عمر بن عبدالعزيز والجرّاح:
حظيت الدولة الإسلامية في عهدها الزاهر بعُمرين، الأول عمر بن الخطاب رضي الله عنه،
والثاني عمر بن عبدالعزيز حفيده رضي الله عنه، الذي كان صورة في المماثلة لجده عمر بن
الخطاب رضي الله عنه، في حرصه على المسلمين والاهتمام بهم، فقد حُمل إلى عمر بن
عبدالعزيز خبر عدم تشجيع الجراح الناس على الدخول في الإسلام، وإن دخلوا في الإسلام فلا
يسقط عنهم الجزية، ومن شارك منهم بالجهاد فلا يعطون الأرزاق. فكتب عمر إلى الجراح
يقول: "انظر من صلى قبلك إلى القبلة فضع عنه الجزية"، كما كتب إليه: "إن الله بعث محمداً
صل الله عليه وسلم هادياً، ولم يبعثه جابياً".
وبعد هذا الكتاب دخل الكثير من الناس في الإسلام، وكاد ذلك يخل بميزانية الدولة، فأشار
رجال الجراح عليه بإقامة السنة فيمن يدخلون الإسلام، وذلك بأن يأمرهم بالاختتان، وخاف
الجراح أن يلومه عمر فكتب إليه يستأذنه، وقد استدعاه عمر بن عبدالعزيز فقدم الجراح إلى
دمشق, وقبل السفر إلى دمشق صعد المنبر وخطب في الناس فقال: "يا أهل خراسان: جئتكم
في ثيابي هذه التي علي، وعلى فرسي، لم أصب من مالكم إلا حلية سيفي" وكان معه فرسه
وبغلة لتحمل له حوائجه، ولما عاد لم يكن معه نفقات السفر إلى دمشق، فاستدان من بيت مال
المسلمين عشرة آلاف درهم وقال: هي عليّ سلف حتى أؤديها إلى الخليفة، ولما وصل إلى
دمشق قال له الخليفة: متى خرجت وكيف وصلت؟
قال: لأيام بقين من رمضان، و أخبره بأنه أستدان من بيت مال المسلمين عشرة آلاف درهم،
فأمر الخليفة عمر بسجنه حتى يسدد ما عليه من دين لبيت المال، فجمع له قومه المال السداد
فأخلي سبيله.
ذلك هو الجراح في ولايته على خراسان، الذي لم يكن يملك نفقات سفره عند عودته إلى
دمشق، ولما وقعت كارثة آل المهلب بعصيانهم على الدولة، فقد أراد الخليفة مسلمة بن
عبدالملك بيع أولاد المهلب، فتدخل الجراح فشفع فيهم لدى الخليفة فخلى سبيلهم.
ولايته الثانية على أرمينية وأذربيجان:
تولى يزيد بن عبدالملك الخلافة بعد عمر بن عبد العزيز، وقد عهد إلى الجراح في سنة (104
هـ- 722م) في الولاية مجدداً على أرمينيا وأذربيجان، لصد هجمات الترك والخزر، فقاد
الجيش بنفسه وفتح الله على يديه مدينة (بلنجر)، وتغلب على جموع الترك وحلفائهم من
الخزر.
وحين تولى الخلافة هشام بن عبد الملك عزله عنهما ثم أعاده سنة (111هـ= 720م) أميرا
عليهما, فانصرف إلى الغزو.
الجراح الشهيد
وفي سنة (112هـ- 730م) انتفض أهل الخزر ومن جاورهم على الحكم الإسلامي وغدروا
بحُماة المدن من قادة المسلمين، وكانت قوات الجراح لا تبلغ عُشر قوات هؤلاء المشركين،
فاستخلف أخاه الحجاج بن عبدالله الحكمي على أرمينيا، وقصد مواجهة هذه القوات بمن معه
وقاتل هذه القوات. وكان البرد والثلج شديدين، حتى عرف يوم هذه المعركة بـ(يوم كيوم
الجرّاح) وذهب مثلاً يضرب عند الصعاب، استشهد في هذه المعركة الجراح هو ومن معه، وقد
سُمي النهر الذي استشهد فيه (نهر الجراح)، والجسر الذي كانت عليه المعركة (جسر
الجراح)في بلاد الداغستان.
الجراح الحكمي في التاريخ
اتصف الجراح بالضبط الشديد وشيء من الجفاء، مما أكسبه سيطرة أكبر على رجاله، ومزية
الضبط هذه إحدى مزايا القائد الناجح، لذلك لم يكن مندفعاً في مواجهة أعدائه، فهو لا يحارب
إلا إذا تبلورت لديه جميع المعلومات عن العدو، فجميع عملياته كانت على هدى وبصيرة،
وهذه الأراضي التي فتحها هي بلاد اللان من بلاد الخزر هي منطقة القوقاز اليوم، وهي ما يلي
مدبنة دربند في أذربيجان التي كان يسميها العرب (باب الأبواب)، فهابت هذه المناطق بهذا
الفتح العرب والمسلمين وأصبح أهلها يعتقدون أن هذه الجيوش هي الجيوش التي لا تقهر،
وقد جمع الجراح بين السياسة والكياسة في التعامل مع الآخر وقد أسلم على يد الجراح بن عبد
الله الحكمى أربعة آلاف من أهل خراسان وحدث مرة أن دخل سليم بن عامر على الجرَّاح
الحكمي فوجده رافعا يده هو و الأمراء أيديهم فرفع سليم يده معهم؛ فمكث طويلاً
ثم قال له الجراح يا أبا يحيى هل تدري ما كنا نفعل؟!
قال سليم: لا. وجدتُكم رفعتم أيديكم فرفعتُ يدي معكم
قال الجراح كنا نسأل الله الشهادة
يقول سليم بن عامر: فوالله ما بقي من هؤلاء أحد حتى استُشهِد.