بالتفاصيل و الأوراق و الوثائق المصرية
القصة الكاملة لاحتلال القدس
منذ سبعين عاما.. وتحديدا فى عام 1947 كانت وزارة الخارجية المصرية تتابع لحظة بلحظة ما يحدث. فخطوات اليهود كانت متسارعة، وكان هناك سعى -كما يقول د. عبد الواحد النبوى وزير الثقافة السابق- من بعض يهود أمريكا لإنشاء حكومة عبرية مؤقتة لليهود فى باريس، وكان لتواصل السفير المصرى حينذاك مع الخارجية الفرنسية دوره فى التأكيد على أن مصر لن توافق على هذه الخطوة.
أما الأمين العام لجامعة الدول العربية فقد وجه خطابا لوزير الخارجية الأمريكية للحد من تشجيع الهجرة إلى فلسطين، فى نفس الوقت الذى استضافت فيه السفارة المصرية فى لندن اجتماعات الوفود العربية.
وفى جلسة مؤتمر لندن فى 4 فبراير عام 1947 قدمت الوفود العربية ردها على رؤية بريطانيا لحل القضية الفلسطينية بعد أن أرسلت قبلها بيومين ردا يتناول النقاط الأساسية التى لا يمكن التخلى عنها ، فأى حل لقضية فلسطين لن يكتب له النجاح ما لم يرتضه العرب، فلابد من استقلال فلسطين، ووقف الهجرة ، والمحافظة على الأراضى العربية.
كانت مصر مستوعبة لكل تفاصيل الموقف، وكان سفير مصر فى واشنطن يرى وقتها فى تقوية العلاقات مع الاتحاد السوفيتى بارقة أمل، وأن اتجاه الدبلوماسية المصرية شرقا وغربا لابد وأن يكون حاسما.
وبالفعل طلب القائم بالأعمال المصرى من إيران تأييد القضية الفلسطينية ، وهو الأمر الذى تكرر مع أفغانستان واليونان وأسبانيا وتركيا التى أوضح الوزير المصرى المفوض بأنقرة أن علاقات المصالح بين تركيا و بريطانيا والولايات المتحدة ستراعى عند التصويت، وأنها ستعطى صوتها إذ أمكن لصالح فلسطين و إلا فإنها ستمتنع عن التصويت.
أرادت مصر منذ البداية أن تدفع ما تراه مأساة تاريخية تسد كل أبواب الأمل فى الأفق بحشد تأييد عربى وإسلامى و أفريقى، كما يتضح من الوثائق المصرية الخاصة بقضية تقسيم فلسطين و الذى جعلته دار الكتب و الوثائق القومية متاحا للقراءة والمعرفة منذ ثلاث سنوات.
فهذه الوثائق لجديرة اليوم بالقراءة والتحليل، وهى أفضل راو لقصة الاحتلال أوالاستحلال ــ إن صح التعبير ــ التى وقعت فى زمن ولى فيه الاحتلال منذ منتصف القرن الماضى.
ولكن فى فلسطين يظل الاحتلال وضعا قائما، لأنه بلغة أهل مصر نجح فى توفيق أوضاعه لكى يستمر، ولكى يصبح هذا الواقع هو الحقيقة ولا حقيقة سواها.
والوثائق مازالت تحكى، فلم يأت عام 1800 إلا وقد وصل اليهود فى فلسطين إلى نحو خمسة آلاف، وارتفع عام 1876 ليصل إلى 14 ألفا. وفى عام 1918 وبعد وعد بلفور ارتفع العدد نتيجة للسياسات الاستعمارية ليصل إلى 55 ألفا أى ما يعادل 8% من عدد السكان.
والمشكلة الأكبر أن العدد داوم على عادته فى التضاعف والتضخم بشكل غير مسبوق حتى وصل عام 1947 إلى 498 ألفا أى ربع سكان فلسطين. أما الأرض فقد سجلت نسبة ما امتلكه اليهود 20% من نسبة أراضى فلسطين الزراعية أثناء فترة الانتداب، ولم يقف الأمر عند هذا الحد فقد استولوا على 625 ألف دونم، وضاعفوه إلى 2 مليون دونم من إجمالى المساحة، ليرتفع بذلك عدد المستعمرات الصهيونية من 47 مستعمرة عام 1914 إلى 274 مستعمرة عام 1946.
أرقام يصعب تصديقها، كما يصعب فهم الواقع الذى تعيشه القدس اليوم، والذى يبدو أنها وصلت إليه عبر سنوات طويلة جدا من التخطيط و لعب الشطرنج السياسى الهادئ الناضج على نار الخلافات الفلسطينية و لهيب الأحداث التى يعيشها العرب منذ بدايات القرن العشرين.
تحتاج فلسطين أكثر من وقفة، ولكن دعونا لا نقفز بالسنوات، فمن المعروف ووفقا لوثائق تاريخية أخرى أن الكنعانيين قد نزحوا إليها قبل عام 3000 قبل الميلاد قادمين من الجزيرة العربية، لتصبح القدس و سائر نواحى فلسطين هى ما يطلق عليه أرض كنعان.
سكن القدس أبناء قبيلة يبوس التى تعود أصولها إلى يبوس أحد أولاد كنعان، وكان ملكى صادق، كما يشير الكاتب سيد فرج راشد أول من خطط لبناء يبوس وتحصينها، وظل هذا الاسم موجود حتى فى سفر التكوين.
أما كلمة أورشليم المتداولة أو مدينة شاليم فهى أرامية الأصل، وقد وجد هذا الاسم مدونا فى نقوش تل العمارنة ببر مصر. وتعنى أور كما يقول المؤرخ د. فتحى عثمان إسماعيل مدينة ويعنى شاليم السلام. ويذكر أن من أهم ملوكها سالم اليبوسى الذى بنى قلعة على جبل للدفاع عن القدس. كانت القدس مدينة جميلة ومفتوحة ومرغوبة، جاءت إليها العديد من القبائل العربية السامية، ومع الفتح الإسلامى اتضحت التركيبة السكانية والحضارية مع اعلان العهدة العمرية لعمر بن الخطاب التى تؤمن كل الطوائف على شعائرها. فقط كان من عليه الخروج هم الروم واللصوص، غير أن اليهود تحايلوا وإن كان لهم سجلهم السابق فأرادوا أن يتواجدوا فى المدينة من خلال قيامهم بخدمة المسجد الأقصى، وهو ما لم يقره الخليفة عمر بن عبد العزيز. ويتغير الحال مع الحروب الصليبية التى جعلت من بيت المقدس مكانا خاصا بهم وحدهم، وهو المشهد المجحف الذى لم ينته إلا على أيدى صلاح الدين الأيوبى الذى جعل باب التسامح و التعايش مفتوحا فى القدس، وهو ما مهد لاستتباب الأمن والأمان للمسلمين والمسيحيين على حد سواء، وسمح بمجيء أعداد من اليهود استفادوا جميعهم من هذه الفترة من التسامح الدينى، وقد كانوا قبلها كما يؤكد د. محمد فرحات وبشهادة المؤرخ أرنول و الرحالة دى دايتسون والشاعر اليهودى الأسبانى يهودا الحريزى لا يسمح لهم بدخول القدس. هذا المناخ من التسامح الدينى منحته مصر مرة أخرى للقدس، فما منحه صلاح الدين حاكم بر مصر والشام تكرر مع محمد على باشا صاحب سياسة التسامح تجاه الطوائف الدينية غير الإسلامية. وتشير وثائق الشام كما يشير د. صبرى العدل إلى تزايد عدد الطائفة اليهودية، والسبب هجرة اليهود الاشكناز من بولندا، بينما حاول اليهود السفارديم الحصول على امتيازات فطلب الحاخام مورينه وكيل الطائفة اليهودية بالقدس الإذن بإعادة بناء المعبد اليهودى القديم، فأذن له قاضى القدس. ولكنهم يكتفوا بهذا، ولا بتمثيلهم فى مجلس شورى القدس، فالقضية لديهم كانت التحايل واستغلال الظروف وشراء الأملاك نظير دفع الضرائب، وهو ما رفضه أعضاء مجلس القدس الشريف بعد أن تداولوا الأمر، وقرروا عدم جواز قيام اليهود بشراء العقارات والأراضى بالقدس، و لكن سمحوا لهم بالتجارة. ومع اجهاض مشروع محمد على باشا الكبير أصبح للفكرة الصهيونية كما يقول ناحوم سوكولوف رئيس المنظمة الصهيونية واقعا عمليا، فالآن يمكن استعادة أراضيهم كما يظنون و يتطور الأمر حتى أن مشروع السلطان عبد الحميد الثانى لاحياء الدولة العثمانية يفشل أمام محاولات هرتزل المطالب بالوطن الصهيونى، وهو الأمر الذى يطرح كما يقول الباحث د. عبد الحميد سليمان تفسيرا مقنعا لأسباب الإطاحة به إثر وقوع الانقلاب العثمانى عام 1908.