بين مناحيم بيغين 1981 ومقتلة عين الرمانة 2021 بعد 40 عاماً:
“من يحمي المسيحيّين العرب؟”
دكتور فكتور سحّاب:
بين تصريح مناحيم بيغين، رئيس وزراء إسرائيل عام 1981 بأنه “سيحمي المسيحيين في لبنان”، وكمين عين الرمانة في 14 تشرين الأول/ أكتوبر 2021، أربعون عاماً ونيّف.
يومذاك، عام 1981، أصابني قلق شديد، بأن هذا التصريح يبيّت لعمل إسرائيلي ما في لبنان. وقد حدث فعلاً بعد سنة من صدور هذا التصريح، اجتياح لبنان، وما جرّ وراءه من أحداث وكوارث حلّت بالمسيحيين، باتت معروفة. وأما في عام 2021، تعقيباً على حوادث عين الرمّانة، فقد قيل فيها إن المقتلة وقعت، من أجل “حماية المسيحيين” اللبنانيين.
ومنذ اربعين عاماً، وبعد تصريح بيغين، وقبل الاجتياح، كتبتُ أربع مقالات نُشِرَت في صحيفة “النهار” اللبنانيّة، تحت عنوان “مَن يحمي المسيحيّين العرب؟”. وقد اتصل يومذاك العلامة الدستوري والمؤرخ اللبناني الكبير إدمون ربّاط، بالسيدة جانين ربيز، وهي كانت إحدى الناشطات البارزات في المجال الثقافي، وأصرّ على ضرورة نشر المقالات الأربع في كتاب، بعدما أبدى إعجابه الشديد بها.
فعلاً، نَشرتُ الكتاب[1] عام 1981 في “دار الوحدة” اللبنانية، في 152 صفحة من القطع الصغير، وقد تضمَّن المقالات الأربع، مع تسع وثائق تأريخيّة من مصادر مختلفة، قديمة وأقل قدماً، في هذا الموضوع.
ماذا جاء في المقالات الأربع؟
لقد أوجز النص الذي ورد على الغلاف الأخير من الكتاب، جوهر مضمونه في مسألة “حماية المسيحيّين العرب”. إذ جاء في هذا النص:
واجه المسيحيّون العرب ثلاث حقب رئيسيّة من الاضطهاد في تاريخهم الطويل، أدّت إلى معاناتهم وتقليص وجودهم وتهديد مستقبلهم.
فكلّما امتدّت يد الغرب إلى المنطقة، أيام بيزنطية، ثم أيام دولة الصليبيّين، فأيام السيطرة الغربيّة المعاصرة، كانت المجتمعات المسيحيّة العربيّة تتعرّض لمخاطر الاضطهاد والقمع والإبادة. وكلّما كان التدخّل الغربي ينحسر، كان الاضطهاد ينحسر معه. هذا ما تؤكده وثائق التاريخ.
فما هي الحقيقة اليوم في شأن حماية الغرب للمسيحيّين العرب؟ ومَن الذي يحمي الآخر في الواقع: أهو الغرب أم المسيحيّون العرب؟
لقد كانت دولة العروبة المناهضة لسيطرة الغرب، على طول التاريخ، متسامحة مع المسيحيّين العرب. وإن نسبة هذا التسامح إلى سموّ خُلُقي، هي تفسير غير مُقْنِع. فالعروبة الساعية إلى الاستقلال عن الغرب، لها مصلحة عليا في منع اضطهاد المسيحي العربي، لمنع التفتيت والتفكيك. والغرب في المقابل، يحتاج إلى هذا التفكيك حتى يهيمن.
والتسامح الديني هو دفاع عن الذات في دولة العروبة المستقلّة، أما التقاتل الطائفي فهو الحليف الطبيعي للسيطرة الغربيّة.
فإذا أراد المسيحيّون العرب أن يختاروا الدولة التي تناسبهم وتحميهم، حتى يعملوا لأجل تحقيقها، فعليهم أن يتساءلوا بإخلاص وصدق:
هل يحزن ساسة الغرب لاضطهاد المسيحيّين العرب، أم يبتهجون؟
وفي الأسطر الاولى من الفصل الأول، جاء النص التالي: من يقول إن المسيحيّين العرب لم يعانوا الاضطهاد في تاريخهم الطويل، يناقض الحقائق التاريخيّة التي لا يختلف فيها اثنان.
بلى! المسيحيّون العرب اضطُهِدوا أشد الاضطهاد، ثلاث مرّات في العموم. هذه المرّات الثلاث هي المحطات الكبرى التي واجه فيها المسيحيّون العرب، بصفتهم هذه، أوقاتاً عصيبة لانتمائهم الديني، لم يكونوا ليواجهوها لو كان انتماؤهم الديني مختلفاً.
إن التاريخ للشعوب كالذاكرة للطفل، فالطفل حين يشعل عود ثقاب، فيحرقه العود، إنما يسجّل في ذاكرته أن عود الثقاب مُحرِق، ويتعلّم كيف يتدارك الأمر كلما أمسك عود ثقاب، حتى لا يتكرّر الاحتراق. هكذا التاريخ يحفظ في ذاكرته تجارب الشعوب، فتتعلّم أن هذا المسلك قد يُهلكها أو يعرّضها للخطر.
نحن المسيحيّون العرب، إذا وضعنا نُصبَ أعيننا تحقيق مصالحنا ومصالح أبنائنا وحدها، دون سائر العرب المسلمين، وإذا سعينا إلى أن نستخلص من تاريخنا الدروس لحماية مستقبلنا ومستقبل أبنائنا في هذه الرقعة من العالم، فما الذي يقوله لنا التاريخ؟
ثم حدّد الكتاب، مفهومه لعبارة: الاضطهاد الديني، فأشار إلى أنها لا تعني كل مشكلة أو اقتتال، بين مسلم ومسيحي، فلا المسلمون جميعاً منزّهون عن الجريمة، ولا المسيحيّون جميعاً قديسون طاهرون عاجزون عن الأذيّة. والظلم يحدث أينما كان وأنى كان. لكن عبارة الاضطهاد الديني، في هذا الكتاب، تعني حملة القتل الجماعي، لسبب أساسي واحد هو الانتماء الديني.
وبعد استعراض بحثي معمَّق وموسّضع لتاريخ المسيحيّين العرب، تبيّن أن الاضطهاد الديني لهم، حدث في ثلاث حقب أساسيّة، كان الغرب فيها هو المسيطر على منطقتنا، أيام الحكم البيزنطي (الاقتتال بين كثرة المسيحيّين “المونوفيسيين” المعارضين للحكم البيزنطي في أرمينية وبلاد الشام ومصر، وبين القلة المسيحيّة “الخلقيدونية” المناصرة لبيزنطية)، ثم الصليبي (أربعة أخماس سكان بلاد الشام مسيحيون قبيل الحملات الصليبيّة، أي بعد خمسة قرون من الحكم الإسلامي، تحوّلوا إلى قلّة بعد تلك الحملات)، ثم العصور الحديثة (خصوصاً في جبل لبنان، حيث أدى تدخل أوروبة، لا سيما فرنسة وبريطانية، إلى تسعير الاقتتال الطائفي عامي 1840 و1860)، وفي الحقب التاريخيّة الثلاث، كان الغرب هو الفاعل الأساسي للاضطهاد، أو الحافز الأول عليه.
فالخلقيدونيين الذين صار بعضهم فيما بعد موارنة، لجأوا قبل الإسلام، إلى جبال لبنان، هرباً من الاقتتال المذهبي في بلاد الشام ومصر، بين أنصار بيزنطية المسيحيين الخلقيدونيين (ومن بعضهم تشكّلت الطائفة المارونية، في أواخر القرن السابع تحت الحكم الإسلامي)، وبين المسيحيين القائلين بوحدة الطبيعة في السيد المسيح. كانت بيزنطية تدعم أنصارها المذهبيين ضد الكثرة الغالبة من أنصار وحدة الطبيعة، في كل من أرمينية، وبلاد الشام، ومصر. وحدثت مذابح بين مذهبي القلّة البيزنطية الميول، والكثرة المعارضة[2].
أما ما حدث في المرحلة الصليبيّة، فإن لدى مؤرخ كتاب “تاريخ دمشق الكبير” إبن عساكر (وهو كتاب سبق الفترة الصليبيّة) دليلاً تاريخيّاً أساسياً، إذ ذكر أن أربعة أخماس سكان بلاد الشام (أي 80% من سكان ما صار فيما بعد سورية ولبنان وفلسطين والاردن) كانوا مسيحيين. وانقلبت النسبة بعد الحروب الصليبيّة كما نعلم.
أما في القرن التاسع عشر، حين كانت الدول الأوروبيّة تخطط لتفكيك السلطنة العثمانية، ولتقاسم ممتلكاتها، فقد أخذ قناصل تلك الدول في جبل لبنان وفي أرمينية، وغيرهما، يسعّرون البغضاء الطائفيّة، بشتى الوسائل. وتفيدنا في ذلك الوثائق التي نشرها الدكتور عادل اسماعيل، في 36 مجلداً، وفيها نصوص كاملة لمراسلات القناصل مع وزارات الخارجية في بلدانهم الأوروبية.
حلّت سنة 1982، بعد سنة من نشر الطبعة الأولى لكتاب “من يحمي المسيحيين العرب”، واجتاحت إسرائيل لبنان، واصطنعت معاونين أو متعاونين لها من اللبنانيين، تحت شعار: حماية المسيحيين. وقد هُجِّرت قرى كثيرة في الجبل اللبناني، سكانها مسيحيون، تحت سمع الإسرائيليين وبصرهم، وفي ظل طيرانهم ومدافعهم ودباباتهم، وتحريضهم وتأجيجهم المبغضة الطائفيّة.
ثم حلت سنة 2011، مع “ربيعها العربي”، حين كان المسيحيّون في كل من العراق وسورية، وهو “ربيع” أنشأ الغرب لأجله المنظمات التكفيريّة المتستّرة بالإسلام. تشهد على ذلك الوثائق، وكذلك “شاهد من أهله”، هو وزيرة الخارجيّة الأمريكيّة السابقة هيلاري كلينتون. فأين أصبح مسيحيّو العراق، بعد الذي حدث هناك، وكاد أن يحدث مثله في سورية، لولا تدخل فرقاء مسلمين، أكانوا منتظمين في جيش أو في تنظيم أو حركة شعبية؟
يقول جيمس جورج فريزر، في كتابه “الغصن الذهبي”، إن الحياة السياسيّة لدى شعوب إحدى الجزر في المحيط الهادئ، لا وجود لها بالمعنى المتطوّر، لأن هذا الشعب يؤمن بأن ذكر الموتى يستدعي أرواحهم، التي تعود لتأخذ معها بعض الأحياء. ولأنهم يحظرون ذكر الموتى، فإنهم يحظرون بالطبع تسجيل تاريخ ملوكهم الذين ماتوا، والحوادث التي سبقت. إذن فلا تاريخ عندهم، ولا قدرة على الاستفادة من التجارب السالفة.
ولا يعني هذا أن تسجيل التاريخ يحل كل المشكلات. فمن لا يقرأ تاريخه كمن لا يسجّله. ومن لا يتعلّم من قراءة التاريخ كمن لا يقرؤه.
نحن المسيحيّون العرب، إذا وضعنا نُصبَ أعيننا تحقيق مصالحنا ومصالح أبنائنا وحدها، دون سائر العرب المسلمين، وإذا سعينا إلى أن نستخلص من تاريخنا الدروس لحماية مستقبلنا ومستقبل أبنائنا في هذه الرقعة من العالم، فما الذي يقوله لنا التاريخ؟
[1] “من يحمي المسيحيّين العرب”، دار الوحدة، ط 1 بيروت 1981، ط 2 بيروت 1986. وهو متاح مجاناً على الرابط الإلكتروني:
https://www.noor-book.com/en/ebook-%D9%85%D9%86-%D9%8A%D8%AD%D9%85%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B3%D9%8A%D8%AD%D9%8A%D9%8A%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A8–pdf[2] أنظر كتاب: فتح العرب لمصر، لألفرد بتلر، تعريب فريد أبو حديد بك، مكتبة مدبولي، القاهرة