تاريخ اليهود منذ بدايتهم وحتى تشتتهم- الحلقة الثالثة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صل الله عليه وسلم
وبعد...
الحلقة الثالثة: من [تاريخ اليهود منذ بدايتهم وحتى تشتتهم]
نقد تكلمنا في الحلقة الثانية عن النشأة، والتكوين لبني يهود وحتى وفاة، موسى عليه السلام، وفي هذه الحلقة سيدور اللقاء حول:
[ما بعد موسى عليه السلام وحتى لقائهم بالرومان]
بعد وفاة موسى عليه السلام، استلم الراية، فتاه يوشع بن نون عليه السلام الذي ورد ذكره في قصة موسى مع الخضر مرتين، في قوله: (وإذا قال موسى لفتاه لا أبرح) وفي قوله: (فلما جاوزا قال لفتاه ..) ، كما جاء في تلميح القرآن أيضًا حيث قال
فارتدا على آثارهما ..)، وفي أيضًا: (فوجدا جداراً يريد ...).
وقد ورد ذكره في الصحيح عن ابن عباس وعن أبي ابن كعب في كتاب: أحاديث الأنبياء، باب: حديث الخضر مع موسى عليهما السلام. أن فتى موسى عليه السلام و يوشع بن نون.
ويوشع بن نون متفق على نبوته، وذلك لما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال النبي صل الله عليه وسلم: «غزا نبي من الأنبياء مقال لقومه: لا ينبغي رجل ملك بُضع امرأة وهو يريد أن يبني بها ولم يبق بها، ولا أحد بني بيوتًا ولم يرفع سُقُوفَها، ولا آخر اشترى غنمًا أو خلقات وهو ينتظر ولادها. فغزا، فدنا من القرية صلاة العصر أو قريبًا من ذلك، فقال للشمس: إنك مأمورة وأنا مأمور، اللهم احبسها علينا. فحُبست حتى فتح الله عليهم، فجمع الغنائم، فجاءت – عني النار – لتأكلها فلم تطعمها، فقال: إن فيكم غلولاً، فليُبايعني من كل قبيلة رجل، فلزقت يد رجل بيده، فقال: فيكم الغلول، فليُبايعني قبيلتك، فلزمت يد رجلين أو ثلاثة بيده، فقال: فيكم الغلول، فجاؤوا برأس بقرة من الذهب فوضعوها، فجاءت النار فأكلتها، ثم أحل الله لنا الغنائم، رأى ضعفنا وعجزنا فأجلها لنا».
وجاء في رواية للحاكم في المستدرك، كتاب: قسم الفيء: أن كعب الأحبار قال: النبي يوشع ابن نون، والقرية هي مدينة أريحاء. حيث قال كعب: «صدق الله ورسوله» هكذا والله في كتاب الله – يعني التوراة – ثم قال: يا أبا هريرة، أحدَّثكم النبي صل الله عليه وسلم أي نبي كان؟ قال: لا. قال كعب: هو يوشع بن نون. قال: فحدَّثكم أي قرية هي؟ قال: لا. قال: هي مدينة إريحاء.
لكن جاء الخبر عن النبي صل الله عليه وسلم في مسند أحمد عن أب هريرة رضي الله عنه أنه صل الله عليه وسلم قال: «إن الشمس لم تُحبس على بشر إلا يوشع بن نون ليالي سار إلى بيت المقدس»
ولقد ذكر الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية، عند ذكره لحديث أحمد قال: «وفيه دلالة على أن الذي فتح بيت المقدس هو يشوع بن نون عليه السلام، لا موسى عليه السلام، وأن حبس الشمس كان في فتح بيت المقدس لا أريحا كما زعم أهل الكتاب» أ.هـ
ولقد ورد زعم أهل الكتاب الذي ذكره كعب الأحبار في حديث المستدرك المتقدمة، في أن يوشع فتح أريحا، ورد في أسفار العهد القديم، يشوع (1: 6-6).
ومما يؤكد أن يوشع بن نون عليه السلام هو الذي فتح بيت المقدس، ما ذكره ابن كثير في البداية والنهاية حيث قال: «ولما استقرت يد بني إسرائيل على بيت المقدس، استقروا فيه وبين أظهرهم نبي الله يوشع يحكم بينهم بكتاب الله التوراة، حتى قبضه الله إليه، وهو ابن مائة وسبع وعشرين سنة، فكانت مدة حياته بعد موسى سبعًا وعشرين سنة» إ.هـ
والخلاصة:
أن يوشع بن نون عليه السلام تقلد زماما الأمر في بني إسرائيل، وفي وقته كانت الظروف قد تهيأت له في دخول الأرض المباركةن حيث إن ذلك الجيل الذي تربى علي الذل والعبودية في مصر على يد فرعون وهامان وجنودهما، والذي خذل موسى عليه السلام، وامتنع عن الجهاد في سبيل الله لتحرير أرض الله من أيدي الوثنيين؟ قد انقرض وانتهى في فترة التيه التي كتبها الله عليهم عقابًا لهم. وجاء الله بجيل آخر مسلم مجاهد في سبيل الله، قاده النبي الكريم يوشع بن نون لتحرير أرض المقدس.
وقد ورد في سفر التثنية (31: 7-
، أن موسى عليه السلام عند موته أوصى يوشع بن نون بالصبر والشجاعة في الجهاد حتى يفتح الله على يديه، وورد في سفر يشوع (1: 1-12)، أن يوشع بن نون تلقى الأوامر من الرب لمواصلة الجهاد والدخول في الأرض المقدسة.
والمهم: أن عصر يوشع بن نون عليه السلام عصر الانتصارات لبني إسرائيل، فانطلق عليه السلام ومن معه نحو بالد الشام ودخل الأرض المباركة بفضل من الله تعالى.
هذا برغم ما لحق يوشع بن نون من بني يهود كما لحق أنبياء بين إسرائيل أيضًا، كذب وافتراء وقدح، لكن الغريب أن هناك بعض الباحثين المسلمين وافق صنيع بني يهود، مع علم المسلمين بمكانة الأنبياء. عند الله تعالى، وأنهم أفضل البشر على الإطلاق، وأن الله اصطفاهم دون البشر ليوحي إليهم، فهم قدوة البشر، وأمرنا الله تعالى: أن لا نفرق بين أحد منهم، وأن نتأسى بهم وطاعتهم واجبة، وحذرنا من مخالفتهم، لأن ما يأمرون به من مشكاة واحدة، قال تعالى: (إن الدين عند الله الإسلام) ، وحكم الله تعالى أن من كذب واحد منهم، فقد كذب الرسل جميعًا، كما ذكر الله تعالى حينما كذبت قوم رسولهم قال عنهم الحق تبارك وتعالى: (كذبت عاد المرسلين) هدى الله الجيمع للحق.
وفاة يوشع بن نون النبي الصالح عليه السلام، عبد الرب كما سموه في أسفارهم:-
فقد جاء في أسفارهم يشوع (24: 29-30): أنه مات يوشع بن نون عبد الرب ابن مائة وعشر سنينن فدفنوه في تخم ملكه في تمنة سارح التي وفس جبل أفرايم. يعني نابلس.
وقد ذكر ابن كثير – كما ذكرنا آنفًا- أنه مات بعد موسى عليه السلام بسبع وعشرين سنة, وهو ابن مائة وسبع وعشرين سنة. ولا مشاحة في التاريخ. فالمهم أن يوشع بن نون مات بعد كل هذه الفتوحات والانتصارات التي توحت بدخوله بيت المقدس، الأرض المباركة بفضل الله تعالى.
اليهود في فلسطين:
يجب أن يعلم المسلمين والمؤمنين بالله ربًا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيًا ورسولاًن أن التمكين والاستخلاف في الأرض لم ولن يكون إلا لعباد الله في الأرض، لأنه بمثابة التكريم والتفضيل لهم من الله تعالى، فقد قال الله تعالى: (ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون) وقال تعالى: (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض).
فأساس التمكين والتكريم والتفضيل عند الله هو الإيمان والعمل الصالح، قال تعالى: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم..)
وعلى هذا فقد مكن الله تعلى لبني إسرائيل في الأرض المباركة، وهذا التمكين لم يكن لأنهم أبناء إسرائيل عليه السلام (يعقوب نبي الله الكريم)، كما يزعمون، فالله سبحانه وتعالى لا يتفضل على أحد من أجل حسبه ونسبه أو شكله أو لونه، إنما تفضل الله عليهم ومكن لهم لأنهم كان أصح الناس في زمانهم، وكانوا أهل توحيد وعبادة لله تعالى وسط أقوام وقبائل من المشركين الكافرين، ولقد حققوا الهداية المطلوبة منهم كما حكى الحق تبارك وتعالى في وصاياه جل شأنه لهم في قوله: (وآتينا موسى الكتاب وجعلناه هدى لبني إسرائيل).
فمن سنة الله تعالى في الأرض أن ينصر المؤمنين الصادقين – حال كونهم كذلك- على أعدائهم الكافرين. فإن رأيت أهل الإيمان ممكنًا لهم في أرض الله، فاعلم أن هذا بسبب إيمانهم وتقواهم لله رب العالمين، وإن رأيتهم غير ذلك؟ فاعلم أن هذا بسبب بُعدهم عن صراط الله المستقيم، قال تعالى حاكيًا على لسان موسى أنه قد قرر هذه القاعدة من قبل حيث قال
قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين).
فأصبح بنو إسرائيل مؤهلين للإقامة في الأرض المباركة، لأنهم إلى ذلك الوقت مازالوا في طاعة الله تعالى. وعلى ما قرره المولى تعالى في سننه الكونية أنه ما من دعوة إلا وترتفع وترتفع حتى تصل إلى ذروتها ثم يستقيم الحال معها على خط واحد ثم يبدأ في الغمور فينزل المنحنى لتلك الدعوة إلى أسفل حتى يرجع الحال إلى بدايته من كفر وشرك وما شاكل، فبعث الله رسولاً جديدًا وكذلك ينبئ لنبي آخر، وهكذا سنة الله تعالى في الأرض.
وعلى هذا فقد بدأ بنو يهود بعض التجاوزات والسقطات حتى سرى فيهم الكفر والشرك والبعد عن صراط الله المستقيم من قتل وتكذيب الأنبياء، وفعل المعاصي صغيرة وكبيرة.
فكتب الله عليهم الطرد عن الأرض المباركة، ونكل بهم أعداؤهم من المؤمنين، وحصل لهم السبي والمهانة والمذلة – أكثر أو مشابه لما كانوا عليه في مصر على يد الفراعنة- وهذا ما يُسمى في التاريخ بالعهد البابلي لليهود.
تاريخ بني إسرائيل من بعد يوشع بن نون عليه السالم إلى العهد البابلي:
فقد مر تاريخ اليهود في هذه الفترة التى كانت من (1153ق.م) وهو تاريخ وفاة يوشع بن نون عليه السلام، إلى (586ق.م) وهو العام الذي سقطت فيه مملكة يهوذا على يد البابلين. وقيل من (1125ق.م) إلى (586ق.م)، وقيل من (1130ق.م) إلى (538ق.م)، الخالصة أن تاريخ من بعد نبي الله تعالى يوشع بن نون عليه السلام إلى العهد البابلي، قد مر بمراحل ثلاث استمرت هذه المراحل في بعض الآراء قرابة القرنين، أو على حسب نصوص سفر القضاة من العهد القديم استمرت قرابة، أربعة قرون، وقيل استمرت حوالي قرن كامل بين 1125 و 1025 ق.م.
وهذه المراحل هي:
المرحلة الأولى: عهد القضاة.
المرحلة الثانية: عهد الملوك الأول.
المرحلة الثالثة: عهد التدهور والانقسام. والذي أدى إلى زوال ملك بني إسرائيل من فلسطين، ويسمى عهد الملك الثاني.
ما هي هذه المراحل الثلاثة؟ ولماذا سميت بهذه الأسماء؟ ومن هم القضاة الذي سميت المرحلة الأولى بهم؟ ومن هم ملوك العهد الأول والثاني؟ وما الفرق بين العهدين؟ ولماذا كان التدهور والانقسام في العهد الثاني؟ ولماذا لم يكن في الأول؟
الحلـقـة الرابعة
(تاريخ اليهود من النشأة إلى تشتتهم على أيدي الرومان)
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ـ صل الله عليه وسلم ـ
وقفنا في الحلقة الماضية عند استقرار بني اسرائيل في أرض الشام ، وبينا كيف أن الله ـ تعالى ـ مكن لبني يهود في أرض فلسطين وذلك إثر التمكين الذي كان لنبي الله يوشع بن نون ـ عليه السلام ـ ، وعلى إثر بنو اسرائيل مؤهلين للإقامة في الأرض المباركة ؛ لأنهم على طاعة الله ـ تعالى ـ ، وإن كانت هناك بعض السقطات والتجاوزات التي لما زادت ووصلت إلى حد الشرك والكفر والبعد عن صراط الله القويم ، مثل القتل وتكذيب الأنبياء ، كتب الله ـ سبحانه ـ عليهم الطرد من الأرض من الأرض المباركة ، ونكل بهم أعداؤهم من الوثنيين ، وحصل لهم السبي والمهانة.
وعلى هذا فتاريخ بني اسرائيل من بعد سوشع بن نون ـ عليه السلام ـ إلى السبي البابلي مر بمراحل ثلاث ، وهي:
المرحلة الأولى : عهد القضاة.
المرحلة الثانية : عهد الملوك الأول.
المرحلة الثالثة : عهد الملوك الثاني.
وسنذكر طرفا من كل مرحلة يقف من خلاله القارئ الكريم على هذه المراحل الثلاث حتى يكون معنا في هذه الرحلة التي تدور حول تاريخ اليهود من النشأة إلى عهد التشتت فنقول وبالله التوفيق....
المرحلة الأولى : عهد القضاة
هذه المرحلة هي أول الفترات التي كانت في تاريخ بني إسرائيل بعد وفاة نبي الله يوشع بن نون ـ عليه السلام ـ، وقيل إنها استمرت قرنين من الزمان في بعض آراء لبعض المؤرخين ، وقيل أربعة قرون وقيل قرن واحد.
اتسمت هذه الفترة باسم دل على مسماه ، وهو: عهد القضاة . والقضاة هم عبارة عن زعماء وقادة وشيوخ عشائر ورجال حرب ينتخبهم كبار الشعب حكاما لبني اسرائيل إذا ألمت بهم الأخطار ، حيث إنهم لم يكن لهم ملوك في تلك الأيام تدير شئون البلاد والعباد، بل كان كل إنسان يفعل مايراه هو حقا ، ولم يكونوا خلفاء بعضهم لبعض ، فقد يكون هناك أكثر من واحد في وقت واحد.
وقد جاء في الرواية اليهودية في سفر القضاة(2:16)حكاية عن هذه السمة التي اتسم بها هذا العهد وهذه الفترة ، حيث قالت الرواية : " وأقام الرب قضاة فخلصوهم من يدي ناهبيهم "
وقد وردت أسماء هؤلاء القضاة في سفر القضاة (1:21)،وسفر صموئيل الأول (1:18) واسمهم في العبرية : شوفطيم (شوفيط) ، وعددهم : سبعة عشر ، وقيل : ستة عشر ، وقيل : خمسة عشر ،وقيل : أربعة عشر ، وقيل : اثنا عشر قاضيا ، وقيل إن سبب الاختلاف في عددهم أنه قد يكون في وقت واحد أكثر من قاض واحد في بني إسرائيل . وهم ( أي أسمائهم):
(عثنيئيل بن فاز) وهو من سبط يهوذا ، (إهود بن جبرا) من سبط بنيامين ، (شجحر ابن عباة)،(دبورة)من سبط أفرائيم ،ومعها بارق بن ابينوعم ، (جدعون بن يواش الأبيعزري) من سبط منسي بن يوسف ، (أبيما لك بن جدعون)(ابن يد بعل)،(تولع بن فواة بن دودو) من سبط يساكر ،(يائير الجلعادي)،(يفتاح الجلعادي)، (إبصان البيتلحمي)،(أيلون الزبولوني)من سبط زبولون،(عبدون بن هليل الفرعتوني)،(شمشون بن منوح الداني)،(عاي الكاهن)،(صوئيل بن القانة)،(بوئيل بن صموئيل)،(ابيا بن صموئيل).
وعند قراءة سفر القضاة في الكتاب المقدس ستجد أنه يعرض لسيرتهم وأحوالهم ، وماأصابهم من النكبات ، وضعف فيه حكم بني إسرائيل على الأرض المقدسة ؛مما جعلهم في معارك دائمة ضد الوثنيين من أهل فلسطين ،وأنهم امتزجوا امتزاجا عظيما بهم.
ويبين السفر أيضا أن هذا العهد من أسوأ عهود بني إسرائيل ، ففيه انتشرت بينهم شتى الرذائل والمنكرات ، حتى إن بعضهم عبد الأصنام ، وقتل الصالحين ، وانتشر فيهم الزنا وغيره من الذنوب .
والقاضي صموئيل الأخير هذا المعروف بـ
صموئيل بن الغانة) نبي من أنبياء بني إسرائيل ؛ لإشارة القرآن الكريم إليه بذلك دون أن يذكر اسمه عند عرض القرآن لقصة طالوت حيث قال في البقرة:
" أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246) وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247) وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آَيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آَلُ مُوسَى وَآَلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248) فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249) وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251) تِلْكَ آَيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252) "
وهذا كما رجح ابن كثير عند ذكره لهذه القصة في البداية والنهاية.
وكان هذا النبي الصالح (صموئيل بن قانة) آخر قضاة بني إسرائيل في هذه المرحلة المسماة بـ:عهد القضاة فأصلح ماأمكن إصلاحه من فساد بني إسرائيل ، الذي استشرى بينهم وعظم أمره ، فأوهم هذا النبي الرجوع إلى الرب وترك عبادة الأصنام ، كما ذكر سفر صموئيل الأول في الفصلين الثاني والسابع.
وفي هذه الفترة أيضا تعرض بنو إسرائيل لحرب الوثنيين من أصل فلسطين . ولعل هذا هو السبب في طلب بني إسرائيل من صموئيل النبي الصالح أن يدعوا الله لهم يرسل لهم ملكا يقودهم للجهاد في سبيل الله ـ تعالى ـ . كما ذكرت الأيات السابقة.
ومن هنا في هذه الأثناء بدأت مرحلة تاريخية أخرى من تاريخ بني إسرائيل في فلسطين ، وهي التي سماها المؤرخون : (مرحلة عهد الملوك الأول) ، وهي الرحلة الثانية التي وعدنا أن نتحدث عنها ضمن ثلاث مراحل في هذه الفترة مرت بني إسرائيل.
المرحلة الثانية : عهد الملوك الأول
قد اختلف المؤرخون في تحديد هذه الفترة أيضا كسابقتها ، فمنهم من قال : إنها من سنة 1095 ق.م إلى سنة 975 ق.م ، ومنهم من قال : إنها من سنى 1020 ق.م إلى سنة 922 ق.م ، ومنهم من قال : إنها من سنة 1030 ق.م إلى سنة 930 ق.م .
لكنهم اتفقوا أن هذه المرحلة ، قويت فيها بنو إسرائيل ، تولى عليهم الملك طالوت ، النبيان الكريمان داوود وابنه ـ عليهما السلام ـ .
وهذه الفترة تأكيد لسنة كونية في الأرض ، فلما انصاع بنو إسرائيل لأمر نبي الله صموئيل ، وتركوا الفساد الذي عم وطم في البلاد ، كان تمكين الله ـ تعالى ـ لهم مرة أخرى ؛ لإن ذلك شبيه بمعادلة ربانيه : تقوى الله وطاعته سبب في تمكين المتقين الطاعين في الأرض. وكانت إذا مكن الله ـ تعالى ـ في هذه الفترة لنبي إسرائيل كما مكن لهم في عهد يوشع بن نون ـ عليه السلام ـ .
وتتلخص هذه الفترة بحسب الملوك الذين تولوا ملك بني إسرائيل ، وهم ثلاثة :
الأول : الملك طالوت .
الثاني : الملك نبي الله داوود ـ عليه السلام ـ .
الثالث : الملك نبي الله سليمان ـ عليه السلام ـ .
فالعهد الأول : عهد الملك طالوت
خلال حكمه قاد بني إسرائيل إلى كثير من المعارك ضد أعدائهم ، وكان من أبرز الحوادث في زمنه حربه ضد الوثنيين من أهل فلسطين بقيادة جالوت ، الذي ذكر اسمه الكتاب المقدس وذكر طرفا من خبر المعركة بين طالوت وجالوت على حسب الرواية اليهودية التي جاءت في سفر صموئيل الأول الفصل السابع عشر ، إذ سمته الرواية بـ: جليات . وفي هذه المعركة كان داوود ـ عليه السلام ـ من ضمن جنود طالوت ، فتولى بنفسه ـ عليه السلام ـ قتل جالوت ، نجمة في بني إسرائيل ، وآتاه الله الملك والحكمة ، كما أشار إلى ذلك القرآن الكريم مع إشارة للمعركة في الآيات السابقة الذكر من سورة البقرة (246:252).
أما العهد الثاني : عهد النبي داوود ـ عليه السلام ـ
وداوود ـ عليه السلام ـ هو : داوود بن يشار بن عويد بن عابر بن سلمون بن نحشون بن عود يناذب بن أرم بن حصرون بن فارص بن يهوذا بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل ـ عليه السلام ـ ، تولى حكم بني إسرائيل بعد طالوت ، وقد آتاه الله الملك والحكمة بعد قتله لجالوت ، فملأ أعين الناس وقلوبهم ، فضلا من الله ونعمة.
وكان داوود ـ عليه السلام ـ نبيا كريما ، وخليفة صالحا ، وملكا عادلا . وفي عهده قامت في فلسطين مملكة إسلامية رشيدة ، حيث قال ـ تعالى ـ:
"يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26)" (ص)
ويعتبر عهده ـ عليه السلام ـ العهد الأقوى إذا ما ضم إلى عهد ابنه سليمان ـ عليهما السلام ـ في تاريخ بني إسرائيل . فقد قيل إن مملكته قد بلغت أقصى اتساع لما تملكه بنو إسرائيل ، فامتدت من جبل الكرمل وتل القاضي إلى جبل الشيخ شمالا ، وإلى حدود مصر ونهر الموجب جنوبا ، وإلى الصحراء شرقا .
وبهذا يكون المولى ـ تبارك وتعالى ـ قد حقق الوعد الراني الذي ذكره في سورة النور:
"وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55)"
حقق وعده لداوود ـ عليه السلام ـ وهيأ له سبل هذا التمكين ؛ فقال ـ تعالى ـ :
" وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ (80)" (الأنبياء)
أي : علمه صنعة الدروع ، وإن كانت قبله صفائح ، وداوود ـ عليه السلام ـ أول من سردها حلقا لتحصنهم في القتال . وقوى ملكه وجعله منصورا على أعدائه مهابا قال تعالى واصفا ذلك :
"وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآَتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ (20)" ( ص )
أي : جعلنا له ملكا كاملا من جميع ما يحتاج إلى الملوك ، وقد نقل ابن كثير في تفسيره لهذه الآية عن مجاهد قوله : كان أشد أهل الدنيا سلطانا .
فأما العهد الثالث والأخير
عهد النبي سليمان ـ عليه السلام ـ ....
وكان هذا في القرن العاشر قبل الميلاد ، واستمر حكمه أربعين سنة مثل أبيه ـ عليه السلام ـ ، فقد ورد في الرواية اليهودية في سفر الملوك الأول ( 30:1ـ39 ) ، (2: 1-4)أن داوود ـ عليه السلام ـ أوصى بالملك من بعده لابنه سليمان ـ عليه السلام ـ ، وأوصاه بتقوى الله ـ تعالى ـ ولزوم شريعته وتطبيقاتها فظهر حب سليمان ـ عليه السلام ـ للجهاد وفتح البلدان وأشارت السنة النبوية لهذا الأمر في بحث سليمان عن تكثير النسل الذي هو وقود الحرب ، وعلى أكتافهم تقوم الأمم والحضارات .
فق أخرج البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله ـ صل الله عليه وسلم ـ : ( قال سليمان :لأطوفن الليلة على تسعين امرأة كلهن تأتي بفارس يجاهد في سبيل الله . فقال له صاحبه : قل إن شاء الله ...............)الحديث
وقد بوب البخاري لهذا الحديث في كتاب الجهاد. باب : من طلب الولد للجهاد.
ومن مظاهر رقي بني إسرائيل في عهد سليمان ـ عليه السلام ـ في النواحي العمرانية ، تجديده ـ عليه السلام ـ لبيت المقدس.
فقد أخرج أحمد والحاكم والنسائي عن عبدالله بن عمرو بن العاص ـ رضي الله عنهما ـ عن النبي ـ صل الله عليه وسلم ـ قال : ( لما فرغ سليمان بن داوود من بناء بيت المقدس سأل الله ثلاثا : حكما يصادف حكمه ، وملكا لاينبغي لأحد من بعده ، وألا يأتي هذا المسجد أحد يريد الصلاة فيه إلا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه . فقال النبي ـ صل الله عليه وسلم ـ : أما اثنتان فقد أعطيهما ، وأرجو أن يكون قد أعطي الثالثة)
وقد يكون بيت المقدس هو الذي يسميه اليهود ( بيت الرب ) ،وهو ( هيكل سليمان ) عندهم ، على حسب ماورد في سفر ملوك ثالث (5:3،5) (8:20)(9:3)وبل شهدت الأسفار القديمة لبني يهود بأن سليمان بناه بعلة : ( فيأتي ويصلي في هذا البيت ) ، كما جاء في سفر ملوك ثالث (8:42 )بل وضح الفصل الثامن من هذا السفر أن سليمان بنى هذا البيت لعبادة الله ـ عزوجل ـ وحده لاشريك له .
فلو فرضنا جدلا أن هذا البيت هو الهيكل المزعوم ، فليس صحيحا ـ كما زعم اليهود ـ لليهود باعتبارهم يهود ، ـ ولم يبنه ـ عليه السلام ـ لهدف عنصري أو طائفي أو قومي ولا ليخلد مجد اليهود لأنهم شعب الله المختار . بل يكون سليمان قد بنى هذا الهيكل ـ إن صح الزعم ـ لعبدة الله عز وجل وطاعته وتقواه على حسب السبب الذي ذكر في بناء هذا البيت في أسفارهم القديمة.
والخلاصة....
أن في عهد داوود وابنه ـ عليهما السلام ـ قويت بني إسرائيل ومكنت في الأرض أيما تمكين بسبب تطبيق تعاليم النبوة الموحاة من قبل الله تعالى ، وطاعة الله تعالى وتقواه . فكان ذلك كله سبب في علو قوة دولة بني إسرائيل وبعدهم عن الضعف الأول بعدا بعيدا.
ولم يلبس الأمر أن انقلب على عقبيه ، وجاء دور السنة الكونية التي قررناها آنفا ، فبعدا عن طريق الله تعالى الذي رسماه داوود وابنه سليمان ـ عليهما السلام ـ فبدأ المنحدر معهم يبدأ في ملكهم ومملكتهم ، وكان ذلك كله في المرحلة الثالثة والأخيرة التي سماها المؤرخون بـ : عهد التدهور والانقسام أو عهد الملوك الثاني .
ماذا حدث في هذه المرحلة؟ وكيف انقسموا؟ وإلى أي أمر آل بهم الحال؟