مطران القدس في المنفى ايلاريون كبوتشي.. أيقونة المقاومة
لم تكن مشاركته في أسطول الحرية، كسراً لحصار غزة الظالم، ونصرة أهلها، سوى واحدة من محاولات كثيرة للعبور إلى فلسطين، برمزية ودلالة ذلك العبور الجسور لمطران القدس المناضل ايلاريون كبوتشي، المنفي عن فلسطين منذ عام 1978، إلى روما، نفياً دام طويلاً جداً...
رحلة كثفت أبعاده كمقاومٍ فذّ، مقاومٍ حالمٍ بالتغيير، وطاعن بعشق القدس، ليصبح سادنها الكبير، وقد ألقت ضوءً باهراً على محطاته الكفاحية الباذخة. وبرغم آلامه العميقة ونصائح الأطباء صعد إلى "سفينة الحرية" إلى جانب المتضامنين من كل أنحاء العالم، ليحوَل كلماته لفعل، أكمله الفداء.
جهينة- أحمد علي هلال:
في البدء.. كانت المقاومة
رغم نفيه عن القدس، مازال كبوتشي مطران القدس،هي هاجسه الأعلى منذ دخلها أول مرة عام 1965 ليرى بأم عينه شعباً تحت الاحتلال مهضوم الحقوق، شعباً مضطهداً، ليهبَ لمساعدته بوازع الضمير والوجدان والانتماء، مدافعاً عنيداً ومؤمناً برسالة الحق ورسالة التحرير وبقيمة الفرد وحبَ الإنسان ليصوغ أشكالاً مقاومة متعددة، لنذهب في قوة مثال ذلك الفدائي وتجليات وعيه بقوة الحق، وفي لحظة نُسج منها خيطٌ رفيعٌ أصبح نسيج حياة كبوتشي بعلاماتها النضالية والكفاحية لنصرة القضية الفلسطينية، مشروعه الذي وقف له عمره المديد، ونبضات أيامه الخافقة.
صيف1974 وعلى الحدود الشمالية بين لبنان وفلسطين، استوقفت سيارة كان بها رجل مهيب ملتحٍ يرتدي زيَ مطران، كان هذا الرجل هو"ايلاريون كبوتشي" الذي طُلب منه فتح الحقيبة الخلفية للسيارة، ففتح المطران الحقيبة، ليجدوا فيها سلاحاً في طريقه إلى رجال المقاومة.
وأحيل المطران كبوتشي إلى المحكمة، ليواجه حكماً بالسجن مدى الحياة، لكن تدخل قداسة البابا بولس السادس، بابا الفاتيكان، حال دون استمراره بالسجن سوى أربعة أعوام أضرب خلالها عن الطعام، لمدة سبعةٍ وثلاثين يوماً، فقد كانت حياته في خطر نتيجة الاعتقال وانخفاض الوزن..
كان شرط الاحتلال الإسرائيلي قبول إطلاق سراح المطران كبوتشي أن يخرج دون عودة، وهكذا خرج للحرية في الثامن من تشرين الثاني عام1978، لكنه خرج للمنفى، ليعيش دورة انتظار ليعود للقدس، التي لم تغب حواريها عن عينيه، كما كنائسها ومساجدها،وطرق الجلجلة، ما يلبث منتظراً أن يعانق مدينة السلام، كان صليب انتظاره بوصلته ليجوس بالرؤيا والرؤية، آلام شعبه ويتحسسها بيده المباركة، نفي من القدس لكن القدس لم تنفَ من عقله ووجدانه وصلابته، لأنها الناس والتاريخ والذاكرة المفتوحة، جدلية حضور مستمر من الكلمة، إلى الموقف، حضور حق لا يموت، يجوب مطران القدس العالم، ليشهده أن السلام يبدأ من فلسطين، متماهياً مع إيمانٍ مطلقٍ بعودتها إلى الجسد العربي، وصوته لا يهدأ في المؤتمرات العالمية المكرَسة لفلسطين والشرق الأوسط، شارحاً عدالة القضية، في براغ وألمانيا وبلغاريا وأرمينيا وغيرها، صوت يجهر بالحق ويترجم آلام ومعاناة من اقتلعوا من أرضهم قسراً، ومن ظلَوا هناك، خط مواجهة قصوى لا عنوان لها سوى برهان الدم.
نبض الحنين
ايلاريون كبوتشي ينتظر نهاية غربته، يقول دائماً: "فهل أعزّ للأسقف مثلي من أبرشيته، من شعبه، من أرضه، هذا الفراق القسري المفروض عليّ هو الموت المعنوي.. يموت الإنسان مرة فقط جسدياً، ويموت مائة مرة في النهار معنوياً، لأني أنا جسم فقط بعيد عن فلسطين وأبناء فلسطين، إنما بقلبي، بضميري، بروحي، بصلاتي، أنا دائماً هناك معهم وبينهم، أعيش من أجل ذاكرتي، والذكريات تولّد الحنين، والحنين كذلك مبعث للعذاب".
هو حنين إلى القدس، بوصفها قلب فلسطين النابض، فدونها لا حياة ولا قيمة - يقول المطران- ليؤكد قناعته العربية والإسلامية والمسيحية، وبالمقابل فإن محاولات الاحتلال الإسرائيلي تدنيس مقدساتها الإسلامية والمسيحية، مازال يؤلمه، وهو الذي رأى حجاج القدس الآتين من العالم كله، يسيرون في شوارع القدس العتيقة، يصلون، يبتهلون، يتضرعون، رآهم راكعين رافعين أيديهم إلى السماء يتوسلون، يقرأ على وجوههم التقى، وفي عيونهم يرى النور يشعّ من محياهم، يخيّل إليه بأن السماء قد هبطت على الأرض، هذه الصورة الجميلة القدسية للقدس، قد ضاعت وطابعها المقدسي اندثر، يقول كبوتشي ذلك بأسى، إذ أن قلبه يكاد ينفطر على ذكرى تكاد تمحى، لكنها الأبقى في ذاكرته المحرضة لصيرورة عشقه وإحساسه بالمكان ليغفو في حكاياتها ويشق في الصدور والقلوب دربه الجديد، يتوكأ على عصاه يهشّ بها العتمة السادرة، يكسر زمان الصمت يلج محرابه الأزلي محمولاً على صلواته لحواري القدس العتيقة، ولندائها البعيد- القريب، وعلى شفتيه يتردد إيقاع السر والعيد والحكمة "لا نزوح للفلسطينيين من فلسطين بل حق الفلسطينيين بالعودة".
معنى التحرير..
يستذكر المطران كبوتشي أنه عندما وصل إلى القدس عام 1965، وكان يقيم مهرجانات ومسيرات ومظاهرات، مطلبها تحرير الأرض التي احتلت عام 1948 بالقوة، تحرير هذه الأرض معناه إزالة دولة إسرائيل، ونحن اليوم لا نطالب إلا فقط بـ 21% من فلسطين، فقرار التقسيم أعطى لليهود 52% وأعطى للعرب 46%، لكن "إسرائيل" في حرب 1948 لم تكتفِ بـ 52% بل احتلت الجليل الأعلى، وأصبح مجموع ما احتلته 79% من فلسطين، يقول مذكراً ومستشرفاً آفاق الصراع وجدليته: إذاً الأرض المحتلة يجب أن تحرر وتعود إلى أصحابها الشرعيين، وإزالة المستوطنات التي قطّعت أوصال الضفة الغربية، وفرّقت بين مدينة ومدينة وقرية وقرية، أما القدس فينطبق عليها ما ينطبق على أي شبر من الأراضي المحتلة، لطالما القدس هي جزء من هذه الأراضي المحتلة رغم قدسيتها ومكانتها، والقدس هي مهد الديانات السماوية الثلاث ولا يمكن لأي كان أن يحتكرها لنفسه، ويضيف كبوتشي: نحن لا نستجدي، نحن أصحاب حق نطالب بكامل حقنا، والحق يعلو ولا يعلى عليه، ولا مساومة في الحق، المساومة هي الدنايا وأنا أقول: المنايا ولا الدنايا، وإن لم يكن للموت بدّ فعار عليك أن تكون جباناً.
الكرامة وطن...
وكثيراً ما وصف المطران كبوتشي أن الندوات التي دُعي إليها أنها مضيعة للوقت والمال.. يذهب إلى أن يكون في قلب الأحداث كما هو دائماً، يصنع لحظته التاريخية بصمت وهدوء، مؤثراً اختراق المستحيل حاملاً قنديل زيته، مصباحه، رؤيته الواضحة، قدره ليسري إلى رحلة كبريائه ويتسع في المكان والزمان كمرايا الصحو معمّد الوجع، يصطفي من بلاغة الفعل ما يحمله على أن يقول: "إن العيش ليس أكلاً وخبزاً، الكرامة هي الحياة وعنوان الكرامة وطن فنحن مصممون، إما أن نعيش أحراراً أسياداً كراماً في وطننا الفلسطيني وعاصمته القدس، وإما أن نموت دفاعاً عن حقنا".
ويتساءل: كلنا يتغنى بالقدس، عملياً ما الذي نعمله للقدس، المحبة إذا بقيت مجرد عاطفة ولم تتجسد بالأعمال، المحبة نفاق، لكنه لا يقف عند حدود التشاؤم، أو اليأس فهو محكوم بالأمل في تضامن عربي يجسد حقيقة الأمة العربية الواحدة، وحقيقة رسالتها الخالدة، لم يحنِ رأسه لإكليل الشوك، بعد أن أمضى ثلاث سنوات في المعتقل ظلت رأسه مرفوعة، هكذا هي مأثرة المطران ايلاريون كبوتشي، وهو يتعرض من جديد لاعتداء قوات الاحتلال بتكبيل يديه، ومحاولة طرحه أرضاً، لكنه واصل خلاصه نشيداً للبحر والريح وجمر القلب، مسكوناً بشغف الوصول لشاطئ أو ظل سنديانة مثقلة بالحنين.
حكاية عبور يتجدد..
ايلاريون كبوتشي ذاكرة وطنية وكفاحية ممتدة بلا ضفاف من الماضي إلى الحاضر إلى المستقبل ملهماً وموحداً الآلام يزهو بصوته وبتجربته وبتوهج الدروب التي حملته في غربته ليشعل زمانه باسمه المحفوظ، اسمه اليقظ الأشدّ حضوراً في سفر الحياة بوصفها مقاومة ليبدد قسوة المنفى ويكسر اشتراطاته الموجعة، هناك في أرض القمح والزيتون، والدم البهي يقف عرّاف الجهات وحارس فصول الخصب على مسافة مشتهاة، قمراً ينتظر العابرين إلى جذورهم، وأقحوانة شديدة الانتباه على مداخل القدس.
كبوتشي حامل السرّ في سعيه للعودة، وفي خلاصة توقه للحرية ليعبر إليها سيفاً ولهباً، ويوم تقدم مئات الأحرار على تلك السفينة ليشهد اقتحامها وامتزاج البحر بنزيف الشهداء، لم يكن ثمة كهل موجع الروح والقدمين، وفي الثمانية والثمانين من عمره، كان رمحاً عربياً فلسطينياً عالياً، رمحاً من نار تماهى في الأشرعة، في النوارس والمطر يقلص المسافة بين البرتقال ورائحته، بين الأرض وحبات المطر بين الصخور وعروقها، كان اسمه ايلاريون كبوتشي.. ومازال اسمه كذلك ليشهد التاريخ على تاريخه المتصل الجسور البالغ الحضور وساماً على صدر الأبجدية في رحلة لا تنتهي إلى الحرية.
ايلاريون كبوتشي.... علامات فارقة
ولد المطران ايلاريون كبوتشي في حلب عام 1922.
أصبح عام 1965 مطراناً لكنيسة الروم الكاثوليك في القدس.
عرف بمواقفه الوطنية المقاومة للاحتلال الصهيوني في فلسطين، وعمل سراً على دعم المقاومة الفلسطينية إلى أن اعتقلته سلطات الاحتلال في آب 1974، أثناء نقله أسلحة للمقاومة في سيارته وحكمت عليه محكمة عسكرية بالسجن 12 عاماً.
أفرج عنه بعد ضغوط عالمية، بتدخل الفاتيكان ونفي من فلسطين في تشرين الثاني عام 1978.
رفض طيلة حياته أي منصب ديني خارج القدس، وعُرف بلقبه مطران القدس في المنفى.
بعد تجربته في أسطول الحرية قال: إننا نعدّ لأسطول جديد وسأكون في المقدمة، لأن الحصار على غزة يجب أن يكسر بمساعدة كل الأحرار والشرفاء في العالم.
وصيته أن يدفن في القدس خيار واختيار من مطرانها المنفي.
حكاية المطران كبوتشي كادت أن تصبح فيلماً سينمائياً، فقد خطط التلفزيون المصري- في الثمانينيات لدراسة وإنتاج مشروع فيلم روائي عن حياته ومسيرته كرمز ديني مناضل من أجل القضية الفلسطينية وقضية القدس، وكان النجم العالمي عمر الشريف مرشحاً ليلعب دور كبوتشي بطلب من المخرج العالمي الراحل مصطفى العقاد، إلا أن النجم فاروق الفيشاوي كان أكثر حظاً، ولعل زيارة كبوتشي المرتقبة لمصر- آنذاك- فرصة لإتمام المشروع منذ بدأ التفكير فيه.
في مطلع الثمانينيات، عادت قصة إنتاج فيلم عن المطران كبوتشي بالتعاون بين المخرج الراحل صلاح أبو سيف والسيناريست محسن زايد، كذلك كانت محاولات من المخرج حسام علي القيام بعمل تسجيلي عن كل محطات المقاومة في حياته، بتكلفة تقدر بنحو 14 مليون جنيه، لكن وفاة الكاتب محسن زايد أوقفت المشروع.
في لبنان، كادت قصة كفاح ونضال المطران كبوتشي تتحول إلى عمل سينمائي ضخم على يد المنتج السينمائي إبراهيم المدلل، لكن حرب لبنان عام 1975 عطلت إنجاز الفيلم.
وفي أعقاب أحداث أسطول الحرية يدور في خلد المخرجين وصانعي الأفلام من غزة توثيق تلك التجربة / الحدث، فقد طرح رئيس ملتقى الفيلم الفلسطيني المخرج سعود مهنا فكرة عمل فني يتناول قافلة الحرية، يليق بحجم التضحيات التي قدمها المتضامنون الدوليون الذين أتوا على متن أسطول الحرية باتجاه غزة المحاصرة، إلا أنه تواجه المخرج مشكلة كاتب السيناريو المحترف نظراً لندرته في قطاع غزة.
يقول المطران كبوتشي: عندما أسأل عن هويتي أجيب: أنا عربي، الدين لله والوطن للجميع، نحن العرب نؤلف جسماً واحداً، نحن أعضاء في الجسم الواحد، كلنا عرب نحن طلاب سلام والسلام هو إستراتيجيتنا.
كتبت الأديبة الكبيرة مهاة فرح الخوري في استقبال المطران: كتاب مفتوح إلى المناضل صاحب الكلمة الحق والمواقف المشرفة: "ألا تسمح لي أيها الحبر الجليل، أقول الأب المحترم، ألا أدعوك مطران القدس في المنفى.. سيدي، كيف تكون في المنفى وأنت في قلب كل واحد منا، والقدس حاضرة في قلبك وفي فكرك وفي وجدانك... لابد أن نجتمع كراماً أعزاء في وطننا فلسطين على أصوات تكبيرات المساجد وأجراس الكنائس، حياتك في روما لم تزدك إلا إيماناً بعروبتك وبمقدسيتك وبنظرتك الشمولية، آمنت بالفداء وعملت لأجله".
"التاج الأسقفي الذهبي المرصع، الذي زيّن الرأس المرفوع كان إكليلاً مزروعاً بالشوك لا بالأحجار الكريمة، كان إكليل عذاب ومعاناة أدمت الرأس والجسم إلى أخمص القدمين وما لبث أن تحول إلى إكليل غار، يعلو جبهة ناصعة البياض دائماً وأبداً".