الكاتب
بتاريخ: March 5, 2003
المسكوت عنه في فلسطين
بقلم: فهمي هويدي
صحيفة الأهرام 4/3/2003
لأن الفلسطيني أصبح مخلوق الله المستباح, فإن وقائع إبادته وتدمير حياته وإذلاله, التي تطالعنا بكثافة وبوتيرة يومية منذ أشهر, باتت أخباراً عادية لا تثير الانتباه فضلاً عن أنها لا تحرك الشعور. ولئن حدث ذلك في غمرة انشغال الناس بأخبار الحرب التي لم تقع, فما بالك به لو وقعت!
(1)
يوم الأحد الماضي (23/2/2003) نشرت الصحف خبراً من روما يقول: إن ألفي شخص نظموا مظاهرة طافت بشوارع المدينة, رفعوا خلالها لافتات طالبت بحماية كرامة القطط. وقال منظمو المظاهرة من ممثلي جماعات الدفاع عن القطط إن في المدينة150 ألف قطة شاردة, لا يعاملها سكان المدينة بطريقة لائقة, في حين أنها أحوج ما تكون إلى الرعاية خصوصاً في أجواء الصقيع التي تعيشها أوروبا الآن.
في اليوم ذاته نشرت الصحف تقريراً من نابلس عن الاجتياح الإسرائيلي لأحياء المدينة القديمة, بما استصحبه من إطلاق عشوائي للنيران وتفجير البعض لستة بيوت, الأمر الذي أدي إلى تشريد 14 أسرة, وخروج الأمهات والأطفال وهم يرتجفون إلى الشوارع المغطاة بالثلوج والأوحال. الرجال اختطفوا واخذوا تحت جنح الظلام إلى مكان مجهول وهم مقيدون بالحبال. أما النساء والأطفال, فقد هاموا على وجوههم بحثاً عن مكان يؤويهم من البرد والفزع.
حين طويت الصحيفة لاحقتني فكرة المقارنة بين حظوظ القطط في روما, وحظوظ الفلسطينيين في الأرض المحتلة, وبدت المفارقة كاشفة ومروعة بين قطط شاردة وجدت من يدافع عن كرامتها وحقها في الحياة هناك, وبين رجال يساقون إلى الموت تحت جنح الظلام, ونسوة وأطفال في فلسطين يواجهون مشكلة التشرد, ولا أحد في العالم يعيرهم التفاتاً أو يدرك أن لهم كرامة أو حقاً في الحياة.
المذهل في الأمر أن عملية الإبادة والتدمير اليومي للبيوت والمرافق والإنسان الفلسطيني أصبحت جزءاً من نمط الحياة في الأرض المحتلة, حيث كتب على سكانها أن يعانقوا الموت والذل والخراب طوال الوقت. ولأن العملية لم تتوقف منذ بدأت الانتفاضة (في عام ألفين) فإن أحداثها ووقائعها تحولت في الخطاب الإعلامي والسياسي إلى أرقام. وصرنا ونحن في الخارج نقرأ أن كذا شهيد قتلوا وكذا جريح سقطوا, وكذا بيتاً تهدم, ومع اعتياد الناس على تلك الأرقام, فإن كثيرين أصبحوا يقرأونها كما يقرأون أخبار الصعود والهبوط في أسهم البورصة. يرفعون حواجبهم إذا ارتفعت قيمتها, ويقلبون شفاههم إذا ما انخفضت. لكن هذا وذاك لا يغير كثيراً من مزاجهم وهم يحتسون قهوة الصباح.
(2)
في غزة وحدها هدم الإسرائيليون منذ بدء الانتفاضة نحو800 منزل تسكنها1100 عائلة تضم ستة آلاف شخص, حسب إحصاءات وكالة غوث اللاجئين. وهذه المنازل سويت بالأرض, ولم يعد فيها حجر فوق حجر. ومذبحة المنازل هذه جديدة في تعامل الإسرائيليين مع الفلسطينيين, والهدف منها يتراوح بين الانتقام والترويع. في السابق كانت "إسرائيل" تهدم بيتاً أو اثنين كل عدة أشهر, كما ذكرت كارين أبو زيد, إحدى موظفات وكالة الغوث. ولكن حين أصابت الانتفاضة "إسرائيل" بالوجع, خصوصاً من خلال العمليات الاستشهادية, فإن لوثة أصابت ساستها وعسكرييها الذين أطلقوا عنان الدبابات والجرافات التي أصبحت تهدم البيوت بالعشرات. ولم يكن ذلك مقصوراً على غزة وحدها بطبيعة الحال, وإنما انطبق بذات القدر على الضفة. وهدم البيت ليس مجرد تقويض لمبنى, ولكنه في حقيقة الأمر تدمير لحياة أسرة كاملة, وإعادتها إلى نقطة الصفر, بلا مأوى أو أثاث أو حتى ثياب, الأمر الذي ينسف كل ما دبرته ووفرته في حياتها, ويحول من بقي على قيد الحياة منهم إلى مشردين ومتسولين. ناهيك عن كونه جريمة غير إنسانية لا نظير لها, بمقتضاه تعاقب الأسرة بمختلف أجيالها المكدسة في البيت, من جراء فعل منسوب إلى أحد أفرادها, وهو في العادة أحد عناصر مقاومة الاحتلال.
ناهض الحلو من أبناء غزة لم يكن من هؤلاء ومع ذلك نسف بيته في إحدى الحملات الإسرائيلية المجنونة على القطاع. بل وقتل ابناه علاء وسعيد مع ابن خالتهم تامر درويش, حين انهار المبنى فوق رؤوسهم, واختلطت أشلاؤهم بالركام كما اختلطت دماؤهم بالوحل الذي غمر المكان.
في مخيم المغازي بالقطاع, حاصرت القوات الإسرائيلية منزل سلامة بن سعيد, والد الشهيد بهاء, الذي كان قد نجح في اقتحام إحدى المستعمرات, واعتقلت ثلاثة من أخوة الشهيد, ثم قامت بتفجير المبنى الذي انهار فوق أم الأولاد كاملة سليمان بن سعيد (65 سنة) - ووقع الحادث عقب تفجير مبنى آخر في بيت لاهيا سقط فوق مالكه الذي كان عجوزاً في السبعين من عمره.
في غزة أيضاً جلست عجوز كفيفة في التسعين من عمرها فوق أنقاض منزلها الذي دمر في حياتها خمس مرات, في حين قتل الإسرائيليون أبناءها الأربعة واحداً تلو الآخر. لم يبق في عين العجوز - أم عابد الزريعي - دمع تذرفه, ولا أمل في الدنيا تتعلق به, حتى أرادت أن تدفن مع الأنقاض وحدها. الأمطار الغزيرة اضطرتها إلى مغادرة المكان والاحتماء بجدار نجا من التدمير.
في قرية النبي الياس القريبة من قلقيلية, فوجئ محمد حنون, أبو شادي, بالجرافات الإسرائيلية وهي تنهش أشجار الزيتون التي تعتاش منها أسرته, أذهلته المفاجأة, ولم يصدق أن كل ما زرعته عائلته ورعته عبر مئات السنين قد اقتلع وسوي بالأرض, فلم يتمالك نفسه, وسقط على الأرض بغير حراك. وحين نقلوه إلى المستشفى قال الأطباء إن جلطة قلبية داهمته فأصابته بفقدان النطق والشلل.
في مخيم بلاطة بمدينة نابلس اقتحم الإسرائيليون بيت محمد مسيمي لاعتقال ابنه الناشط في كتائب الأقصى. وحين لم يجدوا الابن, أمروا العائلة بمغادرة المبنى, فانصاعوا بطبيعة الحال, لكنهم حين عادوا إليه بعد حين صدمهم الخراب الذي حل به, فسقط الأب على الأرض من هول ما رأى, حيث أصابته نوبة قلبية أودت بحياته.
هذه مجرد نماذج للأحداث اليومية التي أصبحت تقع على هامش عمليات الاجتياح وتجريف الأرض والقتل المتعمد, الذي يستهدف الناشطين أو ذلك العشوائي الذي يراد به الترويع والتركيع.
(3)
هدم البشر وإذلالهم لا يقل خطورة, وربما كان الأخطر, لأنه يراكم المرارة والحزن, ويحول الناس بمختلف أعمارهم إلى قنابل غضب موقوتة تمشي على الأرض. وذلك وجه للمشهد الفلسطيني لا يراه كثيرون. لأن التقارير الصحفية ووسائل الإعلام تركز على الصفحات المكتوبة بالدم في السجل الفلسطيني, ولا تتوقف كثيراً عند تلك المكتوبة بالدمع والتي ترسمها الزفرات والشهقات والمرارات.
في 16/11/2002 قدم التليفزيون الإسرائيلي برنامجاً تضمن شهادات لجنود خدموا في الضفة الغربية, ذكروا أن قادتهم سمحوا لهم بالرهان فيما بينهم على إطلاق النار على الفلسطينيين لمجرد التسلية وقتل الوقت. وشهد الجنود بأن عدداً من قادتهم أمروهم بأن ينهالوا بالضرب المبرح على كل من يصادفونه من الذكور في أثناء مداهمة بيوت الفلسطينيين. أحدهم قال: إنه رأى ثلاثة من زملائه في نابلس أوسعوا ثلاثة شبان فلسطينيين ضرباً حتى نزفت الدماء منهم. ثم قاموا برسم شعار لواء المظليين الذي ينتمون إليه على الحائط بتلك الدماء النازفة. آخرون من لواء المشاة هناحل قالوا إنهم قاموا بنتف لحي ثلاثة من الشيوخ الفلسطينيين في إحدى خرائب بلدة دوروا شرق مدينة الخليل. شهد بعضهم أيضاً بأنهم رأوا زملاءهم وهم يطلقون النار عامدين على الدواب والماشية الفلسطينية. وفي إحدى المرات قتلوا 15 رأس ماشية دفعة واحدة. في البرنامج أقرت الشرطة العسكرية بأنها سجلت250 حالة قام فيها جنود الاحتلال بنهب وسرقة البيوت الفلسطينية في أثناء الاقتحام.
فاطمة النجار زوجة أحد صيادي الأسماك الفلسطينيين الذين يسكنون منطقة المواصي الساحلية غرب خان يونس, ذهبت إلى المدينة لشراء مادة كيماوية تستخدم في صيانة السفن, وأثناء عودتها أوقفها حاجز عسكري. وحين عرف الجنود الإسرائيليون طبيعة المادة التي تحملها, أمرتها إحدى المجندات بأن تشرب المادة الكيماوية. رفضت فاطمة فانقضت عليها ثلاث مجندات وقمن بتقييدها, ثم وضعن المادة الكيماوية في فمها رغماً عنها. الأمر الذي أدى إلى انهيارها, وحين نقلت إلى المستشفى الأوروبي تبين أن المادة الكيماوية أحدثت مشاكل صحية في الحنجرة والمعدة, نتج عنها سوء هضم وصعوبة في الكلام, ولا تزال تحت العلاج حتى الآن.
(4)
تحولت الحواجز إلى مذبح للكرامة الفلسطينية, وساحة لتوزيع جرعات المذلة والهوان على الجميع بلا تمييز. على حاجز عين عريك المقام على طريق رام الله ـ بيرزيت اصطف أكثر من ثلاثين رجلاً فلسطينياً بينهم فتاة واحدة اسمها مريم, لم يسمح الجنود للرجال بالعودة إلى منازلهم, وأجبروهم على جلوس القرفصاء وطأطأة رؤوسهم, وكل من احتج أو رفع رأسه ضرب وانهال عليه الجنوب صفعاً وركلاً. أما مريم فقد سمعت من الكلمات الفاحشة والحركات البذيئة ما لم تسمعه في حياتها. وحين وصل إلى الحاجز سائق سيارة أجرة اسمه إبراهيم - قبل ربع ساعة من رفع حظر التجوال عن المدينة, فإنه عوقب بانتزاعه من وراء مقوده, وتناوب أربعة جنود مدججين بالسلاح على ضربه إلى أن سقط فاقدا وعيه. وحينئذ التفت الجنود إلى سيارته, وانهالوا عليها بأعقاب بنادقهم حتى هشموها. وبدل أن يوصل إبراهيم ركاب سيارته إلى المدينة, فإن الركاب هم الذين تولوا أمر نقله إلى المستشفى.
قسم الإسرائيليون الضفة الغربية إلى300 منطقة احتلالية تفصل بينها الحواجز, الأمر الذي فرض على الفلسطينيين طقوساً خاصة, من قبيل التأكد من احتشام ملابسهم الداخلية, بعدما باتت تعرية الشبان فضلاً عن كبار السن, جزءاً لا يتجزأ من متطلبات اجتياز الحواجز. ولا يقف الأمر عند ذلك الحد, وإنما كثيراً ما يطلب من كبار السن - إمعاناً في إذلالهم - أن يأتوا بحركات ساخرة معينة أو أن يرقصوا أمام الجنود, قبل أن يسمح لهم بالمرور!
ذات يوم خرج الفتى وسام عشراوي لشراء بعض حاجياته في الخليل, فـأوقفته دورية تابعة لحرس الحدود, وصرخ في وجهه أحدهم قائلاً: إنه خالف نظام حظر التجوال, ولابد من عقابه. وكانت عقوبة اليانصيب تنتظره, حيث أمر بالاختيار بين أوراق أربع مطويات كتبت في كل واحدة منها إحدى عقوبات اليوم, وحين مد يده وهي ترتعش ليأخذ واحدة منها, قام الجندي الإسرائيلي بعد قراءتها بانتزاع يد وسام, ثم كسر إصبعه ومضى! تكرر المشهد مع فلسطيني آخر اسمه حجازي أبو ستيتة, الذي ما أن التقط واحدة من الأوراق التي عرضت عليه, حتى انهال الجنود عليه بالضرب على الساقين واليدين والظهر, ثم ألقوا به في حوض للمياه, تنفيذا للعقوبة التي اختارها.
عقوبة اليانصيب لم تختلف عن فكرة التعذيب بالقرعة, التي كان من ضحاياها علي الطرايرة, عامل الدباغة في الخليل, الذي خرج ليتسلم عمله ذات صباح, فاعترضته سيارة لحرس الحدود الإسرائيلي, وأمرته بعدم التحرك من مكانه. وحين امتثل احضروا دلوا بلاستيكياً وفيه مجموعة من الأوراق, وقال أحدهم: في كل واحدة من هذه الأوراق هناك أسلوب تعذيب مختلف, وعليك أن تختار ما يروق لك.
فهناك تكسير أصابع القدم, أو إطلاق الرصاص على القدم, أو الضرب أثناء الرقص, غير مفاجآت أخرى.
طبقا لما نشر في الشرق الأوسط ( عدد10/1 الماضي) فإن الطرايرة لم يجد مفراً من الاستجابة, وحين التقط إحدى الأوراق, تناولها أحد الجنود, وعرضها على رفاقه, فإذا بهم يتصايحون بشكل هستيري, وقام أحدهم بعرضها عليه, وفوجئ بأن كتب عليها: تكسير اليدين والرجلين. ولم يضيع الجنود دقيقة من الوقت, حيث انهالوا عليه بالضرب المبرح وبأعقاب البنادق حتى سقط أرضاً - وصف الطرايرة ما جرى قائلاً: بعد وجبة الضرب المتواصل والمبرح أمسك اثنان من الجنود بإحدى ذراعي وقام ثالث بالضرب عليها بقضيب حديدي كبير, عندها فقط شعرت أنهم جادون في تحطيم عظامي. وانتقلوا بعد تكسير الذراع الأولى إلى الذراع الأخرى. وبعد الانتهاء من هذه المهمة راحوا يوجهون الضرب وبشكل جنوني إلى كل أنحاء الجسم. غاب الشاب عن الوعي ولم يعد يدري بعدها ما حدث له, ولم يستيقظ إلا وهو في المستشفى, بعد أن نقلته عائلة فلسطينية مرت في المكان الذي غادره الجنود وتركوه فيه ليلاقي حتفه.
للتنكيل درجات أخرى أشد وأفظع, تتحدث عنها روايات سكان المناطق النائية في الجنوب الشرقي للضفة, حيث ذكر أحد القرويين أن الجنود عرضوا عليه أن يختار إحدى الأوراق, فإذا قرعته تقضي بقطع العضو الذكري, وبالفعل كما يقول أجبره الجنود على التعري, لكن مرور مجموعة من الصحفيين الأجانب في المكان حال دون قيام الجنود بما كانوا ينوون القيام به, وأطلقوا سراحه.
في منطقة رام الله ووسط الضفة الغربية هناك أساليب تنكيل وإهانة أخرى. فمثلاً يقول زهير حداد من بلدة دير دبوان, إنه كان عائداً من مدرسته في سيارة أجرة, عندما استوقفها حاجز طيار للاحتلال على مشارف القرية, فطلب أحد أفراد الدورية الإسرائيلية من حداد أن يترجل من السيارة, وطلبوا منه أن يرقص, فرفض فانهالوا عليه بالضرب المبرح, لكنه بعد أن أخذ منه الألم مأخذه وجه نفسه يرقص, بينما كان الجنود يصورونه بكاميرا فيديو!
(5)
احتفظ بملف حافل بوقائع الاعتداءات الوحشية على زوجات المعتقلين, ومحاولة النيل من شرفهن, لإذلال الأزواج وإجبارهم على الاعتراف. وهذه الاعتداءات طالت الأطفال الذين أودعوا السجون وخضعوا لعمليات تعذيب وتشويه بشعة. ومن أسف أن الحيز المتاح لا يسمح بعرض تلك الوقائع. لكن ما يهمني في هذا السياق أن نتأمل ذلك الوجه المسكوت عليه, ونتدبر شهادة لأحد المعلقين الإسرائيليين, (حيمي شليف), الذي كتب في صحيفة معاريف مقالاً تحت عنوان سحر القاتل, قال فيه: إن الجمهور الإسرائيلي وإن مال إلى تسوية مع الفلسطينيين, إلا أنه يريد زعيماً لا يطيقهم, ويملك قدرة ممكنة ومحتملة لضرب العرب حتى نحورهم - إلى أن قال: إن الاندفاع والهرولة خلف القاتل منقوشة في طباعنا. وهذا الأمر لم يبدأ مع الانتفاضة, ولا مع اندفاع الموجات الإرهابية!
ترى متى يمكن أن يتساوى الفلسطينيون مع القطط في روما ؟!