سور عكا ومنديل أم كلثوم
منديلها ضابط إيقاع يبرق لفيلق من عشاق يتنافسون على حب من لا يعرفون أما قلبها فلا شأن لنا به من فرط ما هو قاس ومغلق كحبة جوز يابسة، هكذا قال محمود درويش عن كوكب الشرق أم كلثوم التي كانت تظهر في حفلاتها الغنائية حاملة بيدها منديلها وكان لها قبل ذلك معاناتها الصعبة بسبب شعورها بالخوف والتوتر والخجل من رهبة الجمهور كلما صعدت إلى المسرح وذلك منذ بداياتها وهي الفتاة الملتزمة والمثقفة والمنتمية لبيئة إجتماعية متماسكة ومحافظة دخلت عالم الفن بحذر شديد، وازداد شعورها بالخوف والخجل والتوتر أكثر بعد وصولها إلى القاهرة حيث عالم الفن والثقافة والصحافة والإعلام، وفي تلك الفترة كانت أم كلثوم تنشد وتغني القصائد والموشحات وكان والدها الشيخ إبراهيم وشقيقها الشيخ خالد إضافة لعدد من أقاربها يقفون خلفها ليعطوها القوة والسند والراحة لتداري خوفها وخجلها وتغني منفردة بدون أي موسيقى وبعد فترة طويلة من إقامتها في القاهرة وانتشار إسمها تم تبنيها من قبل كبار الموسيقيين والشعراء أبرزهم الشاعر أحمد رامي والملحن محمد القصبجي والمفكر الأزهري مصطفى باشا عبد الرازق الذين عملوا متطوعين على إسداء المشورة والنصح لها وتقديم الإقتراحات المناسبة وإزالة العقبات أمام غنائها ووقوفها على المسرح وقبلت أم كلثوم النصائح وسجلت في الإذاعة وعلى اسطوانات عدد من القصائد بصحبة تخت موسيقي صغير وظهرت على المسرح أمام الجمهور بداية بدون فرقة موسيقية ثم مع فرقة موسيقية مؤلفة من الملحن محمد القصبجي على العود ومحمد أفندي العقاد على القانون وسامي الشوا على الكمان ومحمود رحمي على الرق وعندما فتحت الستارة في أول حفلة لها مع الفرقة كانت قاعة المسرح ممتلئة بالجمهور ووقفت أم كلثوم لتغني ولكنها أصيبت بحالة من الخوف وبدأت ترتجف يديها ثم أغمضت عينيها وغنت بقلق شديد لتشعر أم كلثوم بعد إنتهاء الحفلة بالأسى الشديد لما جرى معها واستمرت هذه الحالة إلا أن تعرفت على مساعدتها الفلسطينية مريم داوود وهي التي جعلت أم كلثوم تتخلص من هذه الحالة حيث قالت لها: في بلادنا الجميلة وتحديداً في مدينة عكا الساحلية وأسوارها المنيعة التي هزمت الغزاة والخوف بسواعد أبطال المدينة والمناديل التي تصنع من الحرير وتصبغ بالأرجوان وكانت النساء والرجال في عكا وكانوا يصنعون منها حبلاً ويتسلقون على السور للوقوف على أبراجه العالية لمراقبة الغزاة ومنهم نابليون وجنوده الذين هزموا على أسوار عكا وبسبب هذه المناديل كان أهالي عكا يبنون عضلاتهم ويشعرون بالقوة كما أن المناديل إستخدمت من قبل أهالي عكا لكسر حاجز الخوف والرهبة عند القفز من السور إلى البحر حيث يأتون إلى نقطة على السور تسمى (الطاقة) وهي المكان المفتوح في السور الذي يرتفع حوالي عشرة أمتار ويقفزون منها إلى البحر. وقالت مريم داوود لأم كلثوم هناك مثل شعبي يقول لو عكا بتخاف من البحر ما سكنت عالشط وأنت صوتك ساكن قلوب الناس وفي حنجرتك جوقة إنشاد وأوركسترا ساحرة وشمسك ضاربة مثل شمس عكا يلي ما بتغطيها شماسي ولتتخلصي من حالة الخوف والرهبة الشديدة أنصحك عندما تقفين على المسرح أن تمسكي بيديك منديلاً تفرغي فيه ما يصيبك من قلق وأيضاً تجففي به ما يتصبب من يديك من عرق وقد سمعت أم كلثوم نصيحة مساعدتها وحملت المنديل الذي لم يعد يفارقها في كافة حفلاتها الغنائية واصبح المنديل يتمايل مع رقة وجمال صوتها وموسيقى أغنياتها كالأطلال وأنت عمري وفكروني ودارت الأيام وغداً ألقاك.
وحين زارت أم كلثوم حيفا ويافا والقدس طلبت من مساعدتها أن تأخذها لرؤية سور عكا حيث شعرت في هواء الأزقة موسيقى ورأت من الشبابيك أغاني وحين وقفت عند نقطة الطاقة وشاهدت طفلة عمرها ثماني سنوات تقفز عن السور وتضحك وتشعر بمتعة كبيرة وبعد خروجها من البحر رغم المخاطر أعجبت أم كلثوم بالطفلة سألتها: ألم تخافي فردت الطفلة أبوي رماني والله حماني. ثم قدمت أم كلثوم لها هدية وأخذتها الفتاة وذهبت مسرعة إلى بيتها القريب وعادت حاملة لأم كلثوم هدية وهي عبارة عن منديل حرير مطرز بأيادي عكاوية لم تستخدمه أم كلثوم في حفلاتها ولكنها إستخدمت الكثير من المناديل المصنوعة من الحرير والشيفون الفاخر والألوان التي تتناسب مع فساتينها وإكسسواراتها.
ورغم رحيلها المحزن في الثالث من شهر شباط عام 1975 بقي منديل أم كلثوم في الذاكرة وبقي سور عكا صلباً مقاوماً يستند إليه العشاق والشعراء والمغنون وهم يرددون: لو شربوا البحر أو هدوا السور لو سرقوا الهوا أو خنقوا النور ما ببيعها لعكا بالدنيا كلها وما ببدل حارتي ولا بقصور.