بداية الوجود الصهيوني في فلسطين
أي نظام لكي يوجد ويستمر لا بد له من ثلاثة عوامل وهم: الفكر والمال والسلاح. ومن الطبيعي أن أهم تلك العوامل وأعلاها أولوية هو الفكر؛ لأنه يحدد لك هويتك والتي من أجلها ستنفق المال وتدافع عنها بالسلاح. وكذلك تمامًا اعتمد الكيان اليهودي في تكوينه واستيطانه في فلسطين حيث مر بالثلاثة عوامل.
التكوين الفكري
الفكر هو صاحب الأولوية الأعلى بين العوامل الثلاث لأنه أساس التكوين، والصورة الخارجية التي من خلالها سنتعامل مع الأحداث، كما أنه الجذور العميقة التي نركن إليها وقت الاختلاف، وهو المرجع الذي نلجأ إليه حين يستعصي علينا تفسير السلوك.
وبالنسبة لنا كان السلوك اليهودي غريبًا في سطوته على أرضٍ ليست له، كما أنها أرض ملك لشعب يقطنها، ومقدسة لأمة كانت تحت خلافة واحدة حين سطوته. فما تلك العوامل التكوينية التي دفعت شعبًا مضطهدًا في أوروبا للتفكير في مثل تلك القفزة؟!
القومية اليهودية “كل يهود العالم شعب واحد”
قومية اليهود ونظرتهم أن اليهود في كل العالم شعب واحد دفعتهم إلى ضرورة التشبث بأي فرصة تتيح لهم وطنًا يجمعهم أو جماعة تضمهم، وهو ما حدث عندما بدأوا الحديث عن الحركة الصهيونية والتي ظهرت على يد “ناثان بين باوم” واشتقوا هذا الاسم من أحد تلال القدس والتي يطلق عليها “صهيون”.
ولكن طرح فكرة كيان يضم اليهود في فلسطين ظهر لأول مرة عام 1798 بدعوة “نابليون” اليهود للعودة إلى فلسطين باعتبارها وطن قومي لهم مقابل تمويل الحملة الفرنسية على مصر، كما ذكر:
1- الدكتور أمين عيد محمود: “أن الوعد الفرنسي بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين كان مقابل تقديم الممولين اليهود قروضًا مالية للحكومة الفرنسية التي كانت تمر آنذاك بضائقة مالية خانقة، والمساهمة في تمويل الحملة الفرنسية المتجهة صوب الشرق بقيادة بونابرت”.
2- ايلي ليفي أبو عسل: بقوله: “كانت فكرة إعادة اليهود إلى فلسطين في طليعة المرامي والمشاريع الاجتماعية السامية التي كانت تجول في مخيلة نابليون الوقادة ويطمع في تحقيقها حيال المسألة الشرقية عندما شرع في تجهيز حملته لغزو مصر والشام”.
وبعد أربعين عامًا أعادت بريطانيا الفكرة للوجود من جديد ولكن هذه المرة على لسان “أنتوني أشلي كوبر-لورد شافتسبري السابع-“. الغريب هنا ليس عودة نفس الفكرة بعد أربعين عامًا بقدر عودة الفكرة من بريطانيا، فكيف لتلك المملكة المسيحية التي يثبت عندها في معتقدها الديني -كذبًا- أن اليهود هم من صلبوا المسيح عليه السلام أن ينادوا بحق لهؤلاء اليهود فضلًا عن وطن على أرض هي مقصد الحجاج المسيحيين؟
الأمر حقًا غريب، لكن إذا تتبعناه بنظرة فاحصة سيظهر لنا أثر العامل الثاني في التكوين الفكري لليهود والذي دفعهم لاستغلال أشباه الفرص لتحقيق غايتهم الكبرى، ألا وهو:
اعتقادهم الثابت بأن فلسطين أرض الميعاد
مارتن لوثر راهب ألماني، وقسيس، وأستاذ للاهوت، ومُطلق عصر الإصلاح في أوروبا، بعد اعتراضه على صكوك الغفران.
استغل اليهود وجود مذهب جديد داخل بريطانيا ينازع السيطرة الكاثوليكية ولكن هذه المرة ليس من أجل المناداة بوطن فقط ولكن بالمناداة بوطن على أرض فلسطين.
فبعد إرسال “مارتن لوثر” رسالة إلى البابا “ليو العاشر” في روما سنة 1520 باعتبار الكنيسة الكاثوليكية تُستخدم لأغراض شخصية. اتهمت الكنيسة لوثر بالهرطقة والتي كانت عقوبتها الحرق أمام الملأ، فما كان من لوثر إلا الاعتماد على ذوي النفوذ من اليهود في أوروبا لمساعدته على نشر مذهبه الجديد والذي أضاف له كتابه “عيسى ولد يهودي” والذي استدر به عطف اليهود حيث كتب فيه:
أن اليهود هم أبناء الله وإن المسيحيين هم الغرباء الذين عليهم أن يرضوا بأن يكونوا كالكلاب التي تأكل ما يسقط من فتات من مائدة الأسياد.
كان لوثر يريد فقط تأييدًا لمذهبه الجديد، لكن اليهود لن يقدموا المساعدات فقط من أجل الحقد على الكاثوليك، فاستغلوا ذلك المذهب للمناداة بتعيين وطن قومي لليهود على الأراضي الفلسطينية، وتنفيذًا لذلك العهد قام “بلاك ستون” بجمع 413 توقيعًا من شخصيات مسيحية ويهودية مرموقة لمنح فلسطين لليهود. ولقد أدرك لوثر خطأ استعانته باليهود في آخر أيامه فكتب “اليهود وأكاذيبهم”.
تابعت بريطانيا مسانداتها لليهود، ففي عام 1840 كتب وزير خارجية بريطانيا إلى سفيره في إسطنبول لإقناع السلطان أن الوقت قد حان لهجرة اليهود إلى فلسطين ولكن السلطان لم يوافق.
ومع إحساس الجميع بقرب قيام حرب عالمية اتجه تفكير الدول الإمبريالية الكبرى في حماية نفسها أو الاستعداد للحرب، فبدأ نجم فكرة المستعمرة اليهودية يخفت، فقام “هيربرت صموئيل” -أول يهودي يصل إلى منصب وزير بريطاني- بتقديم وثيقة إلى مجلس الوزراء البريطاني بعنوان “مستقبل فلسطين” كتب فيها:
الوقت الحاضر ليس مناسبًا لإنشاء دولة يهودية مستقلة، لذا يجب أن توضع فلسطين بعد الحرب تحت السيطرة البريطانية؛ لتعطي تسهيلات للمنظمات اليهودية لشراء الأراضي وإقامة المستعمرات وتنظيم الهجرة، وعلينا أن نزرع بين المحمديين ثلاث إلى أربعة ملايين يهودي أوروبي.
وأخذًا بتلك التوصية وضعت فلسطين تحت السيادة البريطانية عند تقسيم سوريا الكبرى بين فرنسا وبريطانيا تبعًا لاتفاقية تقسيم العار المسماة “سايكس بيكو“. وتكملة لتلك اللعبة بعث بلفور -وزير خارجية بريطانيا- رسالة في منتهى الاحتقار إلى “اللورد ليونيل ولتر روتشيلد” يخبره فيها أن بريطانيا تكرمت عليهم ومنحتهم وعدًا بدولة يهودية على الأراضي الفلسطينية.
صيغة تلك الرسالة لم تكن تتماشى مع مبدأ الاصطفاء الذي سيطر على عقول اليهود، ولكنهم قبلوها لأنها تحقق لهم غاية ظلوا طويلًا يحلمون بها ويعملون عليها.
شعب الله المختار
تربى اليهود على أنهم شعب الله المختار، وادعوا كذبًا أنهم أبناء الله وأحباؤه؛ فخرجوا يعلنون أنهم صفوة الخلق، وأن هويتهم يجب أن تسود أيًا كان ما يمثلها، فرفعوا أعلامهم على المستوطنات في فلسطين منذ عام 1885 أيام كانت فلسطين تحت الحكم العثماني، وفي عام 1911 تظاهر اليهود للمطالبة بالاعتراف باللغة العبرية في ظل الدولة العثمانية.
إسرائيل الكبرى من الفرات إلى النيل
دولة اسرائيل الكبرى.
داعب هذا الحلم طويلًا مخيلة بني صهيون فأخذوا يعدون العدة له منذ بداية تفكيرهم في إنشاء وطن خاص بهم؛ ويعتبر كتاب “تيودور هيرتزل” والذي نشره تحت اسم “الدولة اليهودية” هو أولى الخطوات في طريق التخطيط الواضح لليهود وظهورهم من خلف الستار، حيث عقدوا مؤتمر “بال” في سويسرا عام 1897 وأعلنوا في خطاب افتتاحه أنهم يضعون حجر الأساس في بناء البيت الذي سوف يأوي الأمة اليهودية.
تابع اليهود تنفيذ خطواتهم بنجاح، فبعثوا أول وفد لاستكشاف طبيعة الأرض الفلسطينية، ولكن ذلك الوفد لم يكن من علماء الجغرافيا مثلًا أو الجيولوجيا، فلقد كان يتكون من اثنين من علماء الدين اليهودي في صحبة عالم النفس “ماكس نوردو” وكان رد الوفد بعد زيارة فلسطين: “العروس جميلة جدًا ومستوفية لجميع الشروط ولكنها متزوجة فعلًا”. أي أنها ليست أرض بلا شعب كما ذكر هيرتزل.
أراد اليهود إفساد هذه العلاقة بين الأرض الفلسطينية والشعب فأخذوا في شراء الأراضي التي لم تكن بالطبع ملكًا لعامة الشعب؛ ففي الحقيقة كانت الأرض ملكًا لكبار العائلات، فلقد بلغ مجموع ما تملكه 144 عائلة 3.1 مليون دونم -الدونم ربع فدان-، ومجموع ما تملكه 250 عائلة مساويًا لما يملكه جميع الفلاحين.
ففي عام 1910 كانت الصفعة الكبرى للفلسطينيين شراء اليهود أرض “مرج ابن عامر” والتي تبلغ مساحتها “351 كم”، وكانت الأرض ملكًا لعائلة “سُرسق” اللبنانية والمقيمة في أوروبا والتي قد اشترت الأرض من الضباط العثمانيين. لم يقف الأمر عند هذا الحد، فلقد تضمن الاتفاق إخراج الفلاحين من الأرض.
وبهذه الخطة حقق اليهود ثلاثة مكاسب:
شراء قطعة كبيرة من الأرض الفلسطينية “تهويد الأرض”.
تحجيم المساحات التي يقطنها الفلسطينيون.
أصبحت هناك حجة لتهجير اليهود إلى فلسطين للعمل بالأرض هناك “العمل العبري”.
وتعليقًا على هذا الحدث علق المحامي “واكيم واكيم”: “إذا كانت النكبة تعني ترحيل الإنسان الفلسطيني من أرضه والاستيلاء على أرضه.. فحقيقة النكبة بدأت قبل عشرات السنين قبل 48”.
الحماية الاقتصادية
عائلة روتشيلد: ، عائلة يهودية ألمانية غنية جداً، لدرجة أنها تُقرِض الدول الأموال والذهب مما يجعل لها هيمنة على تلك الدول وعلى سياساتها وقراراتها.
الغطاء الاقتصادي لأي دولة ناشئة هو ضمان لعدم وجود سيطرة خارجية على شعبها؛ لذلك لم يعتمد الاقتصاد اليهودي على عامل واحد فقط بل على عوامل عدة، كما أن أحد تلك العوامل لا يخضع إلا لسيطرة اليهود فقط:
1- اعتمد اليهود في بداية ظهور فكرتهم على التمويل الذاتي المتمثل في كبار الأثرياء الصهاينة وخاصة عائلة “روتشيلد”.
2- بعد ذلك عمدوا إلى قيام نظام اقتصادي كامل يعتمد بالأساس على اليهود وليس لأحد حق التحكم فيه، فقاموا بصهينة العمل بإنشاء “الهستدروت” لتلافي إضراب العمال الفلسطينيين كما حدث في 1936، وكان شعارهم “أرض يهودية -عمل يهودي- منتج يهودي” وبالتالي لم تحدث انتفاضة سبتمبر 1987 أي تأثير على العمل في إسرائيل.
3-المعونة الأمريكية: فاليهود هم الخيار الأفضل لدى أمريكا في الشرق الأوسط؛ لأنهم الدولة الوحيدة التي لا يمانع شعبها السياسات الأمريكية، كما أنها الذراع الأمريكي الذي ينفذ ما تعجز أمريكا عن تنفيذه أمام الملأ. وهذا الدور يعلمه اليهود جيدًا كما ذكرت “هآرتس” الإسرائيلية في عام 1951:
“إسرائيل معنية بأن تصبح كلب حراسة. ما من خوف من أن إسرائيل سوف تنتهج أي سياسة عدوانية تجاه الدول العربية عندما تعارض رغبات الولايات المتحدة وبريطانيا بشكل صريح. ولكن إذا فضل الغرب لسبب أو آخر أن يغلق عينيه، فيمكنه الاطمئنان إلى أن إسرائيل سوف تعاقب بقسوة الدول المجاورة التي تتجاوز الحدود المسموح بها في التعامل مع الغرب”.
4- اعتمد الصهاينة في استيطان فلسطين على إنشاء قرى زراعية كاملة بمساكن للفلاحين، واعتمد تمويل هذه القرى على تبرعات الأثرياء -كما ذكرنا- إلى أن تم تأسيس الصندوق اليهودي لاستيطان فلسطين لشراء الأراضي أو وضع اليد عليها، وبهذا تحقق لليهود أول منظومة اقتصادية كاملة.
السلاح (القوة)
عصابة الهاجاناه السرية اليهودية.
القوة بالنسبة للنظم تشتمل على جانبين: قوة داخلية، وأخرى خارجية. في البداية لم يكن الكيان اليهودي يحكم سوى اليهود، لذلك لم يكن بحاجة إلى القوة الداخلية؛ فاليهود داخل الكيان يُعتبروا أكثر الشعوب اتساقًا مع حكومتهم.
أما بالنسبة للقوة الخارجية فيوجد العديد من المحاور:
اليهود متواجدون بأرض ليست لهم.
طردوا أصحاب الأرض الأصليين.
ليس لهم أي حاضنة شعبية.
الفلسطينييون ليسوا ممن يتركون أرضهم بدون مقاومة.
ولذلك دأب اليهود على تكوين منظمات مسلحة لحماية القرى الزراعية التي أقاموها ومن هذه المنظمات:
1- مقاتلو مستعمرة داجانيا. 2- منظمة الهاشومير. 3- الكتائب (38-39-40) حملة بنادق ملكية. 4- هارشون ليهودا. 5- منظمة الهاجاناه. 6- الشرطة الإضافية اليهودية الخاصة “نوتريم”. 7- المفارز الليلية الخاصة. 8- الهاجاناه السرية. 9- البالماخ. 10- الأرجون. 11- شتيرن. 12- البيتار.
هذه المنظمات لم تكن مسالمة وفقط تقوم برد العدوان، بل كانت منظمات إرهابية هدفها جمع الأرض بالمال أو بوضع اليد وتهجير أصحاب الأراضي. ثم أصبحت بعض هذه المنظمات -التي لم تحل- نواة للجيش الإسرائيلي.
ذلك الجيش الذي يسقي أهلنا في فلسطين الويلات، ويزعم أن الأرض له وأنه صاحب حق، وفي الحقيقة ما هو إلا مستعمر أراد بناء كيان وفق قواعد تكوين النظم “الفكر -المال- السلاح” لكنه لم يكن يملك إلا فكرًا خبيثًا متعاليًا، ومالًا اشترى به ما لا يحق بيعه ولا يحق له شراءه، وسلاحًا حقق به مقصده وصوَّبه تجاه العزل.
خطوات اليهود في استعمار الأرض وفقًا لتاريخها الزمني
1798 دعوة نابليون اليهود للعودة إلى فلسطين.
1838 أعادت بريطانيا الفكرة على يد أنتوني أشلي كوبر -لورد شافتسبري السابع-.
1840 السفير البريطاني يحاول إقناع الخليفة في إسطنبول بالفكرة.
1885 رفع العلم فوق المستعمرات.
1892 ظهور الحركة الصهيونية لأول مرة.
1896 نشر كتاب “الدولة اليهودية”.
1897 أول مؤتمر صهيوني وكان في “بازل”.
1897 تأسيس المنظمة الصهيونية العالمية.
1907 فكرة إنشاء لتطوير الأراضي في فلسطين.
1911 شراء أرض “مرج ابن عامر”.
1911 مطالبتهم للدولة العثمانية بالاعتراف باللغة العبرية.
1917 رسالة بلفور إلى روتشيلد.
1920 إعلان الانتداب البريطاني على فلسطين.
1926 إعلان وعد بلفور.
فلسطين: الذاكرة والتاريخ وأوهام الصهيونية وكولونيالية العصر الحديث
هناك في الأرض القريبة تاريخ قديم، وحضارة عريقة فاقت في القدم والأصالة حضارات العالم كله، كما كان لها تأثير عظيم من الناحية الثقافية والمدنية، إنها التاريخ، إنها الأرض، تموت الشعوب ولا تفقد حضارتها -لا سيما وإن كانت أرضًا وتاريخًا وحضارة عربية إسلامية في الطّابع والجذور-.
لكن ما الذي حدث؟ لقد تم تزوير هذه الحقيقة ومحو تلك الأرض -بالأرض الجديدة- الأرض التي تفيض لبنًا وعسلًا *
-من المسؤول عن التزوير الذي شهدته فلسطين؛ والذي تم بموجبه سرقة تاريخها وأرضها؟
-هل يعقل أن يُغيّب شعب بأكمله، وتُزرع في الأدمغة أوهام وترهات روايات وقصص محرفة مناقضة للسياق التاريخي المعروف لدى الجميع؟ ويفترض منه التسليم!
-كيف نجحت إسرائيل في خلق كيان لها في أرض ليس لها بها علاقة لا من الناحية التاريخية ولا الدينية ولا السياسية؟
-هل على فلسطين والقومية العربية أن تدفع تراكمات أخطاء الحضارة الغربية العلمانية المادية في تعاملها مع المسألة اليهودية؟
-إذا كانت الصهيونية قد سيقت إلى الشرق بدعوى اللاسامية الغربية ومحاولة الخروج عن اضطهادها فبأي شيء يمكن أن توصف ممارسات إسرائيل للشعب الفلسطيني؟
من الغرب إلى الشرق
الصهيونية
لا يمكن بحال من الأحوال فصل الصهيونية عن السياق الحضاري الغربي، كما لا يمكن فهمها بعيدًا عن نظريات العنصرية والإبادة، وفلسفات العلمانية التصحيحية للخطاب الأصولي الديني الغربي.
إن مجمل القول بإن الصهيونية إنما قامت كرد فعل للاسامية التي تعرض لها اليهود في الغرب أمر غير حقيقي، فاليهود شكلوا عبر تاريخهم الطويل مادة دسمة للاضطهاد في المجتمعات التي حلوا بها.
ومن هنا فلا حقيقة لستة ملايين يهودي في مذابح النازية التي شكلت أسطورة الهولوكوست في الأدبيات الصهيونية وأيديولوجيته المتبناة في تأكيد عقيدة الذنب في نفسية الأوروبي.
“لقد استخدم اليهود في ذلك الجانب اللجوء إلى إيجاد وحث العالم على عطف اليهود “بعقيدة الذنب” وتأكيدها وإبقائها حية في ضمير الشعوب الأوروبية والأمريكية بصورة خاصة؛ بهدف ابتزازها وتجنيدها إلى جانب القضية الفلسطينية وإشهار تهمة اللاسامية بوجه من يحاول اكتشاف الحقيقة” (1)
يقول اليهودي أريش فريد مخاطبًا إسرائيل الصهيونية في مؤلفه (اسمعي يا إسرائيل) واصفًا إياهم بالتُّجار، يقول: “هؤلاء ليسوا يهودًا ساوموا.. وإدراك هذا أمر يسير، فهم مازالوا على قيد الحياة، وقد مات ستة ملايين يهودي… ساوموا، هؤلاء مازالوا يعيشون ويحتاجون، قد ظلمنا فهم ليسوا ستة ملايين، كانوا فقط خمسة ونصف مازالوا يعيشون عن أنفسهم يدفعون ظلمًا قاسيًا: لم يكونوا خمسة ونصف! كانوا فقط.. خمسة، فقط خمسة ملايين إنهم يظلموننا ملايين المرات، فقط خمسة ملايين.. فمن قال أقل؟” (2)
إن جميع الوعود البلفورية التي انطلقت في الغرب من أجل تقديم حل نهائي للمسألة اليهودية فيها إنما تؤكد حقيقة فشل الحضارة الغربية في التعامل مع اليهود وحجم التأثير الصهيوني في الأوساط الفكرية الغربية كالوعود الماشيحية، براءة اليهود من دم المسيح، اليهود أبناء عمومة هم أصحاب الأرض وهم الدخلاء.
ومثل هذا كثير مسطور في كتابات مارتن لوثر أمثال (المسيح ولد يهوديًا يهوديًا) قبل التغيير الذي أصابه بالتحول إلى (اليهود وأكاذيبهم) وهو الذي يعد الصورة الحقيقية “المسيحية الصهيونية”، فالمسيحية الصهيونية أقوى بكثير من الصهيونية اليهودية وسابقة عليها، ولها دلالاتها وأيديولوجيتها الاستعمارية التوسعية من وراء توطين اليهود في فلسطين.
حق زائف
الصهيونية
فمقولة أن الصهيونية ولدت على فراش الاستعمار الغربي تبدو صحيحة من ناحية أن الأطماع الاستعمارية الغربية دفعت الحكومات الغربية من أجل الوقوف بجانب اليهود وهجرتهم إلى فلسطين، كما كان لليهود دور كبير وهام أيضًا من ناحية دفع بارونات المال وعائلاته الكبار أسهم كبيرة من الذهب من أجل إنعاش الاقتصاد الأوروبي في كثير من بلدانه فيما عرف بـ “يهود البلاط”.
ومن ذلك كله تشكلت الإبادة والعنصرية وتهويد المعالم العربية والإسلامية بفلسطين، التهجير، التعذيب، القتل، بناء المستوطنات.. إلخ مصحوبة بنوع من المساندة الغربية بصورة لاسامية (في شقها الحقيقي).
“المشروع الصهيوني إذًا هو مشروع إبادة للآخر، ولا يمكن أن يتحقق إلا على أنقاض هذا الآخر، وتيودور هرتزل -أبو الصهيونية- كان واضحًا في ذلك عندما سجل في كتابه (الأرض القديمة – الجديدة) عندما أرغب في استبدال بناية قديمة بجديدة فعلي أن أهدم قبل أن أبني” (3)
إن فكرة الاستيطان تحمل في ذاتها من جانب الإسرائيليين محاولة حل وطرق لإقرار حق زائف في احتلال أرض فلسطين، ومراكز إحداث هذا المشروع تتمثل في إيجاد الطرق الموصلة للهدف بنوع من إكساب الآخر -المشاهد السياسي- ذو الثقل نوعًا من الإقرار وتدعيم هذا المشروع، فقد توصل إليه الإسرائيليون من خلال “المسيح المنتظر” الذي يكون خلاصًا للعالم كله من خلال وجود الإسرائيليين في صهيون، فدعمت المسيحية الصهيونية هذا العمل الاستيطاني الصهيوني، غير أن هناك من تفهم وعلم خداع الصهيونية للعالم والسعي للسيطرة على حكوماته ومحاولات تخريبه ورفضًا للواقع المتعين.
يقول أرنولد توينبي: “أستطيع أن أفهم مطالب اليهود بعد كل الذي عاشوه على أيدي الألمان بأنها مطالب ترمي إلى إعطائهم ولاية في مكان ما من العالم ليمارسوا سيادتهم الخاصة فيها، وإن كان لابد من حدوث ذلك؛ فتلك الولاية لابد أن تكون على حساب الغرب الذي ارتكب أقصى القطائع مع اليهود ولا على حساب العرب”.
كولونيالية العصر الحديث
الصهيونية
إن نجاح الصهيونية لا يعتمد على مقولات أرض الميعاد، شعب الله المختار أو حتى الوعود التوراتية بإبادة الأغيار الجوييم؛ وإنما تعتمد الصهيونية وتستمد بقاءها من نفاذ الصهيونية العالمية من ناحية، وتخاذل موقف الدول الإسلامية من ناحية أخرى.
لقد شهد الموقف العربي والإسلامي تباطؤًا حادًا إزاء القضية الفلسطينية وتذبذبًا متناقضًا في كيفية التعامل مع مستجدات الأمور.
فقد خلقت إسرائيل ملمحًا جديدًا في الخطاب الدعائي الصهيوني يعتمد عنصر المبادرة والهجوم المسبق حتى تسلب من الآخر ردود الفعل، وتخلق نوعًا من الارتباكات والتوترات الداخلية.
يذكر الدكتور فاضل الربيعي الرواية التوراتية الكاذبة بالقدسي في نصّها العبري، ويكشف عن حجم التزوير الذي لقيه العرب والفلسطينيون بصفة خاصة، يقول:
لم يتعرض شعب في التاريخ مثلما تعرض الفلسطينيون من عمليات التزوير الممنهجة لتاريخهم وأرضهم.*
كما ذكر أيضًا أن الفلسطينيين ليسوا أسير القوة الإسرائيلية الغاشمة ولا الانتهاكات التي تحدث على أرضه؛ وإنما هو أسير فكرة أخطر فهناك من يسيطر على ذاكرته ويحاول خداعه وإيهامه بأنه ينتمي لعرق ليس عربي هو كنعاني.. هو يبوسي، إنها روايات ملفقة دست إلى الذاكرة الفلسطينية العربية عن طريق المخيلة الاستشراقية.
إسرائيل لا تملك بقاءها لذا تقدم للعالم قضية صناعة السلام في الشرق الأوسط، لقد وضعت نفسها على طاولة المفاوضات بشرعية كاذبة وبسلام مراوغ، ولقد حققت من هذه المعالجات كثيرًا من المصالح الكبرى كالاعتراف بها كبلد ذو سيادة يمارس حقوقه وقراراته الدولية، إنها محاولة لكسب الوقت الذي يؤهلها للإعداد لحربها الكبرى.
فلا غرابة في ذلك أن تفعل الأساطير فعلتها بمرور الزمن عندما تخترق الأذان، وترفض العقول تكذيبها أو حتى دراستها من أجل التأكد من صحتها.. عندها تصبح حقيقة ثابتة، وتحارب الأجيال الناشئة التي لا تعرف ماضيها محاولات دفعها وتكذيبها… أنها عملية تهجين وغسل لأدمغة أجيال وتشويه للتاريخ.
العبريون قضوا زمنًا طويلًا ليكون لهم سلطانًا ضئيلًا في فلسطين لا أن يكونوا سادتها. (4)
إذًا كيف دخل اليهود إلى أرض فلسطين -الأرض التي لا تربطهم بها رابطة دينية أو تاريخية أو سياسية، وإن هذه الفرضية تتضح مع اكتشاف أن معظم الأماكن الواردة في الترجمة العربية للتوراة -بوجه التحديد- غير حقيقية، وهي التي بنيت عليها جل المزاعم الصهيونية-؟
تحريف التوراة – أساطير في مخيلة الصهيوني
الصهيونية
إن عملية تحريف التوراة يوافقها ويؤكدها ما نراه في فقدان الصفة الإلهية الخالصة، والتي تحولت إلى دعوات صريحة إلى مزاعم وأراء صهيونية.
إنها عملية نفسية في قرارة النفس اليهودية، ويؤكد ذلك أيضًا ما قاله الخوري بولس مسعد حينما قال: “لم أطلع على كتاب شوه الحقائق كالتلمود، ولم أعرف كتّابًا أقدر على قلب الحقائق وتسخيرها لأغراضهم من مؤلفي التلمود؛ فإنهم أساطين فن التمويه بلا نزاع، إذا قلنا إن التلمود هو معرض الحقائق الأزلية المشوهة فقد لا نعالي إذا قلنا. (5)
“إن كاتب سطور التوراة كان فريسة للجهل التام بشؤون الفلك، لكن ذلك لم يعفيه من مسؤولياته، كان عليه أن يعرف كل شيء عندما كتبت التوراة” (6)
يشير الأب ديفو إلى حقيقة هامة، وهي: “أنه لا وجود في أي مكان لأي إشارة صريحة إلى (الآباء) العبريين أو إلى إقامتهم في مصر أو خروجهم منها… ولا إلى احتلال أرض كنعان، ومن المشكوك فيه أن تكتشف نصوصًا جديدة تنقض ما ذهبنا إليه” (7)
هذا ما ذهب إليه أيضًا الدكتور فاضل الربيعي من أنه في النص العبري للتوراة “لا يوجد على وجه الإطلاق لا تلميحًا ولا تصريحًا لا جملةً ولا كلمةً تقول إن القدس هي أورشليم” (
“إن القراءة الرمزية للعهد القديم لم تحل محلها قراءة عادية إلا بدءًا من تلك المرحلة التي جرت فيها ترجمة التوراة إلى الألمانية على يد لوثر فأصبحت التوراة في البلدان البروتستانتية بلغتها الشعبية لغة كل الشعوب وفي متناول الناس من غير الرهبان الذين كانوا حتى ذلك الحين يحتكرون التوراة وامتياز تفسيرها” (9)
فقد تعهد الرهبان والأحبار بالحذف والزيادة في النصوص المقدسة حتى خرجت على ما هي عليه الآن… كتاب يعبر عن أحلام وتمنيات مجموعة من الكهنة ورجال الدين.
“بهكذا تنمو إسرائيل” مقالًا كنت قد ذكرت فيه الطريقة التي تسعى بها إسرائيل والخطط الماكرة التي تؤثر بها على الرأي العام وصناع القرار في بلدان العالم من خلال الخلط والتشويش في أحداث قضايا معينة تقوم بصناعتها، على سبيل المثال “الصهيونية واليهودية” لقد اقتنع عدد كبير من مفكري العرب بالفصل بين اليهودية والصهيونية وكأنهما شيئان مختلفان. بمعنى آخر؛ لقد أحب الناس اليهودية لبشاعة جرائم الصهيونية لمجرد فرض أنها تعاديها.
إن نصيب اليهود في تاريخ الحضارة صفرًا بتعبير جوستاف لوبون في كتابه “اليهود في تاريخ الحضارات الأولى”.
لكن هذه المقولة سيطرت عليها الصهيونية بأساليبها الخاصة في الدعاية ووسائل الإعلام وخطابها الأدبي، لقد حولت نفسها وعلمنة التفكير العالمي بالنظر إليها على أنها “جنة الحريات في الأرض”.
“يعرف عن الدعاية الإسرائيلية نجاحها لاعتمادها على مخاطبة الجماهير كل على حسب رؤيته ليس لحقيقتها ولكن لما فيها من أهداف شخصية فردية من قبل إسرائيل واستثمار هذا التخطيط بشكل مقنع، لما استطاعت دولة إسرائيل أن تحقق أكبر عملية غسيل للأدمغة وتعمل على تهويد فلسطين وتغيير معالمها فهي تتوجه إلى مجتمعات مختلفة وتتحدث إلى كل مذهب سياسي بلغته وتعبر عن النظم الاجتماعية المختلفة”.(10)
وهم القومية اليهودية
لقد تأثرت الهوية العبرانية نتيجة الاستعمار والاضطهادات التي مارستها القوى الإمبراطورية العظيمة عليهم؛ ذلك لأنهم شعب صغير لم يكن ذا تأثير على الحضارات المجاورة، مما أصبحوا أداة طيعة لهذه الدول؛ ولذلك نراهم أيضًا وقد تشكلت هويتهم بكل عصر من عصور الاستعمار والتبعية التي عاشوا فيها. فالبابلية واليونانية والرومانية… وغيرها مما أضفى على الحضارة العامة بأن اليهود عبارة عن شعب متقاسم السيادة بين دول وحضارات العصر القديم.
حتى أن اليهود أنفسهم كانوا موضع شك لدى كثير من الباحثين من ناحية الأصول والانثروبولوجيا. “لقد أكدت دراسة حديثة قام بها عالم انثروبولوجي بريطاني هو (جيمس فينتون) على يهود إسرائيل توصل فيها إلى أن 95% من اليهود ليسوا من بني إسرائيل التوراة؛ وإنما هم أجانب متحولون أو مختلطون” (11)
لقد عانت أوروبا خلال القرنين الثامن والتاسع عشر من الإثنية العرقية التي خلفتها الجماعات اليهودية في المنفى؛ لذلك أسرعت أوروبا في طردهم وجلائهم.
لقد بحثت أوروبا عن حل “للمسألة اليهودية” في شتاتها الغربي عن طريق تصدير مشاكلها للشرق، واليوم يعاني العالم الإسلامي من شتات مماثل نتيجة المأزق الذي وضعته الصهيونية فيه.
إن محنة فلسطين تمثل للمسلمين قضية أولية (مهمته الضرورية الكبرى) التي يجب أن تُحل، إذ أن الوضع القائم يشكل خطرًا دينيًا وجوديًا.
فوجود إسرائيل في فلسطين لا ينظر إليه -فقط- على أنه استعمار مكاني (حدودي) لكنه أفرغ في الذاكرة العربية إحساسًا من القلق والمسؤولية الدينية والقومية.
إن محنة فلسطين هي محنة جميع المسلمين، وقضيتهم قضية المسلمين الأولى، ونكبتهم نكبة للعرب والمسلمين جميعًا.
جاء في القرار السابع لحزب الوحدة السورية 1918م القرار التالي: “إننا نرفض مطالب الصهيونيين بجعل القسم الجنوبي من البلاد السورية أي فلسطين وطنًا قوميًا للإسرائيليين، ونرفض هجرتهم إلى أي قسم من بلادنا لأنهم ليس لهم فيها أدنى حق وإنهم خطر شديد جدًا على شعبنا من حيث الاقتصاديات والقومية والكيان السياسي” (12)
وبالنظر إلى كلمة “شعبي” التي ترد في التوراة والتي تفترض أن اليهود شعب ككل الشعوب يفترض في التاريخ أو إنجازات مادية – فكرية تحسب له.
فعبر التاريخ لم يكن اليهود أمة واحدة متماسكة، وحتى مملكتهم التي يتغنون بها سرعان ما انقرضت مع أول هجمة لجيوش “نبوخذ نصر”، وهيكلهم قد تهدم مبكرًا على يد تيطس الروماني.
“الحقيقة أن السيادة اليهودية الاسمية قد انتهت نهائيًا مع سقوط أنتى جونوس، آخر مكتبى حكم أورشليم سنة 40 ق. هذا مع أن الدولة اليهودية التي قامت بعد مجيء اليهود من بابل إنما قامت كتابعة للدول الأخرى سواء الفرس أو اليونانيين الهيلينيين” (13).
فإلى أي يهود تنظر التوراة اليوم؟ يهود السبي البابلي.. الدمار الهلنستي.. الشتات الروماني..
إن ما يعمق الإشكالية بين الهوية الإسلامية في فلسطين والقومية اليهودية الضائعة هو تشويه التاريخ وتغييره وحوصلته لخدمة قضايا مصيرية تتعلق بـ الأنا والآخر.
فيمكن اعتبار أن أول نكسة تعرضت لها إسرائيل هي حرب أكتوبر عام 1973م على صعيدين مختلفين مصر وسوريا؛ فقد تبددت الأحلام الصهيونية وغابت الآمال التوراتية بتكوين الإمبراطورية “أرتس إسرائيل” مع أول هجوم جريء للقوى العربية.