جرائم فرنسا الاستعمارية في القارة السمراء
يتباهى كل رؤساء فرنسا الحديثة من شارل ديغول إلى إيمانويل ماكرون الرئيس الحالي لبلاد الجنّ والملائكة كما تلقب لدى عشاقها، بأن فرنسا هي بلد الحرية والديمقراطية والمدنية المعاصرة والتعايش السّلمي والثقافي والحضاري والتنوع الإثني والعرقي، متناسين ما ارتكبه الاستعمار الفرنسي من جرائم ومجازر يندى لها الجبين في مختلف الدول التي خضعت للاحتلال الفرنسي سواء في إفريقيا السمراء أو آسيا أو الأمريكيتين أو كليدونيا الجديدة أو غيرها من المناطق الجغرافية التي وثّقت كتب المؤرخين فيها حجم الجرائم البشعة التي أبادت فرنسا من خلالها شعوباً وقبائل وثقافات بأكملها.
فسياسة فرنسا الاستعمارية بدأت في القارة السمراء مع البدايات الأولى للثورة الصناعية في أوروبا في القرن 16م ورغبة منها في إيجاد موارد أولية لبناء اقتصاد قوي وتنافسي قادر على مقارعة بريطانيا وهولندا وإسبانيا والبرتغال في إطار سياسة تلك القوى الاستعمارية لتقوية جيوشها وتنويع مصادر دخلها القومي. حيث بدأت فرنسا الاستعمارية حملتها على إفريقيا سنة 1524 م، واستطاعت احتلال حوالي 20 دولة إفريقية دفعة واحدة، لأن تلك الدول كانت عبارة عن مجموعة من القبائل البدائية في عاداتها وتقاليدها وأسلحتها، ولا تستطيع الوقوف في وجه الجيش الفرنسي الذي كان عبارة عن جيش إمبراطوري منظم ويمتلك أسلحة متطورة آنذاك، والتي لم يرها الأفارقة من قبل، واستمرت فرنسا في حكم حوالي 35 بالمائة من مساحة القارة لمدة 3 قرون تقريباً.
وقد استخدمت فرنسا طوال تلك الفترة دولاً مثل السينغال وساحل العاج والبنين ولسنوات طويلة كمراكز لشحن العبيد إلى أوروبا، كما أنها قامت باستغلال موارد تلك الدول أبشع استغلال، وخاصة مناجم الذهب والألماس والأحجار الكريمة، بالإضافة إلى الفحم والحديد…إلخ مثلما ذكر موقع الجزيرة نت بتاريخ 7فيفري/شباط 2018 في مقال بعنوان ” فرنسا سجل حافل، مجازر فرنسا في القارة الإفريقية”.
و قامت القوات الفرنسية بارتكاب مجازر لا تعد ولا تحصى في إطار استراتيجية الأرض المحروقة التي كانت تتبعها مع الدول التي ترفض الوجود الفرنسي، مثلما فعل الجنرال كليبر مع ثورة القاهرة الثانية، وذلك إثر الحملة الفرنسية على مصر (1779-1801م)، الذي خلف الجنرال نابليون بونابرت الأول واسمه الحقيقي(نابليوني دي بونابرته) لأنه إيطالي الأصل والذي أصبح فيما بعد إمبراطور فرنسا، و الذي غادر المحروسة عائداً إلى باريس سنة 1800م، حيث قام كليبر بقصف منطقة المقطم بالمدافع وأجهز جنوده على كل من حاول مغادرتها فسقط آلاف الشهداء من النساء والأطفال والشيوخ والأبرياء العزل، وأصيب عشرات الآلاف بجروح متفاوتة الخطورة نتيجة القصف الوحشي والذي استمر لوقت طويل جداً، بالإضافة إلى قتل أكثر من 10 مليون جزائري وإحراق قبائل بأكملها في المغارات مثلما فعلت فرنسا بقبائل الزعاطشة، وهي التي مكثت في الجزائر لأكثر من 132 سنة من (1830-1962م)، وكذلك ارتكابها لمجازر جماعية في حق إثنية “التوتسي” في رواندا عام 1994م، إذ سقط قرابة 800 ألف شخص ضحايا جراء تلك المجازر المروعة.
حيث اتضح فيما بعد أن باريس لعبت دوراً كبيراً في حدوث تلك الإبادة، إذ غادر الجنود الفرنسيون منطقة الجريمة قبل وقوعها رغم تلقيهم معلومات بما سيحدث، كما ذكر موقع وكالة الأناضول بتاريخ 14 أفريل/نيسان 2019م، في مقال بعنوان “فرنسا الاستعمارية، نهب وإبادة واستعباد وحقائق محظورة(تقرير)”.
بالإضافة إلى مئات الآلاف من الأفارقة الذين كانوا ضمن اللفيف الأجنبي، والذين أجبرتهم فرنسا على المشاركة إلى جانبها في الحربين العالميتين الأولى والثانية، وتوفي عشرات الآلاف منهم في المعارك المختلفة دفاعاً عن فرنسا ودون أن تعرف عائلاتهم مصيرهم حتى الآن، وذلك منذ أن أجبرتهم فرنسا على الالتحاق بصفوف جيشها تحت طائلة القتل أو السجن، وفق قوانين التجنيد الإجباري.
وحتى بعدما نالت هذه الدول استقلالها بقيت فرنسا الاستعمارية الوصية عليها عن طريق حكامها الذين نصبتهم على هذه الدول، والذين عملوا على ضمان أن تبقى ثروات دولهم وخيراتها في خدمة أجندات السّياسة الاستعمارية الامبريالية الفرنسية في إفريقيا، هذه الدول التي أصبحت أراضيها مختبرات لمختلف أنواع الأسلحة والبرامج العسكرية الفرنسية المعلنة منها والسّرية، كإجرائها لمجموعة من التجارب النووية في الصحراء الجزائرية والتي راح ضحيتها الآلاف من الأبرياءّ، وذلك في إطار استراتيجيتها النووية التي استمرت ل36 سنة (1960-1996م)، حيث أجرت فرنسا خلالها ما يقارب 210 تجربة نووية.
وكان أول تفجير نووي فرنسي في صحراء الجزائر بتاريخ 13 شباط/فبراير 1960م، عندما أطلقت فرنسا أول قنابلها النووية هناك والتي كانت تحت اسم ” اليربوع الأزرق”، وضاهت قوتها أربعة قنابل هيروشيما مجتمعة سقطت على منطقة رقان الآهلة بالسكان، وكان آخرها بتاريخ 16 شباط/ فيفري1966م، والتي اعتبرتها فرنسا آخر تجربة نووية لها بالجزائر وأعادت تسليم الموقعين للسلطات الجزائرية، كما ذكر موقع فرانس 24بتاريخ 24 مارس/آذار 2009م في مقال بعنوان ” سلسلة التجارب النووية الفرنسية”.
هذه التجارب النووية الفرنسية التي خلفت ضحايا كثر في كل من الجزائر ودول الجوار التي وصلتها الاشعاعات النووية التي انتقلت على بعد آلاف الكيلومترات من موقع التفجير عن طريق الرياح والعواصف الصحراوية، ووصلت حتى مدن الشمال الجزائري التي لازالت هذه الاشعاعات النووية تتسبب في عشرات الأمراض المستعصية كأمراض السرطان بأنواعه والأمراض التنفسية وأدت إلى تشوه الأجنة في بطون أمهاتها …إلخ، دون تقديم تعويضات من طرف الحكومات الفرنسية المتعاقبة لأسر وعائلات ضحايا التفجيرات النووية أو حتىّ مجرد تقديم الاعتذار الرمزي لهم.
ولا تزال فرنسا تبتز إفريقيا عن طريق مطالبتها بدفع التعويضات.
بالرغم من جلاء الاستعمار الفرنسي عن الكثير من الدول في القارة السمراء إلاّ أن هناك 14 دولة إفريقية ملزمة عن طريق اتفاق استعماري على وضع ما يقارب 85 بالمائة من احتياطاتها الأجنبية في البنك المركزي الفرنسي تحت سيطرة الوزير الفرنسي للرقابة المالية، وحتى الآن توجد حوالي 13 دولة أخرى ملزمة بدفع ديون تلك الفترة الاستعمارية، ومن يرفض من رؤساء تلك الدول ذلك يتم اغتيالهم أو يصبحون ضحايا لانقلابات عسكرية مدبرة من طرف المخابرات الفرنسية.
بينما أولئك الذين اللذين يطيعون الأوامر فيكافؤون ويٌدعمون من طرف فرنسا، ويعيشون حياة رغدة ومرفهة بينما شعوبهم تعيش في بؤس وشقاء وفقر مدقع، فهذا النظام الاستعماري وضع ما يقارب 500 مليار دولار في خزانة الدولة الفرنسية من مستعمراتها الإفريقية عاماً تلوى الأخر، مثلما ذكر موقع البيان بتاريخ 3 يوليو/ جويلية 2015م في مقال بعنوان “14 دولة إفريقية مازالت تدفع ضرائب استعمارية لفرنسا”.
بالإضافة إلى كل هذه الجرائم الإنسانية والتاريخية والاقتصادية وحتىّ الثقافية، لم تكتفي فرنسا بمجرد محو ذاكرة وتاريخ ولغات وثقافات هذه الدول والشعوب الإفريقية، بل قامت بفرض اللغة الفرنسية عليها كلغة رسمية بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، حيث من بين 31 دولة ناطقة باللغة الفرنسية هناك 27 دولة أفريقية من أصل 54 تتخذ اللغة الفرنسية كلغة رسمية أولى، مع العلم أن أكبر دولة ناطقة باللغة الفرنسية ليست فرنسا بل جمهورية الكونغو الديمقراطية والتي بلغ عد سكانها 90 مليون نسمة وفقاً لمعطيات 2020م، وهناك 100 شخص يتحدثون اللغة الفرنسية في إفريقيا السمراء لوحدها كما ذكر موقع وكالة الأناضول الرسمية بتاريخ 11 شباط/ فيفري 2020م في مقال بعنوان ” الكابوس الفرنسي في إفريقيا( القسم الثاني الاستعمار الجديد).
محاربة الإرهاب ذريعة فرنسا الجديدة للسيطرة على أفريقيا.
منذ دخول القوات الفرنسية إلى مالي سنة 2013م، ومن ثم توسيع استراتيجيتها لمحاربة الإرهاب إلى دول السّاحل الإفريقي جنوب الصحراء الكبرى، عملت على إطلاق عدة عمليات عسكرية تحت ذريعة القضاء على الجماعات الإرهابية الناشطة هناك كداعش وبوكو حرم وجبهة نصرة الإسلام والمسلمين، وغيرها من التشكيلات العسكرية المسلحة كعملية سيرفال التي استهدفت شمال مالي في من 11 يناير/جانفي 2013م إلى غاية 15 يوليو/جويلية 2014م، بناء على طلب من الحكومة المالية للحيلولة دون سقوط النظام في البلاد، واستعادة الأراضي التي استحوذت عليها المنظمات الإرهابية التي كادت تسيطر على العاصمة بماكو، ثمّ سرعان ما استبدلت بعملية برخان، التي انطلقت بتاريخ 1أغسطس/ أوت 2014م بهدف تقديم الدعم اللوجستي لقوات دول السّاحل والتي يبلغ عددها حالياً نحو 5100 جندي يتمركزون بشكل أساسي في ثلاث قواعد رئيسية في العاصمة التشادية نجامينا التي تعد مقر قيادة عملية برخان، وفي منطقة غاو بمالي ونيامي في النيجر، كما جاء في دراسة نشرت في مركز الإمارات للدراسات بتاريخ 24أغسطس/ أوت 2021م بعنوان “معضلة النفوذ الفرنسي في الساحل والصحراء: التحديات والمستقبل”.
ولكن بالرغم من أن أهداف فرنسا الحقيقية والغير معلنة تتمثل في إعادة انتشارها العسكري في هذه المنطقة المهمة من الناحية الجيو استراتيجية من الناحيتين السيّاسية والأمنية، لضمان مصالحها في المنطقة إلاّ انها ارتكبت ولا تزال العديد من الجرائم بحق المدنيين العزل، إذ راح ضحية القصف العشوائي لطائراتها الحربية المئات من المواطنين في كل من مالي والنيجر ودول السّاحل الإفريقي.
وكذلك فعلت بالشعب الليبي عند مشاركة الجيش الفرنسي إلى جانب قوات حلف الناتو سنة 2011م في عملية تدمير ليبيا بدعوى إسقاط نظام معمر القذافي رحمه الله، الذي تمّ التخلص منه بأوامر فرنسية صدرت عن الرئيس الفرنسي المسجون حالياً نيكولا ساركوزي وضمنت لنفسها تواجد عسكري دائم في هذا البلد الإفريقي الغني بالبترول والغاز عن طريق قواعدها العسكرية المنتشرة هناك، وهذا سبب معارضتها لأيّ حل سلمي توافقي بين مختلف الفرقاء الليبيين والذي سيكون من مخرجاته بالتأكيد طرد كل القوات الأجنبية المتواجدة في ليبيا بما فيها القوات الفرنسية . وهذا ما تعتبره فرنسا تهديداً وجودياً لمصالحها الاستراتيجية في شمال إفريقيا ككل.
ففرنسا المسؤولة عن اغتيال أكثر من 130 زعيم إفريقي، وذلك بحسب ما نشرته وسائل إعلام فرنسية مؤخراً لن تتخلى عن نفوذها التاريخي في القارة السمراء بسهولة ، لصالح قوى (دول) أخرى منافسة لها كروسيا والصين وأمريكا وتركيا، وستفعل المستحيل من أجل استدامة سيطرتها على حديقتها الخلفية، التي هي السَبب الرئيسي في كل ما وصلت إليه فرنسا من تقدم وازدهار ورقي، وعلى الدول الإفريقية بالمقابل العمل على بناء تحالفات قوية واستراتيجية فيما بينها للتخلص من النفوذ الفرنسي الغاشم الذي يعد من أهم الأسباب الرئيسية لتخلف دول القارة الغنية بمختلف الثروات الطبيعية والمعدنية والبشرية من أجل اللحاق بركب التقدم والازدهار والحضارة العالمية.