لقائي الأول مع عبد الناصر والقذافي وبومدين ومفارقاته
الرئيس علي ناصر محمد
صادف يوم أمس 11 يونيو ذكرى جلاء القواعد الاميركية عن ليبيا عام 1970م بعد قيام ثورة الفاتح في 1 سبتمبر عام 1969م وجاء جلاء القاعدة الاميركية بعد جلاء القاعدة البريطانية بتاريخ 28 مارس 1970م وكان عدد القواعد البريطانية والاميركية سبع قواعد اهمها قاعدة ويلس الاميركية والتي سُميت بعد ذلك بقاعدة عقبة بن نافع وكانت قبلهما ايطاليا قد احتلت ليبيا بداية القرن العشرين وحتى نهاية الحرب العالمية الثانية.
وبهذه المناسبة فقد وجه القائد الليبي معمر القذافي الدعوة للرؤساء والملوك وممثلين عن بقية الدول العربية وفي مقدمتهم جميعاً الرئيس جمال عبد الناصر، وقد نظم القذافي مهرجانات جماهيرية صباحاً ومساءاً احتفاء بهذه المناسبة، وكان لي الشرف أن أشارك في هذه المناسبة نيابة عن رئيس اليمن الديمقراطية وكنتُ حينها وزيراً للدفاع، وقد كانت فرصة لأتعرف لأول مرة على عدد من الرؤساء والملوك والأمراء والمشايخ وقادة الثورة الفلسطينية، وحظيتُ بشرف السلام على الزعيم جمال عبد الناصر، فقد شاهدته وصافحته لأول مرة في المهرجان الجماهيري الذي أقيم بهذه المناسبة، وقد سلم على الضيوف الذين يجلسون في الصف الأمامي نور الدين الأتاسي، القاضي عبد الرحمن الإرياني، أحمد حسن البكر، جعفر النميري، هواري بومدين، الباهي الأدغم، الملك حسين، فاروق قدومي، خليفة بن زايد وآخرين. قدمت نفسي إليه وطلبت منه في لحظة سريعة وعابرة أن ألتقيه، من باب المجاملة. لم أتوقع أنه في زحمة الاحتفالات والرؤساء والوفود المشاركة أنه سيتذكر هذا الطلب العابر، وفي مساء نفس اليوم في مهرجان آخر لوّح لي بيده من منصة الاحتفالات والتفت خلفه وطلب من مرافقه أن يبلغني بأنه قد تحدد موعد للمقابلة في الساعة العاشرة من صباح اليوم التالي في مقر إقامته بالقصر الذي كان يملكه ويسكنه ولي عهد المملكة الليبية الأمير الحسن الرضا السنوسي.
في اليوم التالي وعند الساعة العاشرة فُتح الباب، وشاهدته وجهاً لوجه… لا تزال صورته راسخة في ذهني، ببذلته المقلمة، وقامته العملاقة، كان يسير في جناحه حيث استقبلني بمحبة وسرور وتعانقنا عناقاً حاراً. حضر المقابلة سـفيرنا في القاهرة «محمد عبد القادر بافقيه»، والكاتب والصحفي المصري الكبير محمد حسـنين هيكل.
بعد كلمات الترحيب والمجاملة شكرته على الاستقبال وعلى مواقفه الوطنية والقومية تجاه القضايا العربية، وفي المقدمة قضية الشعب الفلسطيني، وأشدت بدعمه ومساندته للثورة اليمنية شمالاً وجنوباً، وتحدثت عن المخاطر والمؤامرات التي تتعرض لها اليمن الجنوبية منذ الاستقلال، وطالبناه بالدعم السياسي لأننا ندرك أن مصر بعد نكسة حزيران كانت تواجه كثيراً من الصعوبات على الصعيد العسكري والاقتصادي.
أثناء الحديث، ودون شعور مني، وضعتُ على الطاولة الصغيرة التي أمامي علبة سجائر أميركية (Kent) وولاعة رونسون.
قاطعني وسألني: هل تدخن هذا النوع من السجائر؟
فأجبت: نعم.
فقال: لقد حرمني الأطباء إياها، وهي متعتي المفضلة. وكان يدخن قبلها كما حدثني سجائر (CRAVEN A و LM) خلال الخمسينيات وقد طلب إليه الأطباء المعالجون، ومنهم الطبيب الروسي المشهور «يفغيني تشازوف» أن يمتنع عن التدخين، وكانت هذه هي المتعة الوحيدة التي بقيت له. أطفأ آخر سيجارة مشتعلة في يده بتاريخ 15 سبتمبر 1969م بعد أن أصيب بجلطة قلبية، ولم يعد إلى التدخين حتى وفاته 28 سبتمبر 1970م، كما علمت فيما بعد.
قال: تفضل دخّن.
احتراماً له لم أدخن، لكنه ألحّ عليَّ في التدخين، لأن هذا لا يضايقه. شعرتُ بأنه كان يريد أن يشمّ رائحة الدخان، لأن الأطباء كانوا يمنعونه، بل يحرمونه متعته المفضلة له، كما أشار إلى ذلك.
وقد تكرر لاحقاً هذا الموقف مع الرئيس السوفياتي بريجنيف في أحد زياراتي لموسكو عندما كنا في السيارة بين المطار ودار الضيافة وسألني: هل تدخن؟! فقلتُ له: لقد توقفت! ثم سأل: هل يدخن المرافق الذي معك؟ واحتراماً للموقف أجبته: لا، لا يدخن! فقال: هل يمكن أن يدخن مرافقي؟ فقلت له: لا مانع!
فقال لي: إنني أريد أن أشم رائحة الدخان قبل وصولي للكرملين لان الاطباء والمكتب السياسي منعوني من التدخين.. وضحك وقال لمرافقه: دخن!
ونعود الى لقاءنا مع الرئيس جمال عبد الناصر، فقد أخبرني بأن مصر لن تستطيع أن تقدم مساعدة إلى اليمن الجنوبية نظراً إلى الخسائر التي مُنيت بها في الحرب، ومن جراء إغلاق قناة السويس، وتهجير مواطني منطقة القناة، وإغلاق المصانع فيها وخسارة مناجم سيناء، وبترول أبو رديس، وما ترتب عن ذلك من مضاعفة ميزانية الجيش وازدياد أعباء الحرب وكلفتها.
جرى بيني وبين الرئيس جمال عبد الناصر حديث آخر عن القضايا القومية، وقد أدركت من حديثه المرارة التي يحسّ بها حيث علّق قائلاً: «هناك حديث يدور حول إقليمية المعركة أو قوميتها، ونحن نحارب على أي حال إن كانت إقليمية أو قومية. وليس هناك مشكلة في هذا الصدد من وجهة نظرنا». وأضاف بمرارة: «لو أردنا المعركة إقليمية، لكنا حللنا قضيتنا من زمان». وكشف لي أن الأمريكان عرضوا عليه في عام 1968م إجلاء إسرائيل عن كل أراضي مصر التي تحتلها مقابل شرط واحد، هو عدم ربطها بمشكلة بقية الأراضي العربية المحتلة، وأنه رفض ذلك.
شرحت للرئيس عبد الناصر الصعوبات التي تواجهها بلادنا بسبب عدم إيفاء البريطانيين بالتزاماتهم تجاه النظام في عدن وفقاً لاتفاق جنيف بتقديم 60 مليون جنيه إسترليني، فقال لي: «عليكم أن تصمدوا كما صمدنا في وجه الضغوط التي تعرضنا لها».
قال: «لا أخفي عليكم أننا كنا في الماضي «زعلانين منكم» ولكن هذا قد زال الآن ولم يعد هناك سبب للزعل والحساسية. وبعد أن ذاب الجليد فنحن نرحب بتبادل الزيارات بين السياسيين الحزبيين والرسميين في أي وقت». ووعد بأنه سيرسل مندوباً عنه إلى عدن، لحضور أيٍّ من مناسباتنا الوطنية. وقال: «نحن معكم بالرغم من أننا ساعدنا جبهة التحرير بقيادة عبد القوي المكاوي في فترة من الفترات، ولكننا قد صححنا هذا الموقف واعترفنا بكم فور إنجازكم الاسـتقلال، ومش زعلانين منكم أبداً، مع أن وزير خارجيتكم يشـتم مصر! ويتهمني بأنني برجوازي »، وقال: إنني لم أصدق ذلك إلا عندما سمعته شخصياً من العقيد معمر القذافي الذي نصحه وزير خارجيتكم بعدم تقديم أي مساعدة ليبية الى مصر، بل حذره من مصر، والتفت نحوي وقال: لقد ساعدنا نضالكم في الجنوب ضد الاحتلال البريطاني وساعدنا إخوانكم في صنعاء من أجل الحفاظ على النظام الجمهوري، وساعدنا ثورة الجزائر وحركات التحرر العربية والإفريقية وحتى ليبيا، قدمنا إليهم المدرسين والمهندسين والأطباء والضباط لمساعدتهم، ولم نطلب منهم دولاراً واحداً، وأعترف لك بأن الذي ساعدنا بعد نكسة حزيران رجل قومي اسمه زايد بن سلطان حاكم أبو ظبي، وقد قدم لنا نقداً 5 مليون دولار دعماً لصمودنا ضد إسرائيل وأنا لم أعرفه حتى اليوم، وبلده لا يزال تحت الاحتلال البريطاني. وواصل حديثه عن اتهامه بالبرجوازية وقال: لقد قرأت في الاقتصاد والفلسفة الماركسية أكثر منكم، وقال: لقد أممت قناة السويس وبنيت السد العالي ومصانع الحديد والصلب بحلوان، وأنتم ماذا فعلتم؟ أممتم السينما الصيفية بالمكلا! وضحكنا جميعاً..
وقد حدثني أيضاً عن لقائه مع القاضي الارياني وأنه شكى له من الصعوبات الاقتصادية والمالية والجفاف في اليمن وآثار حرب الملكيين والجمهوريين التي توقفت بعد اللقاء بين الرئيس عبد الناصر والملك فيصل على هامش مؤتمر اللاءات الثلاثة في الخرطوم دعماً للقضية الفلسطينية (لا صلح.. لا تفاوض.. لا اعتراف..)..
تلك الحرب التي تحولت الى حرب استنزاف لكافة الاطراف المحلية والاقليمية والدولية لان البعض كان لا يريد نهاية لها، وكانوا يرددون (اللهم انصر الجمهوريين الى النص، والملكيين الى النص..). وهذا ما يحدث منذ 2015م وحتى اليوم في الحرب التي تحولت الى حرب استنزاف وحصدت أكثر من مئتي ألف وشردت الملايين ودمرت الدولة ومؤسساتها واقتصادها وعملتها وأمنها واستقرارها. ونحن اليوم بحاجة لمثل هذا القرار الشجاع من الحكماء في اليمن والمنطقة لوقف الحرب في اليمن فوراً! ونتمنى للجهود العمانية والاقليمية والدولية أن تكلل بالنجاح لوقف هذه الحرب وإحلال السلام في اليمن والتي لا يستفيد منها الا تجار الموت والسلاح..
رئيس يمني سابق