المقاومة الفلسطينية بين تآكل السلطة وتآكل الانتصار …
أ. د. محسن محمد صالح
كان قرار قيادة السلطة الفلسطينية (قيادة منظمة التحرير وفتح) تعطيل الانتخابات، وبالتالي تعطيل مسار المصالحة وترتيب البيت الفلسطيني (29 أبريل/ نيسان2021)، وخوض المقاومة الفلسطينية معركة سيف القدس (10-21 مايو/ أيار 2021)؛ حدثين مفصليين في الشأن الفلسطيني. وقد كان من أبرز هذه التأثيرات فقدان القيادة الفلسطينية مصداقيتها وثقة الشارع الفلسطيني فيها، في مقابل تَصدُّر تيار المقاومة للمشهد الفلسطيني، وتوحد الشعب في الداخل والخارج خلف برنامج المقاومة والقدس.
وكانت التوقعات تشير إلى أن خريطة سياسية جديدة في طريقها إلى الظهور وفرض نفسها على الساحة الفلسطينية. غير أننا كنا نُحذِّر في حينه من أن تَشكُّل هذه الخريطة على أرض الواقع دونه تحديات كبيرة، لا ينبغي أن تخفيها أو تتجاهلها حالة الشعور بالانتصار والإنجاز في معركة “سيف القدس”.
تآكل السلطة الفلسطينية:
الحقيقة التي ظهرت بأقوى تجلياتها في مايو/ أيار 2021 هي ذلك الفراغ السياسي الذي تعانيه الساحة الفلسطينية، وغياب “الشرعية” الفلسطينية عن ساحة الفعل الميداني، وعن القدرة على التأثير العربي والدولي. وفي الوقت الذي تجاوز فيه الشعب الفلسطيني ومعظم فصائله وقياداته وتياراته مسار التسوية السلمية، كانت القيادة الفلسطينية ما تزال تعيش “حالة الإنكار”، وتصرُّ على متابعة هذا المسار، وتعيش خارج حركة التاريخ. وهي في الوقت نفسه، تصرّ على متابعة الدور الوظيفي للسلطة الفلسطينية ومتابعة التنسيق الأمني، بما يجعلها تخدم أغراض الاحتلال بعيداً عن تطلعات الشعب الفلسطيني. وهي تُصرُّ كذلك، على متابعة الهيمنة على منظمة التحرير الفلسطينية، من دون فتح المجال لأي شراكة حقيقية لقوى فلسطينية ذات شعبية واسعة وفاعلة على الأرض. وجاء فشل هذه القيادة في إدارة ملف المصالحة ليضيف مزيداً من الملح على الجرح.
فإذا أضيف إلى ما سبق حالة التَّشظِّي الذي عانته حركة فتح، خصوصاً في أجواء الانتخابات، وأزمة القيادة والتوريث القيادي لمرحلة ما بعد عباس، وفقدان الرؤية في إدارة المرحلة، وعدم وجود برنامج سياسي فعال على الأرض، مقروناً بعجز الإرادة وحالة الترهل والتردي التي تشهدها السلطة ومنظمة التحرير، مع انحسار الدعم الشعبي للرئاسة والحكومة ولفتح نفسها… فإن كلّ ذلك يكشف مدى التآكل الذي تعانيه السلطة الفلسطينية، خصوصاً في بيئتها الداخلية الفلسطينية.
تآكل الانتصار:
من ناحية أخرى، فإن خط المقاومة الذي كانت استطلاعات الرأي تصب لصالحه في الانتخابات الفلسطينية فيما لو جرت؛ والذي قدم أداء متميزاً في معركة سيف القدس، وأحدث “زلزالاً” شعبياً فلسطينياً، مدعوماً بتضامن عربي وإسلامي ودولي شعبي كبير؛ وسط انكفاء تيارات التسوية والتطبيع…؛ قد واجه معضلة توظيف انتصاراته وترجمتها على الأرض، وكيفية تعبيره عن الإرادة الشعبية في الأطر والمؤسسات “الرسمية” الفلسطينية، التي ظلّت تغرّد خارج السرب، ولا تعكس النبض الحقيقي للشعب الفلسطيني.
ولأن البيئة العربية والدولية هي بيئة غير مواتية لتيارات المقاومة، نظراً لتبنّيها مسار التسوية، كما أنها تعادي أو لا تتوافق مع الخط الإسلامي الذي تتبناه أبرز هذه التيارات؛ فإنها فضلت الاستمرار في “إعطاء الشرعية” لقيادة السلطة، وقطع الطريق على قوى المقاومة حتى لو عكست الإرادة الساحقة للشعب الفلسطيني.
وبالتالي، راهنت الولايات المتحدة وحلفاؤها، كما راهنت المنظومة العربية على ثلاثة أمور:
الأول: إعادة تأهيل السلطة الفلسطينية، ومحاولة نفخ الروح فيها من خلال المساعدات الاقتصادية والأمنية، والتلميع الإعلامي؛ ومحاولة حصر مصادر التمويل والدعم الفلسطيني بيدها أو من خلالها.
الثاني: تفريغ انتصار المقاومة ومنجزاتها من محتواه، من خلال منع أي استثمار أو ترجمة سياسية له؛ وامتصاص أجواء الحماسة الشعبية، وإعادة الناس إلى مربعات السيطرة، وخصوصاً في الضفة الغربية.
الثالث: إشغال قطاع غزة وقيادة المقاومة بالحصار وبتضميد الجراح نتيجة الدمار وبملفات إعادة الإعمار، ليعود الوضع إلى ما كان عليه قبل “سيف القدس” أو حتى ما هو أسوأ، لمتابعة برنامج تطويع المقاومة وإسقاطها.
وقد جاءت تعقيدات التحويلات المالية لقطاع غزة، وتعطيلات ملف إعادة الإعمار في هذا الإطار؛ كما جاء اغتيال “نزار بنات” وحملات الاعتقال السياسي في الضفة لمحاولة إظهار “العين الحمراء” للسلطة عندما يتعلق الأمر بالحريات أو بمن ينتقصون من الهيبة المصطنعة للسلطة. وكان تواصل الاعتداءات الإسرائيلية في القدس وعلى قطاع غزة محاولة إسرائيلية لإلغاء التأثيرات التي أحدثتها معركة سيف القدس. ويندرج في هذا الإطار إغلاق السلطات المصرية لمعبر رفح لفترات لتكون رسائل ضغط سياسي على قيادة المقاومة.
أما ثالثة الأثافي، فهي أن الرئيس الفلسطيني بدا مرتاحاً إلى “العكازات” العربية والدولية الداعمة لشرعية سلطته؛ وبدا وكأنه هو الذي فاز في الاستحقاق الانتخابي الشعبي وانتصر في سيف القدس!! فرفع سقف شروطه مع المقاومة لاستئناف مسار المصالحة الوطنية؛ ليشترط عليها الالتزام بـ”الشرعية الدولية” مدخلاً لذلك. وهو شرط يعلم مسبقاً أن المقاومة لن توافق عليه لأنه يعني ببساطة الاعتراف بـ “شرعية” الكيان الإسرائيلي على معظم فلسطين، والتخلي عن المقاومة والالتزام بمسار التسوية السلمية. بعبارة أخرى، يطلب من المقاومة أن تلغي ذاتها، وأن تشاركه إدارة الوهم والفشل الأوسلوي؛ وأن تستنسخ المسار الذي قامت لإسقاطه؛ وأن تقدم له التنازلات التي عجز الصهاينة والأمريكان وقوى التطبيع العربي والدولي أن يجرُّوها إليه. يضع الرئيس الفلسطيني هذه “الشرعية الدولية” شرطاً ليتهرب من “الشرعية الشعبية الفلسطينية” ومن استحقاقاتها التي يعلم نتائجها مسبقاً. وببساطة فإن رهانه، هو رهان على الزمن، من خلال وضع العصي في العجلات، بانتظار أن يُعاد تأهيل السلطة، وأن ينسى الناس إنجازات المقاومة؛ بينما يتآكل الانتصار في ضوء قسوة الواقع ومعطياته. وهو ما حدث ما يشبهه إثر معركة الفرقان 2008/2009، وإثر معركة العصف المأكول في صيف 2014.
تعكس هذه البيئة المُتعطلة والمعطِّلة للعمل الفلسطيني أزمة مشروع أوسلو بأسوأ تجلياته؛ بعد مرور 28 عاماً على توقيع اتفاقياته. فهي تعكس أزمة المشروع الوطني الفلسطيني، بأبعاده المختلفة: أزمة قيادة، وأزمة مسارات، وأزمة برنامج وطني، وأزمة مؤسسات تمثيلية وتنفيذية. وهي بالتالي أزمة تقف حائلاً يمنع منجزات المقاومة والعمل الوطني الفعال من أن ينعكس على البنى المؤسسية الفلسطينية.
واجب الوقت:
ويبدو أن القيادة الفلسطينية ما دامت مرتاحة إلى ظهيرها العربي والدولي، فلن تسير بأي خطوات جادة تجاه إصلاح حقيقي للبيت الفلسطيني؛ ولذلك فمن الخطأ أن يبقى الفلسطينيون أسرى الانتظار على بابها. وفي هذه الأثناء فإن المسارعة إلى إيجاد اصطفاف وطني واسع من كل القوى الفلسطينية في الداخل والخارج، على خلفية برنامج يلتزم بالثوابت ويلتف حول المقاومة والقدس، يصبح “واجب الوقت”. وهو اصطفاف قد يظهر في شكل جبهة أو تحالف، ويفرض واقعاً فلسطينياً معبّراً عن الأغلبية الشعبية الفلسطينية، ويرسل رسالة قوية بأن شعب فلسطين يُصرّ على امتلاك إرادته الحرة وصناعة قراره بنفسه، ويرفض الإملاءات الخارجية والشرعيات المصطنعة.
ومن ناحية ثانية، فلا بدّ من وجود قيادة انتقالية تحوز على الثقة الشعبية لإدارة ترتيبات إصلاح البيت الفلسطيني. كذلك لا بدّ من ناحية ثالثة، من برنامج سياسي مرحلي يتجاوز مرحلة أوسلو، ويتابع مشروع التحرير. وعلى القوى الشعبية والاتحادات والنقابات ألا تنتظر أحداً، من ناحية رابعة، فتسعى إلى إيجاد بيئات شعبية فعالة وضاغطة على القيادة الفلسطينية، باتجاه فسح المجال لتغيير وطني حقيقي نزيه وشفاف.