العلاقات السوفييتية الاسرائيلية.. خلال حرب عام 1948
امين محمود
كان للاتحاد السوفييتي دور حيوي في تمكين اليشوف اليهودي (اليشوف مصطلح يطلق على المستوطنين في
فلسطين قبل عام 1948 ) من تحقيق طموحاته بأقامة دولته اليهودية، اذ كان لتزويده اليشوف بالسلاح والمقاتلين
أكبر الأثر في حسم الحرب لصالحه، غير ان الاتحاد السوفييتي لم يكن الوحيد الذي كان يعمل من اجل اقامة الدولة
البهودية، فقد كانت الولايات المتحدة تقف بكامل قوتها الى جانب اليشوف اليهودي، وكان هذا واحدا من المواقف
النادرة التي وقفت فيها هاتان القوتان الكبريان في صف واحد : القوة الاشتراكية بزعامة الاتحاد السوفييتي والقوة
الراسمالية الغربية بزعامة الولايات المتحدة الامريكية. وكانت هاتان القوتان الكبريان سباقتين في اعترافهما
بالدولة اليهودية، وقامت كلاهما بتقديم مساعدات كبيرة الى هذه الدولة بمرجلة تاسيسها، مما كان له اكبر الاثر
في تثبيت دعائم وجودها على الساحة الدولية . وقام الاتحاد السوفييتي بالايعاز لتشيكوسلوفاكيا بتزويد الدولة
اليهودية بكل ما تحتاجه من الاسلحة بشتى أنواعها، في حين كانت الولايات المتحدة تقدم الدعم المادي لتمويل
الصفقات العسكرية واي متطلبات اخرى قد تكون الدولة اليهودية بحاجة اليها . كما عملت الدولتان الكبريان على
ارسال المتطوعين من ذوي الخبرة القتالية وممن سبق وعملوا جنودا وطيارين في مختلف الجيوش العالمية
سواء كانت جيوشا شرقية ام غربية، ولم يكن هؤلاء المتطوعون بالضرورة من اصول يهودية، فقد كان العديد
منهم من اصول متعددة المنابت)Arnold Krammer ,The Forgotten Friendship ,p.28
وكان ستالين نفسه مقتنعا بالمراهنة على المكاسب التي كان من المتوقع ان يجنيها السوفييت من وراء انشاء هذه
الدولة اليهودية ، ولذا فانه لم يتردد في الايعاز لدول الكتلة الشرقية حلال حرب 1948 بالسماح لاي من اليهود
القادرين على القتال والراغبين بالهجرة الى فلسطين ان يقوموا بذلك ، شريطة ان يتلقوا تدريبات عسكرية في
معسكرات اقيمت لهذا الغرض في تشيكوسلوفاكيا . (حرب فلسطين 1947-1948 ؛ الرواية الرسمية الاسرائيلية ،
ص 414 ) .
وقد عزا السوفييت اندلاع هذه الحرب بين العرب واليهود الى تحريض بريطانيا الناجم عن سياستها التي كانت
تسعى الى الهيمنة على المنطقة معتمدة في ذلك على بث المزيد من الفتن والخلافات بين الاطراف المتنازعة تمشيا
مع سياستها المعروفة فرق تسد . كما ساهمت الرعاية الامريكية المنمثلة بالدعم باشكاله المختلفة لاسرائيل في
اكسابها الشجاعة والقوة للاندفاع في طريق الحرب . وظل الاتحاد السوفييتي طيلة فترة الحرب مؤيدا ومتعاطفا مع
الجانب الاسرائيلي . وقد عبرت صحيفة برافدا عن هذا الموقف السوفييتي المتعاطف مع الاسرائيليين بقولها : ” ..
يجب ان يكون واضحا انه في حالة قيام العرب بشن الحرب ضد الدولة اليهودية الفتية ، فانه في هذه الحالة لا
يمكن اعتبارهم محاربين من اجل مصلحتهم القومية او في سبيل استقلالهم ، ولكن سينظر اليهم على انهم معتدون
على اليهود وعلى حقهم في انشاء دولتهم المستقلة . كما ان الشعوب السوفييتية في حالة شن هذه الحرب ضد
الدولة اليهودية ، ستسارع دون تردد الى الوقوف ضد هذا العدوان غير المبرر والذي يهدد مسعى الشعب
اليهودي نحو اقامة دولته طبقا لقرار الجمعية العامة للامم المتحدة .
غير ان هذا الموقف السوفييتي المؤيد لاسرائيل سرعان ما بدأ يتغير تدريجيا . بداية كانت المفاجأة الكبرى
للسوفييت تكمن في قدرة اسرائيل على حسم الحرب لصالحها في فترة قصيرة بخلاف ما كان متوقعا ، وسبب ذلك
ارباكا للخطط السوفييتية التي كانت تراهن على صراع طويل الامد في المنطقة ، كان من الممكن ان يتيح للسوفييت
الاستمرار في تزويد الاسرائيليين بما يحتاجونه من تجهيزات عسكرية وقوى بشرية بحيث تصبح علاقة اسرائيل
بالاتحاد السوفييتي اكثر قربا واشد اتصالا ، ويزداد اعتمادها عليه اكثر فاكثر ويصبح بمقدوره بالتالي ، ان يلعب
دورا اكثر فعالية في شؤون المنطقة من خلال علاقته التي تكون قد توثقت وتعمقت مع الدولة اليهودية والتي كان
من الممكن ان تتيح المجال امامه للمشاركة في اي تسوية سياسية مستقبلية . كما انه فيما لو استمرت الحرب
مدة اطول لكان من الممكن ان تشهد المنطقة حالة من عدم الاستقرار تتيح المجال للاتحاد السوفييتي ايضا ان
يستغل حالة عدم الاستقرار وتصاعد الاجواء المعادية للمصالح الغربية في المنطقة ، لتامين موقع مؤثر له فيها
يتسنى له القيام من خلاله المساهمة في توجيه سياسات الانظمة الحاكمة لدول المنطقة بما يخدم مصالحه
وتطلعاته . وبالرغم من ان النصر الاسرائيلي لم يكتمل نهائيا سوى عام 1949 لدى توقيع الدول العربية اتفاقات
الهدنة ، الا انه بدا واضحا للاتحاد السوفييتي في نهاية صيف عام 1948 ان النصر الاسرائيلي كان وشيكا .
لقد ظهرت اولى بوادر التغيير في السياسة السوفييتية تجاه اسرائيل في اواخر عام 1948 ، حينما بدأ السوفييت
يرقبون تغيرا في السياسة الاسرائيلية نتيجة تحالفها المتزايد مع الولايات المتحدة مما جعلهم يتعاملون معها بتحفظ
شديد ويشككون في حقيقة مواقفها ودوافعها . ولم ينتظر السوفييت طويلا فبدأوا منذ مطلع عام 1949 باتباع
نهج جديد في تعاملهم مع الحركة الصهيونية التي قويت امتداداتها بين اليهود الروس في أعقاب قيام الدولة
اليهودية . ولم يتردد السوفييت طويلا قبل اتخاذهم موقفا حاسما تجاه التداعيات الصهيونية بين اليهود الروس ،
فبادروا في منتصف يناير1949 الى اقفال العديد من الموسسات اليهودية الروسية وقاموا بشن حملة عنيفة ضد
تزايد النزعة الاممية ( الكوزموبوليتانية )
وكان لدى السوفييت على ما يبدو المبررات الكافية لقمع المؤسسات اليهودية نتيجة ردود الفعل التي اظهرها
اليهود الروس تجاه قيام الدولة اليهودية . فقد كان السوفييت يعتقدون ان قيام الدولة اليهودية في فلسطين لن
يكون له تأثير على وضع اليهود الروس ؛ اذ ان القيادة السوفييتية كان لديها القناعة الكاملة بان هؤلاء اليهود لم
بكن لديهم الشعور بالانتماء الى هذه الدوتة الوليدة او معنيين بالهجرة اليها .
ولكن الاحداث التي تلت اثبتت عدم صحة هذا الاعتقاد لدى اليهود الروس لا سيما حينما كشف الاّلاف منهم ان
ولاءهم وانتماءهم لاسرائيل كان يحنل المكانة الاولى في وجدانهم واعماقهم ، وتجلى هذا بوضوح اكثر حبنما عبر
الاّلاف من القادرين على القتال منهم عن رغبتهم في الهجرة الى فلسطين للفتال الى جانب ابناء جلدتهم من اليهود
للدفاع عن ” دولتهم الوليدة ” وتثبيت دعائمها .
كما تولد الاعتقاد لدى السوفييت بان امن واستقرار الوضع الداخلي في بلدهم اصبحا
مهددين بعد انطلاق التظاهرات الصاخبة لليهود الروس . والتي اخذت تصول وتجول في مختلف انحاء موسكو
وباقي المدن السوفييتية ، لا سيما حينما تم الاعلان عن
قبام الدولة اليهودية . وقد ادت هذه التظاهرات الى تعكير صوب السلام العام وتهديد الامن الداخلي ، لا سيما بعد
ان تزايدت وتيرتها في اعقاب وصول جولدا مئير الى موسكو في اكتوبر 1948 كاول سفيرة لاسرائيل في الاتحاد
السوفييني . وقد لقيت مئير ترحيبا واسعا من الجماهير اليهودية في الشوارع المحيطة بالسفارة الاسرائيلية .
واقيمت الصلوات الخاصة في جميع الكنس اليهودية في الاتحاد السوفييتي . وكانت صحيفة برافدا قد توقعت قيام
مثل هذا الصخب والضجيج قبل وصول جولدا مئير الى موسكو ، ولذا فانها اصدرت تهديدا صريحا حول هذا
الامر قبل وصول مئير بيوم واحد فقط . ومما زاد من حنق المسؤولين وقلقهم قيام العديد من اليهود بالتواصل
الرسمي وغير الرسمي مع افراد البعثة الدبلوماسية الاسرائيلية منذ اليوم الاول لوصولهم موسكو في يونية
1948yacov Roi , Soviet Decision in Practice
,p. 142
ونعبيرا عن خشية السوفييت من يقظة المشاعر القومية بين اليهود ، كتب المعلق السوفييتي ايليا ايهيرنبرغ مقالا
في العدد المشار اليه اعلاه من صحيفة البرافدا ، حذر فيه اليهود الروس قائلا : ” .. ان مواطني المجتمع
الاشتراكي ينظرون الى شعوب اي بلاد برجوازية بما فيها اسرائيل نظرتهم الى اناس تائهين لا يجدون منفذا لهم
خلال الظلام الدامس الذي يحيط بهم من كل جانب ” . وكما تناولت عدة وسائل اعلام سوفييتية اخرى هذا الحدث
مؤكدة فيه ان المواطنين الاشتراكيين الحقيقيين لا يستهويهم نمط حياة اناس واقعين تحت وطأة الاستغلال
الرأسمالي ، مشيرة بذلك الى ان مصير العمال اليهود في جميع انحاء العالم مرتبط بمصير التقدمية والاشتراكية .
“كما حرصت على التركيز على ان هم الشعب السوفييتي الاول هو بناء وطنه الاشتراكي… وهو لا يتطلع
لاستغلال الشعوب الاخرى “. وتناولت صحيفة برافدا مجددا النظام السياسي الذي تتبناه اسرائيل مشيرة الى ان
شعبها ابعد ما يكون عن العقيدة الصهيونية الياطنية ، ولذا يجب الكف عن الحيلولة بينه وبين تطلعه الى الشمال
صوب الاتحاد السوفييتي الذي سيقود البشرية نحو مستقبل افضل Roi, p. 131 . وفي رسالة الى مردخاي نمير
، المستشار في السفارة الاسرائيلية في موسكو ، كتب ايهرنبرغ : “… عليكم قمع الجهود المبذولة لاستقطاب
اليهود الروس الى الصهيونية والهجرة الى اسرائيل خوفا من ردود الفعل الغاضبة للشعوب السوفييتية ” . كما
نقل زورين ، نائب وزير الخارجية السوفييتية ، الى جولدا مئير ان حكومته لن تتساهل ازاء مثل هذه الجهود
المعادية للاتحاد السوفييتي As quoted in Krammer , p.125 .
ولكن العديد من اليهود الروس لم يستجيبوا لهذه التحذيرات وظلوا يعبرون عن ولائهم لاسرائيل اكثر من ولائهم
للاتحاد السوفييتي ، مما حدا بالسلطات السوفييتية الى القاء القبض على العديد منهم من ذوي الميول الصهيونية .
وقد وصل الامر ذروته اثناء محاكمة سلانسكي ومؤامرة الاطباء . ولا مرية في ان ارتياب ستالين العميق في “
اليقظة اليهودية الروسية” قد ازداد شدة بسبب نقمته على خروج تيتو من الحركة الشيوعية في يونية 1948.
ولم يكن ذلك سوى مبرر لان يرى ستالين في هذه “اليقظة” مؤامرة قومية برجوازية تهدد الامن الداخلي للاتحاد
السوفييتي . وتلا ذلك عملية تطهير واسعة بين اليهود نظرا للقناعة التي تاصلت لدى السوفييت بان لدى هؤلاء
اليهود علاقة وثيقة مع العالم الرأسمالي ويتاّمرون معه ضد المصالح الحبوبة للاتحاد السوفييتي .( امين محمود ،
الاتحاد السوفييني وناسيس دولة اسرائيل ، ص 147 ) . ومن ناحية اخرى تم اغلاق الكثير من المؤسسات
اليهودية في شتى ارجاء الاتحاد السوفييتي في الشهور الثلاثة الاخيرة من عام 1948. ففي اكتوبر من ذلك العام
تم حظر نشاطات اللجنة اليهودية المناهضة للفاشية ، وصدر امر باغلاق كل من دار النشر اليديشية ” الحقيقة ”
والجريدة اليديشية Einikeit والمسرح اليديشي في موسكو ومؤسسات اخرى مشابهة .
ومما ساعد في اتساع الفجوة بين الاتحاد السوفييتي واسرائيل النتائج التي تمخضت عنها انتخابات الكنيست الاولى
في يناير 1949 . فقد فشل الشيوعيون في الحصول غلى اكثر من 7,6% فقط من الاصوات ، كما انه بالرغم من
حصول مابام ،الحزب اليساري الذي ايده الكثير من الشيوعيين ،على المرتبة الثانية بنسبة 14,54% ، الا انه
اخفق في تحقيق الاماني المعلقة عليه . كما اخفق ايضا في التوصل الى اتفاق يمكنه من الاشتراك في الحكومة
المؤقتة برئاسة دافيد بن غوريون زعيم حزب الماباي الذي حصل على 34,7% من الاصوات . وقد اعلن
ميكونس ، السكرتير العام للحزب الشيوعي الاسرائيلي اّنذاك ، بان انتخابات الكنيست الاول لم تكن انتخابات
ديموقراطية حرة ، واتهم حزب الماباي بممارسة وسائل ارهابية غير مشروعة ضد المواطنين العرب لمنعهم من
التصويت الى جانب الشيوعيين واليساريين . كما اتهم الشيوعيون الحكومة المؤقتة بانها باتت تعتمد قبل كل شيء
وبصورة متزابدة على الولايات المتحدة التي اصبح لها تأثير كبير على مسار الحياة السياسية في اسرائيل . وقد
ادى هذا الى تزابد مشاعر العداء تجاه السوفييت والشيوعية العالمية على حد سواء . وطالب ميكونس في اجتماع
للكنيست بعقد انتخابات جديدة لضمان تشكيل حكومة شعبية ديموقراطية تضمن مشاركة اوسع للعمال المنتمين الى
الطبقات الفقيرة والشرائح الوسطى من السكان ، وتقوم على اساس وحدة المصالح في الدفاع عن السلام والعدالة
والديموقراطية والحقوق المتساوية لجميع المكونات السكانية بما فيها العرب ، وتوفير الامن والاستقرار لافراد
المجتمع كافة .
وما ان بدأ الوهم يتلاشى وينحسر تدريجيا عن الرؤية السوفييتية حول الفوائد التي كان السوفييت يتوقعون جنيها
من وراء سياسة الدعم والتقارب مع اسرائيل حتى بدت هذه الدولة على حقيقتها امتدادا للغرب في المنطقة
وبالذات للولايات المتحدة . كما انه كان بالامكان القول ان اسرائيل ايضا كانت تمر بحالة مشابهة تلاشى خلالها
الوهم الذي راودها منذ البداية بالنسبة للكتلة السوفيينية فيما يتعلق برفع الحظر كلية عن الهجرات الجماعية
لليهود صوب اسرائيل .
وهكذا فان شهر العسل السوفييتي الاسرائيلي والذي استهله غروميكو بخطابه “التاريخي ” في الامم المتحدة
مؤيدا قيام دولة يهودية ما لبث ان تلاشى وانتهى واتخذ مسارا اخر