تغيير عميق في التوجه السياسي لحماس أو كبديل إضعاف نفوذها وسيطرتها في غزة، سيكون من الصعب تغيير الواقع في هذه الساحة. سيكون من الأفضل إذا ما كان مثل هذا التغيير ينبع من خطوة ديمقراطية، ولكن من الصعب أن نتوقع وقوعها و/أو انتهائها بالنتيجة المنشودة. البديل هو خلق آلية تؤدي بشكل غير مباشر إلى إضعاف قوة حماس. هذه الآلية، مثابة مجلس استشاري، يتشكل من مندوبي السلطة الفلسطينية والجامعة العربية والرباعية الدولية.
السؤال الأساس هو: لماذا ستوافق حماس على المسيرة التي يفترض أن تضعف قوتها؟ يكمن الجواب في عرض خطة من جانب إسرائيل يكون لها منطق سياسي وأمني واقتصادي. وفي استعداد الأسرة الإقليمية/الدولية لأن تعلق وتشترط استعدادها للمساهمة في عملية إعمار اقتصادي شامل كرافعة لانتزاع التنازلات اللازمة من جانب حماس. كما ستكون إسرائيل هي الأخرى مطالبة بحسم ما إذا كانت مستعدة للمشاركة في خطوة ينص عليها قرار من مجلس الأمن، تطالب الجهات الخارجية بدمجه بخطوة سياسية إسرائيلية – فلسطينية أوسع، نجاحها ليس مضموناً ومن شأنه أن يقلص مجال العمل الإسرائيلي بالنسبة لقطاع غزة، سواء بالمعنى الاقتصادي أم على المستوى العسكري.
جانب الإعمار الاقتصادي: الشرط الضروري للتغيير هو إعمار اقتصادي شامل ودائم لقطاع غزة. وفضلاً عن تجنيد المقدرات المالية، سيستوجب إقامة آلية مدنية دولية تشكل كحكومة ظلال اقتصادية تضم خبراء في مواضيع مختلفة (الاقتصاد، البنى التحتية، الصحة، القضاء، التعليم) من السلطة الفلسطينية ودول عربية وإسلامية ومؤسسات دولية ودول مانحة. جسم كهذا يمكنه أن يحسن جودة الحكم في قطاع غزة والخدمات التي تقدم لسكانه. إذا ما أقيمت، ستكون الآلية مسؤولة عن استيعاب أموال المساعدة وتخصيصها مباشرة حسب خطة مرتبة ومنسقة بين الجهات ذات الصلة. وهكذا يضمن أن تتجه هذه الأموال مباشرة إلى المشاريع اللأزمة وتقلص قدرة حماس على استخدام جزء من التبرعات لأهداف عسكرية.
ينبغي الافتراض بأن جسماً اقتصادياً إقليمياً – دولياً يقام سيطلب من إسرائيل تعهدات، سواء في المجال الاقتصادي أم في المجال الأمني. وهذه المطالب كفيلة بأن تتضمن استيعاب الإنتاج من غزة في إسرائيل، ونظاماً سريعاً للتصدير الزراعي إلى الخارج، ونظاماً سريعاً لإدخال المواد الخام إلى القطاع وكذا ضمانات لتوريد الوقود والكهرباء والمياه إلى القطاع في كل وضع، إضافة إلى تصاريح عمل لغزيين في إسرائيل. في المدى الأبعد، فهذه مطالب كفيلة بأن تتسع لتشمل أيضاً بناء ميناء، ومطار وإقامة بنى تحتية للمياه والكهرباء.
الجانب العسكري: نتيجة مختلفة للجولة الأخيرة عن تلك التي سبقتها، تستوجب منع قدرة حماس على ملء مخازن الذخيرة من جديد وتقييد قدرتها على ترميم بناها التحتية العسكرية (بما فيها الأنفاق). بعض هذه الأهداف تتحقق إذا ما أقيمت الأجسام المقترحة، بما في ذلك الجسم الاقتصادي الذي يوجه أموال المساعدة وغيرها من المقدرات. إضافة إلى ذلك، سيكون المطلوب آلية للرقابة على أعمال ترميم القدرات العسكرية للمنظمات المحلية المختلفة. وفي هذا الموضوع أيضاً، سيكون لقرار مجلس الأمن فضائل ونواقص من ناحية إسرائيل، وستكون أفضليته الأساسية في مرابطة جهة عسكرية – أمنية أجنبية في قطاع غزة، تساعد في تخفيض قدرة حماس وفصائل أخرى على ترميم بناها التحتية العسكرية. يجب التطلع إلى أن يكون في مثل هذه الآلية جنود من دول عربية لها علاقات دبلوماسية مع إسرائيل، ومن دول أخرى – بينها أعضاء في الناتو.
إن تجربة إسرائيل مع آليات الرقابة الدولية ليست قاطعة لا لبس فيها، بل تتشكل من إخفاقات ونجاحات. فحصها يفيد بأن النجاحات تنبع أكثر من قرار استراتيجي للجهة العربية التي تستوعب الآلية الدولية لوقف النشاط العسكري ضد إسرائيل، وليس بالضرورة من نجاعة الآلية. لم تجرب إسرائيل في نهاية الحملات السابقة الثلاث في قطاع غزة جلب وجود عسكري/أمني أجنبي ودائم في الساحة، ولكن في ضوء فشل منع تسلح حماس المتعاظم في أعقاب جولات المواجهة، نقترح النظر في تواجد كهذا. وإن استعداداً من جانب مصر والإمارات ودول من خارج المنطقة للمشاركة في مثل الجسم كفيل بأن يسهل على إسرائيل اتخاذ القرار.
في هذا الجانب أيضاً، وربما أكثر مما في الجانبين السياسي والاقتصادي، سيكون مطلوباً قرار من مجلس الأمن، هو شرط ضروري لمشاركة دول معينة ومنظمات مثل الاتحاد الأوروبي والناتو. وحيال المخاطرة التي تأخذها إسرائيل إذا ما قيدت حريتها في العمل، فإن التغيير الإيجابي الذي يمكن لهذه العناصر أن تحققه في ساحة غزة في الواقع، مثلما كان قبل حملة “حارس الأسوار”، يبرر أخذ المخاطرة. فضلاً عن ذلك، فإن إحدى النتائج الواضحة في الجولة الأخيرة هي تعزز مكانة مصر في ساحة الصراع نفسها في الساحة الدولة. من زاوية النظر هذه، ثبتت جدوى استثمار إسرائيل في تعزيز التعاون الأمني والاقتصادي مع مصر. ولكي يكون إلى جانب مصر في استعدادها للانخراط في منظومة التسوية بين إسرائيل وقطاع غزة إسرائيل، يجب أن تسعى القاهرة لاستغلال نجاحها في تحقيق وقف النار مع حماس كي توسع نشاطها في مسيرة سياسية بين إسرائيل والفلسطينيين. وإن رغبة مصرية كهذه ستنخرط أيضاً في الرسائل الواضحة التي نقلتها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي لإسرائيل في أثناء حملة حارس الأسوار، إذ إن حل مشكلة غزة يعد –من ناحيتهم- جزءاً من الحل الشامل للنزاع الإسرائيلي – الفلسطيني، أي حل الدولتين. تبدو هذه النظرة كمنقطعة عن الواقع السياسي الداخلي في الوقت الحالي، سواء في إسرائيل أم في أوساط السلطة الفلسطينية المنقسمة، ولكن ليس فيها ما يمنع التقدم المقنون ومتعدد المراحل نحو الحل الذي تشير إليه هذه القوى وتدعمه دول المنطقة والأسرة الدولية.
يمكن لإسرائيل أن تنقذ نفسها من النمط الذي تثبّت بعد ثلاثة جولات من المواجهات السابقة بينها وبين حماس، إذا ما استغلت علاقاتها المتعززة مع مصر، وثبات اتفاقات إبراهيم مع دول في الخليج، وفي الضغط الجماهيري العربي الداخلي في أعقاب موجات العنف في القدس وقطاع غزة وبعد الاضطرابات في مدن إسرائيل، وكذا وقوف إدارة بايدن في الولايات المتحدة إلى جانب إسرائيل في أثناء الحملة في الاختبار الأول للإدارة الجديدة، كي تحسن الواقع الإقليمي والدولي الذي تعيش فيه. يمكن الأمل في أن الأزمة الاقتصادية التي تعيشها إسرائيل منذ سنتين كاملتين لن تمس بالعملية من ناحية البدائل المختلفة لخلق واقع مختلف وبناء في ساحة غزة بعد مواجهة عسكرية أخرى، هي الرابعة التي وقعت في ساحة غزة في غضون اثنتي عشرة سنة.
بقلم: عوديد عيران
نظرة عليا 13/6/2021