دور سلاح المقاومة في تحرير الأوطان والشعوب
تواجه مقاومة الاحتلال والاستيطان حربا ضروسا ومميتة، سواء من الاحتلال أو من القوى الانهزامية المرتاحة لانهزاميتها، والمفضلة للاستكانة والهوان، ما دامت المصالح مصونة ومضمونة من الاحتلال والسائرين في ركابه، فلا يهمهم استقلال أو تحرر، والمقاومة الفلسطينية تواجه عدوا ليس مثل باقي الأعداء الذين مروا في التاريخ، فهو الأخطر؛ بعدما تحول الدين اليهودي إلى عقيدة سياسية، وهو المعنى المعتمد للصهيونية منذ مؤتمرها الأول نهاية القرن 19، واستقرت على الاستيطان، والإبادة الجماعية، والتطهير العرقي، والتهجير القسري، وهذا جعلها عقيدة حولت معتنقها؛ اليهودي والمسيحي والمسلم والملحد إلى إرهابي؛ تجرد من كل التزام سياسي وقانوني وأخلاقي، وبها حملوا رخصة للقتل وإزهاق الأرواح وإراقة الدماء وقطف الرؤوس وتخريب الديار وتدمير العمران؛ عقيدة شيطانية أُبتِليت بها «القارة العربية» واستهدفت أرض وشعب فلسطين.
وأخطر أنواع الاحتلال هو «الإحتلال الاستيطاني» وبدا ظهوره في أفريقيا؛ منتصف القرن 17 (عام 1652) مع وصول المستوطنين الهولنديين؛ ممن عُرِفوا بـ«البوير و«الأفريكانز»؛ جلبتهم شركة الهند الشرقية الهولندية، وأقيم لهم كيان مستقل بمنطقة «الكاب» عام 1806، وحل محلهم مستوطنون بريطانيون بعد إستيلائهم علي منطقة «الكاب». ومنها حكموا البلاد، ويؤرَّخ لخروج الهولنديين من «الكاب» بعام 1836، واشتعلت الحرب بين البريطانيين والهولنديين حتى هَزَمت بريطانيا مملكة الزولو في حرب 1880/1881، واندلعت حرب البوير الأولي وحرب البوير الثانية في نهاية القرن 19 وبداية القرن 20 وانتهت بهزيمة البوير، وضمت بريطانيا إليها جمهوريتي الترانسفال وأورانج الحرة عام 1907، وبمنح جمهورية البوير حكمًا ذاتيًا؛ تم قصر حق الانتخاب على العناصر البيضاء. وقد تكَوَّن اتحاد جنوب إفريقيا من الترنسفال ـ الكاب ـ الناتال ـ أورانج. وتم وضع المنطقة المعروفة الآن بـ«ناميبيا» عام 1919؛ تحت الانتداب الجنوب إفريقي. وفي الحرب العالمية الثانية حاربت جنوب إفريقيا ضمن قوات الحلفاء.
وذلك لم يَحُل دون استمرار مقاومة أهل البلاد الأصليين لأولئك المستوطنين؛ من منتصف القرن التاسع عشر حتى تسعينيات القرن العشرين، ونجح المجتمع الدولي في فرض المقاطعة الكاملة على جنوب إفريقيا، وعُزِلت عن العالم، حتى اعتدلت الموازين، وتجاوزت تناقضاتها العرقية والثقافية والقبلية، ودخلت طور الدولة الواحدة، والمواطنة الكاملة، ومارست المواطنة، وحياة الاستقرار والازدهار تحت سقف المواطنة الواحدة، وصار «الفصل العنصري» من الماضي الذي قد لا يعود.
وعرفت «القارة العربية» الاستيطان قبل أكثر من مئة عام من الاستيطان اليهودي؛ في النصف الأول من القرن التاسع عشر، مع الغزو الفرنسي عام 1830، الذي عمل على إلحاق الجزائر بالإمبراطورية الفرنسية، وعمل على طمس التاريخ والهوية والشخصية الجزائرية؛ بمكونها العربي الإسلامي، ولم يكن هناك مفر من الكفاح المسلح، فتكونت جبهة التحرير، وتشكل جيش التحرير الوطني، وتحررت الجزائر من الاستيطان الفرنسي عام 1962، وتحمل الحكم الثوري المصري مسؤوليته التاريخية كاملة، ووقف مع الجزائر بكل ما يملك؛ وفر لها إمكانياته وقدراته ونفوذه، وعشنا الانتصار الجزائري؛ يوما لا ينسى، وكنت طالبا، وفتح ذلك النصر باب الأمل لفلسطين، وبالفعل أعْتُمِدت استراتيجية التعبئة العربية، وبدأت بمبادرة القيادة الثورية المصرية بالدعوة لأول مؤتمر قمة عربية في يناير 1964، وضع الجميع أمام مسؤوليتهم؛ لدعم فلسطين والوقوف مع شعبها.
بعد هبة القدس فُتحت الأفاق مُشرعة على التحرير والعودة وبناء الدولة المستقلة؛ القابلة للحياة وتكتمل الصورة بتناول الضَّعفَين المشدودين لتيارين في مواجهان الهبة المقدسية في واشنطن
وصدرت قرارات المؤتمر وأهمها: 1) قيام إسرائيل خطر أساسي يجب دفعه سياسيا واقتصاديا وإعلاميا.. 2) إنشاء قيادة عربية موحدة لجيوش الدول العربية، يبدأ تشكيلها في كنف الجامعة العربية بالقاهرة.. 3) رداً على ما قامت به إسرائيل من تحويل خطير لمجرى نهر الأردن. تقرر إنشاء «هيئة استغلال مياه نهر الأردن» لها شخصية اعتبارية في إطار جامعة الدول العربية. مهمتها تخطيط وتنسيق وملاحظة المشاريع الخاصة باستغلال مياه نهر الأردن.. 4) إقامة قواعد سليمة لتنظيم الشعب الفلسطيني لتمكينه من تحرير وطنه وتقرير مصيره. وتوكيل أحمد الشقيري أمر تنظيم الشعب الفلسطيني.. 5) يجتمع الملوك والرؤساء العرب مرة في السنة على الأقل، على أن يكون الاجتماع المقبل بالإسكندرية في أغسطس 1964، وتبرعت ليبيا بمبلغ 55 مليون دولار لصالح المجهود الحربي العربي، بينما تبرعت السعودية بمبلغ 40 مليونا، والكويت بمبلغ 15 مليونا.
وعُقِدت القمة الثانية في 5 سبتمبر 1964 بالإسكندرية وأهم قراراتها: 1) خطة العمل العربي الجماعي في تحرير فلسطين عاجلا أو آجلا.. 2) البدء بتنفيذ مشروعات استغلال مياه نهر الأردن، وحمايتها عسكريا.. 3) الترحيب بمنظمة التحرير الفلسطينية، ودعم قرارها بإنشاء جيش التحرير الفلسطيني.. 4) مواجهة القوى المناوئة للعرب في مقدمتها بريطانيا، لاستعمارها بعض المناطق العربية واستغلال ثرواتها. وتقرر مكافحة الاستعمار البريطاني في جنوب شبه جزيرة العرب.. 5) إنشاء مجلس عربي مشترك لاستخدام الطاقة الذرية للأغراض السلمية.. 6) تصفية القواعد الاستعمارية التي تهدد أمن المنطقة العربية وسلامتها، وخاصة في قبرص وعدن.
وكانت فلسطين في مركز إهتمام القادة العرب.. وأين الليلة من البارحة؟ وإذا ما تم تناول تجارب المقاومة، ونماذج ثورات التحرير العالمية، فنجد العالم مليئا بنماذج كثيرة، ونبتت فكرة التضامن الآسيوي، مع مبدأ آسيا للآسيويين،، وتمت تُرجِمته بلقاءات ومؤتمرات؛ كان أبرزها: مؤتمر نغازاكي (1926) والدعوة لقيام جامعة الشعوب الآسيوية؛ وشاركت فيها ماليزيا وكوريا وأفغانستان والفلبين والهند، وبعد الحرب العالمية الثانية انعقد مؤتمر العلاقات الأسيوية بنيودلهي (1947)؛ حضرته دول جنوب شرق آسيا.
ونشطت حركات المقاومة والتحرير اللاتينية من أوائل القرن 19؛ تطالت بتغيير الإدارات الاستعمارية الفاسدة. ولم تكن حركة «الكريول» المكسيكية 1810 ضد الملكية الأسبانية، وطالبت بحكومات رشيدة تحت التاج الأسباني، وثارت فئات أخرى؛ محامين وإداريين وعسكريين ورجال دين، وقاد ثورتهم القس هيدالجو؛ المتأثر بالثورة الفرنسية، والمتّهم بالهرطقة، والمعارض لمحاكم التفتيش. ومحفز الهنود(الحمر) على الثورة، ومُجَيِّش 80 ألف مقاتل لاستعادة أراضي الفلاحين، والمطالب بإلغاء الضرائب الباهظة، والمعتمد على الفلاحين، وامتدت الثورة لتكساس شمالا، ومال الميزان لغير صالح المقاومة، وتفوّق السلاح المعادي، واستخدام المدفعية، والاعتماد على الكنيسة، فأصدرت «قرار الحرمان» ضد هيدالجو وأتباعه. وتم القبض على قادة الثورة، وأعدموا في 31 يوليو 1811م، وسقط هيدالجو صريعا أثناء القتال.
استمرت المقاومة بموريلوس تلميذ هيدالجو، وكان محنكا، وكفؤا عسكريا، وسيطر على جنوب حوض المكسيك (نوفمبر 1813) وألغى الرق، وساوى الأعراق، وأقام الجمهورية، وأتاح لأهل الشمال فرصة انتخاب مجلس تشريعي (كونغرس) وتشكلت حكومة ومحكمة عليا، وجعل الكاثوليكية الدين الرسمي، ونتج عن التفوّق العسكري الإسباني أحتُلال الشمال مجددا، وصُفِّيت إنجازات موريلوس، وأُسِر وأعدم عام 1815م. وبعد سنوات اعترفت اسبانيا باستقلال المكسيك عام 1836، تحت الضغط البريطاني، وعادت الثورة لكاراكاس، وأبرز قادتها؛ سيمون بوليفار والجنرال ميراندا، وفُوِّض بوليفار بحمل المطالب ومفاوضة بريطانيا حولهاـ لكنها تحفّظت.
واستؤنفت معارك تحرير فنزويلا (1813) وخلالها حلت الهزيمة بالمقاومة، وغادر الجمهوريون إلبلاد؛ بوليفار إلى جامايكا، ثم لهايتي، وعاد للوطن في 1816، واستؤنفت المعارك وتوالت الانتصارات على قوات الاحتلال، وأُعلِن استقلال غرناطة الجديدة، وأُقِيمت جمهورية كولومبيا الكبرى؛ بجهود بوليفار وميراندا، اللذين حررا البيرو، وحرّر بوليفار شيلي. وتوفي بمدينة سانتا ماريا عام 1830 عن 47 عاما.
وهكذا دارت معارك الكر والفر بين المقاومة والاحتلالين الأسباني والبرتغالي، واستأنفت الجمهوريات اللاتينية الثورات مجددا في منتصف القرن العشرين، وما زالت مستمرة؛ تواجه الديكتاتورية، وبدأها أرنستو تشي غيفارا، وفيديل كاسترو، واستمرت للآن.
وأوروبا التي استعمرت العالم، وساوت المقاومة بالإرهاب؛ اعتمدت المقاومة المسلحة في التصدي للغزو النازي، ولم تعتمد المفاوضات العبثية، ومن الممكن أن يكون هذا التناول مدخلا لاستخلاص دروس وعبر تنفض غبار الاستسلام والتنازل الطوعي عن الحقوق العربية وفي مقدمتها الحقوق الفلسطينية، ويجب أن يرتكز الحل على المقاومة، وبعد هبة القدس فُتحت الأفاق مُشرعة على التحرير والعودة وبناء الدولة المستقلة؛ القابلة للحياة وتكتمل الصورة بتناول الضَّعفَين المشدودين لتيارين في مواجهان الهبة المقدسية في واشنطن.. أحدهما كان خشنا وما زال، وجاء الآخر ناعما لكنه منحاز!