الأرشيف الفلسطيني وأيامنا القادمة.. تحرير الأرض والذاكرة معركة واحدة
https://diffah.alaraby.co.uk/diffah//File/GetImageCustom/1b6869e0-a980-4946-8b11-9da014ce666b/612/349جنود إسرائيليون ينهبون إحدى المكتبات الفلسطينية في قلقيلية
في سعيها لتدمير الروح المعنوية للفلسطينيين، وبنيتهم التحتية المدنية في قطاع غزة، إبان العدوان الأخير، سوّى القصف الإسرائيلي بالأرض بناء "كْحِيل"، في حيّ الرمال في غزّة، مدمّرًا مكتبة سمير منصور الشهيرة، والتي تعدّ واحدة من أكبر دور النشر والتوزيع في القطاع، وكانت متنفسًا علميًا وأكاديميًا وثقافيًا لأبنائه المحاصرين. غير بعيد عن مكتبة سمير منصور، استهدف القصف الإسرائيلي مكتبات اقرأ، والرؤية، والنهضة، وعددًا من المراكز الثقافية، وهي منتدى الأمة للتنمية، ومراكز المواهب الفلسطينية، وبسمة للثقافة والفنون، ونفحة، بالإضافة إلى تدمير عدد كبير من المراكز المختصة في مجالات العلوم والأبحاث والتدريب، وشركات الإنتاج الإعلامي والفني. سيطرت حالة من الحزن والغضب على الوسطين الثقافي والشعبي في غزة، مضافة إلى حالة الغضب العام على إجرام مارسه الاحتلال الإسرائيلي خلال أحد عشر يوما بحق كل ما ينبض بالحياة أو يشير إليها في قطاع غزّة.
"قام الاحتلال الإسرائيلي نتيجة سطوه على الجغرافيا الفلسطينية، ولتثبيت الاحتلال، حاول سرقة التاريخ والثقافة، الذي لم يقلّ عنفًا عن سياسة التطهير العرقي الإسرائيلية، لتبدو النكبة أمرًا مستمرًا، ومفهومًا شاملًا"
قامت دولة الاحتلال الإسرائيلي نتيجة سطوها على الجغرافيا الفلسطينية، ولتثبيت هذا الاحتلال، حاولت سرقة التاريخ والثقافة، الأمر الذي لم يقلّ عنفًا عن سياسة التطهير العرقي الإسرائيلية، لتبدو النكبة أمرًا مستمرًا، ومفهومًا شاملًا، تداخلت فيه مؤخرًا محاولات إسرائيل المستمرة لتغيير معالم مدينة القدس ثقافيًا ودينيًا (معالم باب العامود والساحة المجاورة له مؤخرًا، ومحاولات طرد سكان حي الشيخ جرّاح من منازلهم لصالح المستوطنين) مع تدمير كتب غزّة، ومحاولات طمس معالم هويتها الثقافية، والهدف واحد: تهويد الأرض والذاكرة، وكل ما يدل عليها من ثقافة وتاريخ وموسيقى وملابس وطعام، فكلّ ذلك عرضة للسرقة والتزييف والتحريف، لبناء هوية إسرائيلية مزعومة، وإحلال الرواية الإسرائيلية مكان السردية الفلسطينية، وتلخيص نكبة الفلسطينيين في كونها مجرد خطاب تحريضي يتبنّاه الفلسطينيون، ومن خلفهم العرب.
https://diffah.alaraby.co.uk/file/getcustom/c565793d-499d-42d6-9fa3-06e3dad88a21/a2121204-f377-466a-80dc-a97ade40acf8دمّر الاحتلال مكتبة سمير منصور التي تعدّ واحدة من أكبر دور النشر والتوزيع في قطاع غزة وكانت متنفسًا علميًا وأكاديميًا وثقافيًا لأبنائه المحاصرين
نهب بدوافع سياسية
لم تسرق القوات الصهيونية الأرض وحسب، بل كل ما هو فوقها أيضًا. كانت سرقة ممتلكات الفلسطينيين وسيلة لتحقيق سياسة تفريغ البلاد من سكانها العرب الفلسطينيين، ومنع عودتهم بعد تهجيرهم. وفي كتابه "نهب أملاك العرب خلال حرب الاستقلال"، سعى المؤرخ الإسرائيلي آدم راز، إلى توثيق أعمال السلب الصهيونية في فلسطين، من طبرية إلى بئر السبع، ومن يافا إلى القدس، للمساجد والكنائس والقرى المنتشرة بطول وعرض البلاد. يؤكد راز أن بن غوريون ومعظم القيادات الإسرائيلية شجّعت سلب ونهب بيوت ومتاجر الفلسطينيين بدوافع سياسية، وأنه رغم أن أعمال السرقة والنهب من السمات التي طالما لوحظت في الحروب والكوارث، فإن النهب الذي تعرّضت له ممتلكات العرب إبان النكبة، وبعدها، كان مختلفًا، إذ "كان وسيلة لتحقيق سياسة إفراغ البلاد من سكانها العرب"، مؤكدًا أن كثير من الجمهور الإسرائيلي "مواطنين ومقاتلين على السواء، كانوا ضالعين في نهب أملاك الجمهور العربي. وانتشر النهب كالنار في الهشيم في أوساط الجمهور اليهودي". ففي حيفا، يشير راز، سرق اليهود ممتلكات 70 ألف فلسطيني كانوا يعرفونهم كونهم جيرانًا، وإن ذلك صحيح أيضًا في بقية المدن المختلطة والقرى المجاورة للمستوطنات، وشملت أعمال النهب محتويات عشرات آلاف البيوت والحوانيت، ومعدات ميكانيكية، ومصانع، ومنتجات زراعية وغير ذلك. كما شملت آلات بيانو، وكتبا، وملابس، ومجوهرات، وطاولات، وأدوات كهربائية، ومحرّكات وسيارات.
"رغم أن أعمال السرقة والنهب من السمات التي طالما لوحظت في الحروب والكوارث، فإن النهب الذي تعرّضت له ممتلكات العرب إبان النكبة، وبعدها، كان مختلفًا، إذ "كان وسيلة لتحقيق سياسة إفراغ البلاد من سكانها العرب""
لم تتوقف عمليات النهب والإخفاء الصهيونية، ودائما بدوافع سياسية، ومن أهم ما استولى عليه الاحتلال محتويات "مركز الأبحاث الفلسطينية" الذي أسّسه الدكتور فايز صايغ في شباط/ فبراير 1965 بقرار من "اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير"، وأسفرت سرقة المركز عام 1982 عن استيلاء إسرائيل على جميع مقتنيات مكتبة مركز الأبحاث، التي تحتوي على مئات الكتب النادرة والمراجع والمخطوطات الثمينة، بالإضافة إلى مقتنيات الأرشيف من ملفات وأشرطة "ميكرو فيلم"، إلى جانب مصادرة آلات تصوير وأجهزة تسجيل وأشرطة مُسجلةٍ كتاريخ شفوي، أرسلت جميعها إلى خزائن وزارة "الدفاع" بوصف كل ما هو فلسطيني قضية عسكرية وأمنية. تم استرداد معظم أرشيف مركز الأبحاث الفلسطيني في بيروت بعد مفاوضات جرت بين منظمة التحرير الفلسطينية و"إسرائيل" لتبادل أسرى إسرائيليين بأسرى فلسطينيين وموجودات مركز الأبحاث، المؤلّف من 25 ألف مجلّد باللغات العربية، والعبرية، والإنكليزية، وتم التسليم عن طريق الصليب الأحمر في الجزائر عام 1983، باستثناء مجموعة أفلام نقلت لاحقًا إلى قبرص.
تشكلت لجنة من قبل الجامعة العبرية، يسير أعضاؤها وراء الجنود ويقومون بجمع الكتب
وفي افتتاحية عددها الخمسين (ربيع 2002)، عرضت «مجلة الدراسات الفلسطينية» لبعض المحتويات المنهوبة لـ"بيت الشرق" في القدس (أغلقته سلطات الاحتلال نهائيا في آب/ أغسطس 2001) والتي شملت وثائق بحثية، إضافة إلى أخرى شخصية، ومعلومات سرّية تتعلق بقضية القدس، ومستندات ترجع إلى «مؤتمر مدريد» (1991)، وأرشيف يحتوي على وثائق وملفات تتعلق باستراتيجيات التنمية المستقبلية للقدس الشرقية. حتى إنّ مكتب فيصل الحسيني أفرغ بالكامل من محتوياته. شمل النهب أيضًا مجموعة صور فوتوغرافية لجمعية الدراسات العربية تمثّل سجلًا «فريدًا» للعلاقات الإثنوغرافية بين سكان القدس في القرنين التاسع عشر والعشرين.
نكبة الصورة
تذهب الإسرائيلية رونا سيلع إلى أن السياسة الصهيونية لمحو الذاكرة، وإسكات التاريخ الفلسطيني قامت على آليتين: الاستيلاء على المواد الفلسطينية المحفوظة، وإخضاعها للرقابة وتقييد الوصول إليها. وبنت فيلمها "المنهوب والمخفي" على الأرشيف الذي نهبه جيش الاحتلال خلال مراحل مختلفة منذ النكبة، وجرى الإغلاق على مواده (صور وڤيديو ووثائق) ضمن الأرشيف العسكري الإسرائيلي، أرشيف لم يكن الفلسطينيون متأكّدون من وجوده ومن أنه لم يُتلَف.
يخبرنا الفيلم أنه منذ احتلال فلسطين عام 1948 وحتى اجتياح بيروت في 1982 سرق الاحتلال الإسرائيلي نحو 38 ألف فيلم، و2.7 مليون صورة، و96 ألف تسجيل، و46 ألف خريطة وصور جوية من أرشيف الفلسطينيين. بدأت هذه المهمة "المعرفية" بأمر من ديفيد بن غوريون عام 1948. مكتبات العائلات والكتاب والأدباء الفلسطينيين من أهم ما تمّت سرقته، كالمكتبة الخاصة لخليل السكاكيني، ومكتبة آل نشاشيبي، عدا عن مكتبات ووثائق الهيئات الفلسطينية العامة، والمدارس والكنائس، التي تم حفظها خصوصًا في مخازن المكتبة الوطنية الإسرائيلية في القدس، وتتنوّع القيود على تلك الكتب المتوفرة في المكتبة الوطنية فبعضها متاح للتصفّح دون الاستعارة وبعضها يحتاج إلى إذن خاص، وبعضها يحظر الاطلاع عليه، وهناك بعض الوثائق الخاصة بالملكيات الفلسطينية المنهوبة تحتاج إلى إذن خاص من المحاكم الإسرائيلية.
فيلم: "المنهوب والمخفي... الأرشيفات الفلسطينية في اسرائيل"
https://www.facebook.com/watch/?v=486283622246966"أكّد الفيلم أن هناك الكثير من المواد التي ما زال ممنوعًا الاطلاع عليها، فإسرائيل تشعر بأن هذه الوثائق والصور تمثل تهديدًا لموقفها الإنكاري، وتعتقد أنها بمصادرة مواد الأرشيف الفلسطيني يمكنها محو الهوية"
لم يُسرق هذا الأرشيف من المراكز وحسب، بل كذلك من الأفراد، هنالك العديد من الصور التي سُرقت من جيوب فلسطينيين بعدما قتلتهم العصابات الصهيونية عام النكبة، صور شخصية صارت بمجموعها صورًا جمعية لشعب بأكمله، أراد الاحتلال سلبه ذاكرته المصوّرة، فاستعاض عنها بالرواية الشفاهية والصور المتخيلة المتناقلة من جيل النكبة الذي يكاد يختفي اليوم. وأكّد الفيلم أن هناك الكثير من المواد التي ما زال ممنوعًا الاطلاع عليها، فإسرائيل تشعر بأن هذه الوثائق والصور تمثل تهديدًا لموقفها الإنكاري، وتعتقد أنها بمصادرة مواد الأرشيف الفلسطيني يمكنها محو الهوية، ما يضعف، من الأرشيف الفلسطيني والرواية الفلسطينية، فهي تتمنى محوهما من المجال العام، لتسيطر الرواية الرسمية الإسرائيلية على التاريخ، لكنها لا تنجح رغم ذلك، فالمقاومة أقوى.
نكبة الكتب
وثّق فيلم "سرقة الكتاب الكبرى" (2012) للمخرج اليهودي الهولندي، بني برونير، سرقات اليهود لجميع ما وقعت عليه أيديهم من ممتلكات الفلسطينيين الثقافية؛ لوحات فنية وآلات موسيقية والكتب الموجودة في المكتبات العامة والخاصة، من ذلك توثيق سرقة ثلاثين ألف كتاب في القدس وثلاثين ألف أخرى في يافا وحيفا، عرض بعضها في مؤسساته المختلفة، فيما بقي مصير الكثير منها مجهولًا.
يعرض الفيلم لشهادات حية لعدد من المفكرين الإسرائيليين والفلسطينيين، يتحدّثون خلالها عن قيمة الكتب التي سلبتها اسرائيل طوال 65 سنة مضت من النكبة. وذهب الفيلم إلى أنه أثناء سير الحرب أدرك الجنود وموظفو المكتبات أن المنازل لا تحتوي على الأثاث والآلات الموسيقية وأنابيب المياه والسجاد فحسب، وإنما الكتب أيضًا، وفي تقرير لأحد المسؤولين عن جمع الكتب، أن الجنود كانوا أوّل من اكتشف الكتب، وسرعان ما ظهرت شبكة مخابرات تربط الجنود بالمكتبة الوطنية، وأنه من الصعب تقدير كمية ونوعية الكتب التي انتقلت من مالك لآخر، بطريقة غير شرعية. ويذهب المؤرخ إيلان بابيه إلى أن 70 إلى 75% من الفلسطينيين كانوا أغنياء من حيث المال والممتلكات. لم يبق شيء، أخذ الإسرائيليون كل شيء، صحيح أنهم لم يطردوا الجميع، لكن بالتأكيد أخذوا كل فلس بحوزة الفلسطينيين، كل قطعة أثاث. يضيف بابيه، أنه كان هناك نوعان من النهب الحزبي والفردي؛ أخذ أناس من وحدات مختلفة ما كانوا يريدون إلى منازلهم، وربما إلى المكتبة إن كان السارق أستاذًا جامعيًا، وبعد قليل يظهر السرّاق الجماعيون الرسميون.
"في الأشهر الأولى لقيام الدولة العبرية، تمت حملة تفتيش لمنازل فلسطينية هُجّر أصحابها بالقوة، باحثين عن الكتب، وهي حاليًا مدفونة في مقابر وأقبية المكتبة الوطنية والجامعات الاسرائيلية"
في تقرير لها ذكرت صحيفة هآرتس في تشرين الثاني/ نوفمبر 2012 أن عمليات نهب الكتب تمّت تحت حراسة الجيش، وأنه يمكن العثور على أدلة على هذه العملية في قرارات الحكومة الإسرائيلية الأولى في جلسة الحكومة التي انعقدت في كانون الأول/ ديسمبر 1948، حيث أعلن وزير الداخلية آنذاك، يتسحاق غرينبويم: "تشكلت في الفترة الأخيرة لجنة من قبل الجامعة العبرية، يسير أعضاؤها وراء الجنود ويقومون بجمع الكتب"، وهو ما أكّده الفيلم حين أماط اللثام عن الكتب التي تم نهبها رسميًا ومنهجيًا وأكاديميًا، بالشراكة بين الجامعة ووزارة الدفاع ومنظمة الهاغناه، برفقة جنود الاحتلال، في الأشهر الأولى لقيام الدولة العبرية، عبر حملة تفتيش لمنازل فلسطينية هُجّر أصحابها بالقوة، باحثين عن الكتب والكنوز العربية لسرقتها وإثراء المكتبة القومية والجامعية الإسرائيلية بها، وهي حاليًا مدفونة في مقابر وأقبية المكتبة الوطنية والجامعات الاسرائيلية، عدا عن الكتب الأخرى التي لم تحص وتم نهبها من قبل الجنود والتي ذهبت قيمتها وأسماؤها أدراج الرياح. وفي الفيلم أيضًا، يصرّح أمين سر المكتبة المتقاعد أوري بليت بأنهم قاموا بجمع الكتب كغنيمة في "حرب التحرير" ووضعناها في قبو، وقاموا بعدها بتصنيف 8 آلاف كتاب منها أشير إليها بوصفها أملاكًا مهجورة، أي أنها تحفظ كوديعة مؤقتة في الجامعة والمكتبة الوطنية، وسيتم إرجاعها لأصحابها، وأضاف بليت أنه تمّت الإشارة إلى أكثر من 20 ألف كتاب آخر، تم محو مصدرها، بوصفها أملاكًا مسروقة.
https://www.youtube.com/watch?v=LPslirpfn40https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=360571بني برونير وملصق فيلم "سرقة الكتاب الكبرى"
وفي كتابه، الذي ترجمه مركز مدار، تحت عنوان: " بطاقة ملكية: تاريخ من النهب والصون والاستيلاء في المكتبة الوطنية الإسرائيلية"، يعتقد غيش عميت أنه "لم تحظ الكارثة التي ألحقتها حرب عام 1948 بالثقافة الفلسطينية حتى الآن إلا باهتمام محدود"، ويعزو أسباب ذلك، من ضمن أخرى، إلى "ماهية الصراع الصهيوني- الفلسطيني، الذي فرض على التجارب الفلسطينية نفسها، صعوبة في استرجاعها وتخليدها؛ ومحو الحيز الفلسطيني المديني، الذي ازدهرت فيه الحياة الثقافية والإنسانيات، من خارطة الذاكرة، وتميّز الكارثة الفلسطينية ببعد الصدمة الكبرى، التي حوّلتها إلى تجربة مُعاشة لا يمكن التخلّص منها، ولا يمكن التحدّث عنها بشكل صريح.
يسرد عميت ما دار من أحداث وراء جدران المكتبة الوطنية الإسرائيلية: الأول، مشروع جلب مئات آلاف الكتب التي كانت قد أخذت من اليهود- ضحايا النازية الذين عاشوا في أوروبا. والثاني، عملية جمع ونهب حوالي ثلاثين ألف كتاب تعود ملكيتها لفلسطينيين مقدسيين بعد حرب 1948. وأما الحدث الثالث فهو جمع كتب ومخطوطات ليهود يمنيين، هاجروا من اليمن إلى فلسطين، في أواخر الأربعينيات وبداية الخمسينيات من القرن الماضي، واستيلاء المكتبة الوطنية على جميع تلك الكتب والمخطوطات. ويرى عميت في ذلك عملًا يشير إلى الفصل بين بني البشر وثقافاتهم، وإلى مطلب الحركة الصهيونية بالحصول على ملكية الماضي اليهودي من جانب، وعلى الماضي ما قبل الصهيوني للبلد من جانب آخر، وهو ما يكشف العلاقة بين الثقافة القومية الصهيونية من جهة والاستعمار والاستشراق الأوروبي من جهة أخرى.
"ليس من باب الصدفة، كما يرى غيش عميت، أنه في أواخر سنوات الخمسينيات وبداية سنوات الستينيات، بدأت المكتبة بمحو أسماء أصحاب الملكية الأصليين الفلسطينيين واستبدالها بكلمة "ملك مهجور""
بحسب عميت، جمع عمال المكتبة الوطنية، ما بين بين أيار (مايو) 1948 ونهاية شباط (فبراير) 1949، نحو 30 ألف كتاب وصحيفة ومخطوطة، خلّفها من ورائهم فلسطينيون من سكان القدس الغربية، كما أن عمال "الوصي على أملاك الغائبين" جمعوا في عام 1948 والأعوام التي تلته، نحو 40.000 كتاب من مدن يافا وحيفا وطبرية والناصرة، وأماكن سكنية أخرى. وإن غالبية الكتب كانت تعليمية، جمعت من مؤسسات ومدارس، وحفظت في مخازن أقيمت لهذا الغرض في حيفا ويافا والناصرة والقدس. الكثير منها بيع مجدّدًا للمدارس العربية، ونحو 100 منها نقلت عام 1954 إلى قسم علوم الشرق في المكتبة الوطنية، فيما جرى هرس 26.315 كتابا، حين قرر الوصي على أملاك الغائبين عام 1957 أن "هذه الكتب لا تلائم المدارس العربية في البلد، وأن قسمًا منها احتوى على مواد مناهضة، يمكن لنشرها أو تسويقها أن يلحق الضرر بالدولة".
أرشيف يفضح نفسه
وفي مقابلة معه في مجلة "قضايا إسرائيلية"، ذهب عميت إلى أنه أوضح في كتابه أن المكتبة الوطنية منذ عام 1948 تدّعي بأنها أنقذت الكتب، هذا الادّعاء من الممكن أن يكون له وجه معيّن من الصحة نتيجة لكونها كانت فترة حرب، ولكن في الحقيقة قدم الناهبون أنفسهم ممثلين لقوى التقدم والتنوير، وأن وظيفتهم أخذ الكتب من أيدي هؤلاء الذين لا يعرفون كيف يحافظون عليها أو لم يعرفوا أهميتها، ونقلها لمؤسسة غربية صاحبة توجهات استشراقية، ومركزية أوروبية. وليس من باب الصدفة، كما يرى عميت، أنه في أواخر سنوات الخمسينيات وبداية سنوات الستينيات، بدأت المكتبة بمحو أسماء أصحاب الملكية الأصليين الفلسطينيين واستبدالها بكلمة "ملك مهجور"، وأن ما يفاجئه كثيرًا، أنه حتى الآن وبعد حوالي سبعة عقود من الحرب ما زالت المكتبة الوطنية تتعامل مع هذه القضية بمصطلحات الإحسان أو الإنقاذ، ولا توجد أي علامة تشير إلى أي استعداد للاعتراف بالغبن أو للتعاطي معه.
في كتابه، يرسم عميت ملامح جديدة للمكتبة الوطنية في القدس، ويرى أن المفارقة البنيوية للأرشيفات تتمثل بكونها أرشيفات، فالمكان الذي يحفظ القوة وينظمها هو نفس المكان الذي يكشف عن العنف والغبن. ووفق هذا المفهوم، فإن الأرشيف نفسه هو من يفضح ذاته، وأن عملية جمع الكتب في حد ذاته تناقض نفي الصهيونية وإنكارها لحضور ووجود الفلسطينيين مواليد البلاد.
ذاكرة من أجل المستقبل
تنشط مبادرات للبحث عن الأرشيف الفلسطيني وتجميعه من شتاته، في محاولات لحفظ التاريخ من سطو الاحتلال الإسرائيلي، ويعتبر "مركز الأرشيف الوطني الفلسطيني" الذي أنشئ أواخر عام 1994 بأمر من ياسر عرفات، وبتكلفة بلغت 14 مليون دولار، مكانًا لحفظ الوثائق والمستندات والسجلات بصورة دائمة، ويعتبر مصدرًا خاصًا للمعلومات لأجهزة ودوائر ووزارات السلطة الفلسطينية ومرجعًا للباحثين. وفي العقدين الأخيرين نشطت المبادرات والمشاريع التي ترمي إلى حفظ الأرشيف الفلسطيني منها مشروعَ بحث وتوثيق الحركة الوطنية الفلسطينية في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات وموقع "فلسطين في الذاكرة" ومشروع "الأرشيف الرقمي في جامعة بير زيت"، وموقع "الثورة الفلسطينية" ومبادرة "خزائن"، وغيرها من مبادرات جماعية وفردية رقمية وورقية. لكن يبقى استعادة الأرشيف الفلسطيني المنهوب إسرائيليًا منذ عام 1948.
ولا يبدو أن هناك أي توجهات من هذا النوع من الجهات الرسمية الفلسطينية اليوم، ممثلة بالسلطة الوطنية التي يبدو أنها تكتفي بأرشيف مؤسسي جديد، هو أرشيف السلطة الذي يحقّب التاريخ الفلسطيني انطلاقا من أوسلو، فيتم تضييق حدود التاريخ باسم حدود الجغرافيا التي تقبل (؟) إسرائيل بالتنازل عنها. ولا شك في أن الإرادة الإسرائيلية تريد أسرلة الذاكرة الفلسطينية، بعد أن عملت على هيكلة سرديتها التاريخية في الوعي الجمعي الإسرائيلي، وتسعى لهيكلتها في الوعي الجمعي للأجيال الفلسطينية والعربية ما بعد النكبة. في ضوء ذلك فإن إعادة إنتاج التاريخ الفلسطيني الحديث عبر إنقاذ الأرشيف الفلسطيني المنهوب إسرائيليًا هو عملية تحرير للذاكرة الفلسطينية، ومسألة حاسمة في تثبيت الحق التاريخي، وفرض السردية الفلسطينية، وعليه فتحرير الأرض والذاكرة معركة واحدة، والأرشيف ليس مجرد مصدر للمعرفة التاريخية بل الشرط الضروري، وإن غير كاف، للذات الفاعلة لبناء المستقبل.
إحالات:
1- غيش عميت، "بطاقة ملكية: تاريخ من النهب والصون والاستيلاء في المكتبة الوطنية الإسرائيلية"، ت. علاء حليحل (عمّان/ رام الله: الأهلية للنشر ومركز مدار، طبعة أولى، 2016).
2- علي حيدر، مقابلة مع مؤلف كتاب "بطاقة ملكية: تاريخ من النهب والصون والاستيلاء في المكتبة الوطنية الإسرائيلية"، قضايا إسرائيلية العدد 59، ص114- ص121:
https://bit.ly/3umjxgb3- رونا سيلع، المنهوب والمخفي- وثائقي، على موقع يوتيوب:
https://bit.ly/3oNYT7A4- بني برونير، سرقة الكتب الكبرى- وثائقي، الجزيرة الوثائقية:
https://bit.ly/3fFZns85- ياسر عاشور، الأرشيف الفلسطيني: من ينقذ ما تبقى؟، 15 مايو/ أيار 2019، موقع جدلية:
https://bit.ly/3hPolrX 6- المكتبة التي ابتسمت للمارة والقرّاء.. إسرائيل تقصف مكتبة سمير منصور ومراكز ثقافية أخرى، 19 مايو/ أيار 2021، الجزيرة نت:
https://bit.ly/34hdCyr7- تقرير أحمد صقر، الكتب الفلسطينية القديمة.. نفائس نهبها الاحتلال مصيرها مجهول، 4 تموز/ يوليو 2017، موقع عربي 21:
https://bit.ly/34gNcwH8- أرشيفات بيت الشرق المنهوبة، افتتاحية مجلة الدراسات الفلسطينية، المجلد 13، العدد 50 (ربيع 2002):
https://bit.ly/3oV5s8g