آفاق العلاقة بين الأردن وحماس في ضوء المتغيرات السياسية
ملخص:
بالرغم من التقلبات التي شهدتها علاقة الأردن بحركة حماس على مدى الثلاثين عاماً الماضية، إلا أنها لم تصل درجة القطيعة؛ مع ملاحظة أنه قد غلب عليها في العقدين الماضيين سقفها الأمني، وبُعدها الاجتماعي.
حدثت تغيرات كبيرة في الساحة الفلسطينية في الأشهر الماضية، جعلت حماس، خصوصاً إثر معركة سيف القدس، تتصدر المشهد الفلسطيني، وتلقى تعاطفاً وتأييداً شعبياً واسعاً في الساحة الأردنية؛ في الوقت الذي تراجعت فيه السلطة الفلسطينية وقيادتها، وفقدت الكثير من مصداقيتها إثر تعطيلها للانتخابات.
للأردن العديد من الحسابات المتداخلة والموازنات الدقيقة في إمكانية تطوير علاقته بحركة حماس، وهي حسابات مرتبطة بالمصالح العليا للأردن، وبمواقف الشعب الأردني ونخبه السياسية، واحتمالات التأثير على الوضع الداخلي، وانعكاسات هذا التطوير المحتملة عربياً ودولياً وإسرائيلياً، بالإضافة إلى موقف قيادة السلطة الفلسطينية.
وضمن ثلاثة سيناريوهات محتملة، فإن السيناريو المرجح أن يحدث تطور جزئي محدود قد يحقق بعض المكاسب المعتبرة، ويجنّب الأردن الرسمي في الوقت ذاته تحمّل أعباء لا يرغب بدفع أثمانها في المرحلة الحالية.
مرت علاقة الأردن مع حركة حماس بحالات مدّ وجزر، وشهدت تقلبات عديدة خلال العقود السابقة، غير أنها لم تصل درجة القطيعة سوى في فترة قصيرة أعقبت اندلاع الأزمة بين الطرفين سنة 1999 على خلفية اعتقال عدد من قادة الحركة وإبعادهم إلى قطر. وبقيت قنوات التواصل مستمرة بين الطرفين بمستوى محدود يتقدّم أحياناً ويتراجع أحياناً أخرى، متأثرة بالعوامل المحلية ومتغيرات العلاقة مع القضية الفلسطينية، ومعطيات البيئة الإقليمية والدولية.
وقد شهدت الشهور الأخيرة العديد من المتغيرات المهمة على الساحة الفلسطينية والإقليمية، وتزايدت الدعوات داخل الأردن لإعادة النظر في سقف العلاقة مع حماس، ورافق ذلك رغبة قوية من الحركة بتطوير علاقاتها مع الأردن، الأقرب للقضية الفلسطينية، والمتأثر بصورة مباشرة بتداعيات الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي. وهو ما يطرح التساؤلات حول مستقبل العلاقة بين الطرفين وتأثير تلك المتغيرات على توجهات الجانب الرسمي في إدارة علاقته مع حماس وبقية أطراف المعادلة الفلسطينية.
أولاً: مسار العلاقة بين الطرفين:
بدأت العلاقة الرسمية بين حماس والأردن مطلع التسعينيات في أعقاب أزمة الخليج، حيث تمّ تسمية القيادي في الحركة محمد نزال ممثلاً للحركة في عمّان. وفي سنة 1992 سمح الأردن لمسؤول حركة حماس موسى أبو مرزوق وبقية أعضاء مكتبها السياسي بالإقامة في الأردن، وممارسة نشاطهم السياسي والإعلامي على أراضيه. وتأثر قرار الملك الحسين في حينه بالتقارب مع حماس بتوتر العلاقة الأردنية مع منظمة التحرير الفلسطينية، على خلفية انفرادها بمسار المفاوضات مع الجانب الإسرائيلي.
وتأثرت العلاقة بين الأردن وحماس سلباً بعد توقيع معاهدة السلام الأردنية الإسرائيلية في وادي عربة سنة 1994. واستُدعي الناطق الرسمي باسم الحركة إبراهيم غوشة من قبل السلطات الرسمية وطُلب منه تخفيف حدة التصريحات الإعلامية، خصوصاً ما يتعلق بالعمليات الاستشهادية التي نشطت الحركة في تنفيذها خلال تلك الفترة، ليتطوّر الأمر سنة 1995 إلى طلب مغادرة رئيس المكتب السياسي للحركة موسى أبو مرزوق للأراضي الأردنية، قبل إن يُسمح له بالعودة مجدداً للأردن سنة 1997، بعد عامين من الاعتقال في الولايات المتحدة.
شكّلت محاولة جهاز الموساد Mossad الإسرائيلي اغتيال رئيس المكتب السياسي لحماس خالد مشعل سنة 1997 على الأراضي الأردنية محطة مهمة في علاقة الأردن بحماس وبحكومة بنيامين نتنياهو Benjamin Netanyahu التي خرقت بنود الاتفاقيات والتفاهمات مع الأردن، وهو ما أثار غضب الملك الحسين، الذي نجح في تأمين الإفراج عن الشيخ أحمد ياسين وعدد من المعتقلين الفلسطينيين والأردنيين من السجون الإسرائيلية، مقابل الإفراج عن عضوَي الموساد المعتقلين في عمّان على خلفية تنفيذهما محاولة الاغتيال الفاشلة. وتمّ بالفعل استقبال الشيخ ياسين في الأردن قبل عودته إلى قطاع غزة.
واستمرت علاقة الطرفين بصورة معقولة حتى وفاة الملك الحسين سنة 1999، لتَدْخل العلاقة مرحلة سياسية مختلفة في العهد الجديد تمثّلت ذروتها في إغلاق مقرات الحركة في عمّان، واعتقال رئيس مكتبها السياسي وأعضائه بتهمة مخالفة الأنظمة والتعليمات، قبل أن يتم إبعادهم إلى قطر، لتطوى صفحة مهمة في العلاقة بين الطرفين.
عقب ذلك اختُزلت علاقة الأردن بحماس في قناة تواصل أمنية محدودة، وفي زيارات حملت طابعاً إنسانياً واجتماعياً، حيث تمّ السماح لخالد مشعل سنة 2009 بزيارة الأردن للمشاركة في تشييع جثمان والده. وفي السنة نفسها، أصدر العاهل الأردني توجيهاته بتأسيس المستشفى الميداني العسكري الأول في قطاع غزة، والذي استقبل أكثر من 3 ملايين مراجع، وكان يجري تبديل كوادره بصورة دورية.
وفي أجواء الربيع العربي وبوساطة قطرية، استقبل الملك عبد الله الثاني سنة 2012 أمير قطر تميم بن حمد يرافقه رئيس المكتب السياسي لحماس خالد مشعل، لكن هذا اللقاء لم يحدث انفراجة مهمة في العلاقة بين الطرفين، لتعود العلاقة إلى سقفها الأمني، وبُعدها الإنساني والاجتماعي.
وفي ظلّ توتر العلاقة بين الأردن وحكومة نتنياهو تلقى الملك عبد الله اتصالاً هاتفياً في 25/10/2017 من رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية، غير أن هذا الاتصال لم تتبعه خطوات لاحقة تؤثر في حالة الجمود القائمة، وتسهم في إعادة الدفء للعلاقة بين الطرفين.
ثانياً: متغيّرات مهمة ودعوات لإعادة التقييم:
وجدت دوائر صنع القرار في الأردن نفسها خلال الشهور الماضية أمام متغيرات مهمة محلياً وفلسطينياً وإقليمياً، تفرض إعادة تقييم الموقف في إدارة العلاقة مع حركة حماس ومع مجمل الوضع الفلسطيني.
فعلى المستوى المحلي، شهد الأردن تصاعداً كبيراً في التعاطف والتأييد الشعبي والسياسي لحركة حماس بتأثير الأداء المميز للمقاومة الفلسطينية في معركة سيف القدس (أيار/ مايو 2021). وتحوّل قادة المقاومة والمتحدثون باسمها كمحمد الضيف وأبو عبيدة إلى رموز وطنية تحظى بإعجاب الأردنيين وتستقطب اهتمامهم، لا سيّما فئة الشباب. وقد عبّرت المسيرات العفوية الحاشدة نحو الحدود واقتحام عدد من الشبان الحدود مع الأراضي الفلسطينية المحتلة، عن مشاعر جارفة في دعم المقاومة وفي التعاطف مع الشعب الفلسطيني في مواجهة جرائم الاحتلال. وكان الأردن من أكثر الساحات العربية تفاعلاً مع معركة سيف القدس، وشهد مئات الفعاليات الشعبية، التي شملت مختلف المدن والبلدات والقرى الأردنية من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب.
ولم يقتصر الأمر على الحالة الشعبية التي دعت بشكل قوي لتعزيز علاقة الأردن بحماس والمقاومة، بل تجاوزها ليشمل القوى السياسية والعشائرية والنخب السياسية والوطنية، بما في ذلك كثير من المسؤولين السابقين الذين دعوا صراحة إلى ضرورة إعادة النظر في الموقف الرسمي من العلاقة مع حماس، وأكدوا أهمية إقامة علاقات متوازنة مع مختلف الأطراف الفاعلة في الساحة الفلسطينية، وعدم اختزالها في العلاقة مع طرفٍ واحدٍ تراجعت شعبيته بصورة كبيرة، وباتت حقيقة تمثيله للشعب الفلسطيني موضع شكّ، على الرغم من الاعتراف الإقليمي والدولي بشرعيته السياسية.
ثم جاءت مراسم التشييع والعزاء لجنازة الناطق الرسمي وعضو المكتب السياسي الأسبق لحركة حماس إبراهيم غوشة في 27/8/2021، لتشكّل حدثاً بارزاً على الساحة الأردنية يؤكد حجم التأييد الشعبي لحماس في الشارع الأردني وفي أوساط النخب الوطنية والسياسية. حيث تحوّلت المراسم إلى حدث وطني يشبه التظاهرة السياسية، وهو ما رآه البعض استفتاءً على تأييد الشارع الأردني للمقاومة الفلسطينية.
وعلى المستوى الفلسطيني، وجّه قرار الرئيس محمود عباس في 29/4/2021 بتأجيل الانتخابات التشريعية والرئاسية واستكمالات انتخابات المجلس الوطني إلى أجل غير مسمى، ضربة قوية لجهود إنهاء الانقسام وتحقيق المصالحة، وأدخل الساحة الفلسطينية في حالة من التوتر والإرباك والانسداد السياسي، وأعاد الأمور إلى نقطة الصفر.
في الوقت نفسه، شكَّلت معركة سيف القدس بين المقاومة والاحتلال الصهيوني في 10/5/2021 تحوّلاً مهماً في الساحة الفلسطينية، وحفرت عميقاً في الوعي الفلسطيني والعربي، وأثَّرت بصورة كبيرة في أوزان اللاعبين الرئيسيين في الساحة الفلسطينية، حيث أظهرت استطلاعات الرأي المحايدة تعاظم شعبية حماس بصورة كبيرة في الشارع الفلسطيني على حساب السلطة وحركة فتح، التي تدهورت شعبيتها إلى مستويات متدنية للغاية.
ولعل التأثير الأهم لمعركة سيف القدس تمثّل في تكريسها حركة حماس قيادة لمشروع المقاومة، ومُعَبِّراً عن تطلعات الشعب الفلسطيني، وأمراً واقعاً يصعب تجاوزه في أي ترتيبات سياسية أو أمنية مستقبلية في الساحة الفلسطينية. فقد باتت الحركة في نظر كثير من الأطراف الإقليمية والدولية العنوان الأبرز في المعادلة الفلسطينية، واللاعب الأهم في معادلة التهدئة والتصعيد. ونتيجة لذلك وجدت الأطراف الإقليمية والدولية نفسها مضطرة للتعامل مع حماس وفتح قنوات التواصل معها بصورة مباشرة أو غير مباشرة، علانية أو من وراء ستار، وهو ما حصل بالفعل من قبل العديد من الدول الغربية المهمة، ولم يقتصر الأمر على بعض الدول العربية التي استقبلت قيادة حماس بحفاوة بالغة.
وعلى المستوى الإقليمي، شهدت المنطقة خلال الشهور الأخيرة عملية إعادة تموضع وانفراجاً في العلاقات السياسية بين العديد من الدول التي تأزمت علاقاتها فيما مضى، ولم تجد تلك الدول حرجاً في إعادة تقييم مواقفها وعلاقاتها السياسية، والسعي لاعتماد مقاربات جديدة في إدارة منظومة علاقاتها الإقليمية بما يخدم مصالحها ويساعدها على التعاطي بصورة أفضل مع التحولات والمتغيرات الإقليمية والدولية. حيث تقاربت مصر والسعودية والإمارات، كلٌّ على حدة، مع تركيا وقطر، وجرى إنهاء حالة القطيعة والخصومة السياسية، وتتجه العلاقات بين تلك الدول نحو تجاوز الأزمات وبناء علاقات تعاون سياسي واقتصادي. الأمر الذي يوفّر فرصة لإجراء مراجعات لمجمل العلاقات الإقليمية، في بيئة سياسية تشهد حالة سيولة شديدة.
ثالثاً: تفاعل رسمي حذر مع المتغيّرات:
حملت الموافقة الرسمية على السماح بمشاركة رئيس المكتب السياسي لحماس إسماعيل هنية ورئيس الحركة في الخارج خالد مشعل وعدد من رموزها القياديين في مراسم العزاء دلالات سياسية مهمة؛ على الرغم من حرص المسؤولين الأردنيين على حصر الزيارة في بعدها الإنساني والاجتماعي، وتجنّبهم عقد أي لقاءات سياسية مع قيادة الحركة. ومن غير المستبعد أن يكون قرار السماح لقادة حماس بزيارة الأردن قد تأثر بالمزاج السياسي والشعبي في الأردن، وبحسابات مستجدة لدى أصحاب القرار الرسمي.
وكانت حركة حماس قد عبرّت بعد انتهاء معركة القدس عن رغبة قوية بزيارة الأردن والتواصل مع قياداته السياسية، غير أن هذه الرغبة لم يتم تحقيقها بالكامل، واقتصر الأمر على اتصال هاتفي جرى بين هنية ومدير المخابرات الأردنية.
فعلى الرغم من أهمية العامل الشعبي وتأثيره في توجهات الجانب الرسمي، إلا أن العامل الإقليمي ما يزال قوي الحضور والتأثير في الحسابات الرسمية، حيث شارك الأردن في القمة الثلاثية التي انعقدت في القاهرة بتاريخ 2/9/2021 وجمعت العاهل الأردني والرئيسين المصري والفلسطيني وغاب عنها رئيس الوزراء الإسرائيلي، وكان البند الأهم على جدول أعمالها دعم السلطة الفلسطينية ومنع انهيارها في ظل التحديات التي تواجهها.
رابعاً: السيناريوهات المحتملة لمستقبل العلاقة:
مع استبعاد سيناريو التصعيد والتوتر في العلاقة بين الطرفين وخروجه من دائرة السيناريوهات المنطقية المحتملة في ظلّ المعطيات الحالية، يُرجّح أن يراوح مستقبل علاقة الأردن مع حركة حماس على المستويين القريب والمتوسط بين السيناريوهات الثلاثة التالية:
الأول: استمرار الفتور والعلاقات المحدودة بسقفها الأمني وبعدها الإنساني والاجتماعي، وهو السيناريو القائم حالياً والمتواصل منذ نحو عقدين من الزمن.
الثاني: تطوير سقف العلاقة مع حركة حماس بصورة نوعية ونقلها إلى المستوى السياسي، وبناء علاقات متوازنة مع حماس والسلطة، بعيداً عن الانحياز لأي من أطراف المعادلة الفلسطينية.
الثالث: تطوير جزئي لسقف العلاقة بين الطرفين بما يحقق بعض المكتسبات ويجنّب تحمّل أعباء لا يرغب الجانب الرسمي بدفع أثمانها في هذه المرحلة.
خامساً: محددات الترجيح بين السيناريوهات:
للترجيح بين السيناريوهات الثلاثة، تبرز المحددات والعوامل التالية التي يتوقّع أن تؤثر على مستقبل العلاقة بين الطرفين خلال الفترة القادمة:
1. قراءة الجانب الرسمي للمصالح الأردنية العليا، ومدى تأثرها بالاقتراب من حماس أو الابتعاد عنها.
2. موقف الشعب الأردني ونخبه الوطنية وقواه السياسية من الانفتاح الرسمي على العلاقة مع حماس.
3. التأثير المتوقع لتطوير العلاقة مع حماس على وضع الحركة الإسلامية في الأردن وعلاقتها بالجانب الرسمي. حيث تُروّج بعض الأطراف المحلية المتحفّظة على تطوير العلاقة مع حماس أن الانفتاح عليها من شأنه أن يعزّز قوة الحركة الإسلامية وحضورها الشعبي، وهو ما ترى فيه تلك الأطراف خطراً على مصالحها وتراه تهديداً للنظام السياسي.
4. حساسيات العلاقة مع السلطة الفلسطينية، والرغبة بإدامة التنسيق معها بعيداً عن أسباب التوتر؛ في ظلّ حساسية عالية لدى السلطة من التقارب مع حماس، التي تبرز كمنافس قوي لها في الساحة الفلسطينية، خصوصاً بعد تداعيات معركة سيف القدس.
5. الانعكاسات المحتملة للتقارب مع حماس على علاقة الأردن مع الجانب الإسرائيلي.
6. الرغبة المصرية باحتكار إدارة الملف الفلسطيني وتحسّسها من دخول الأردن أو أي طرف آخر على ملفات القضية الفلسطينية.
7. التوجهات السلبية لبعض الدول الخليجية تجاه حركات الإسلام السياسي، ومن ضمنها منها حركة حماس.
8. موقف الإدارة الأمريكية والدول الأوروبية من تطوير الأردن علاقته مع حماس في ظلّ تصنيف الإدارة الأمريكية لها كـ”حركة إرهابية”.
سادساً: التوقعات:
بقراءة التأثير المحتمل للمحددات السابقة في خيارات الأردن المستقبلية تجاه إدارة علاقته مع حماس، يمكن توقّع ما يلي:
1. يُتوقّع أن تحضر العديد من المصالح المعتبرة في حسابات الجانب الرسمي في إدارة علاقته المستقبلية مع حركة حماس. فالخيارات السياسية للجانب الرسمي الداعمة لمسار التسوية والمفاوضات قد تقف حجر عثرة في طريق تطوير علاقته مع حماس، في حين أن مخاوفه من المخططات الإسرائيلية التي تبحث عن حلول للقضية الفلسطينية على حساب الأردن تدفع في الاتجاه المعاكس. كما أن الحسابات الأمنية الأردنية والرغبة بضبط الحدود والحيلولة دون استخدام الأراضي الأردنية منطلقاً لأيّ أعمال عسكرية ضدّ الاحتلال الإسرائيلي، تؤثر بوضوح في خيارات الجانب الرسمي، وظلت على الدوام أولوية حاضرة في اعتبارات إدارة العلاقة مع مختلف الفصائل الفلسطينية.
2. يُرجّح أن يؤثر التأييد الشعبي الواسع لحركة حماس في الشارع الأردني على توجهات الجانب الرسمي خلال الفترة القادمة، وأن يدفع باتجاه مزيد من التوازن في الموقف من أطراف المعادلة الفلسطينية. وتتأثر نظرة الشارع الأردني لحماس بالعلاقات الأخوية والارتباط الوثيق مع الشعب الفلسطيني، كما تكرّست قناعة قوية في أوساط النخب السياسية بأن المقاومة الفلسطينية التي تقودها حماس باتت تشكّل خط الدفاع الأول عن الأردن في مواجهة الأطماع والمؤامرات الصهيونية، التي يرى فيها الأردنيون خطراً وجودياً يهدد مستقبل كيانهم.
3. من المتوقّع أن تستمر التخوفات الرسمية من انعكاسات غير مرغوبة لتطوير العلاقة مع حماس على شعبية الحركة الإسلامية في الأردن وعلى موقفها من الجانب الرسمي. لكن المتابع للسياق التاريخي للعلاقة بين الأردن وحماس، يلحظ حرص الحركة طيلة فترة وجودها في الأردن على تجنّب التدخل في الشأن المحلي، وحتى بعد خروجها من الأردن كان موقفها المعلن يشجع على موقف إيجابي للحركة الإسلامية تجاه العلاقة مع الجانب الرسمي الذي استعان في بعض المحطات بحركة حماس لإقناع الحركة الإسلامية بضرورة المشاركة في الانتخابات النيابية، وهو ما استجابت له حركة حماس في حينه. وقد حرص إسماعيل هنية وخالد مشعل في كلماتهما خلال مراسم تشييع إبراهيم غوشة على توجيه رسائل طمأنة مهمة للجانب الرسمي حظيت باهتمام وسائل الإعلام الأردنية.
4. في العلاقة مع السلطة الفلسطينية، يدرك الأردن أن تحولات مهمة حصلت على موازين القوى في الساحة الفلسطينية ينبغي أن تؤخذ بالحسبان، وتفرض إجراء تعديلات على الموقف الرسمي من التواصل مع حماس؛ لكن مع الحرص في الوقت ذاته على أن لا يؤثر ذلك على الشراكة السياسية مع السلطة كطرف رسمي يتبنّى ذات الخيارات السياسية تجاه المفاوضات ومسار التسوية السياسية.
وفي مؤشر إلى تعديل محتمل على موقف الجانب الرسمي من التواصل مع حماس، قال وزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي خلال مؤتمر صحفي عقده في عمّان مع نظيره المصري سامح شكري في أيار/ مايو 2021: “اتصالاتنا مع أشقائنا في فلسطين مستمرة، وكان هنالك اتصال بين المملكة وحماس عبر الأسابيع الماضية، نحن نتعامل مع الشعب الفلسطيني كشعب شقيق ونقارب الأمور من منطلق موقفنا الثابت من أننا نعترف بدولة فلسطين دولة فلسطينية، ونتعامل مع القيادة الفلسطينية ونتعامل مع كل أشقائنا في فلسطين في إطار العلاقات الطبيعية”.
وأضاف: “وفق هذه العلاقات فالتواصل مستمر مع الجميع، وهدفنا الأساس خدمة فلسطين، وإسناد أشقائنا الفلسطينيين”.
5. يتوقّع أن تؤثّر العلاقة مع “إسرائيل” سلباً على مستقبل علاقة الأردن بحركة حماس، في ظلّ التحسن الذي طرأ على العلاقات الأردنية الإسرائيلية خلال الشهور الأخيرة بعد رحيل بنيامين نتنياهو الذي تسبب بتوتير العلاقة مع الأردن طيلة السنوات الماضية. ويتخذ الجانب الإسرائيلي موقفاً معارضاً لتطوير العلاقة بين الأردن وحماس، ويرغب في حصر إدارة العلاقة معها عربياً بالجانب المصري.
6. يُرجّح أن يستمر التأثير السلبي للموقف المصري على خيارات الأردن في العلاقة مع حماس. حيث يحرص الجانب المصري على مواصلة احتكار التأثير في الساحة الفلسطينية، ويسعى في الوقت ذاته لحصر علاقته مع حماس بالبعد الأمني.
7. خليجياً، يُتوقّع أن يتأثر موقف الأردن من حماس بتطورات علاقتها مع السعودية والإمارات. حيث تراعي الديبلوماسية الأردنية اعتبارات تلك الدول وخياراتها السياسية، وتتحاشى مصادمة توجهاتها في الملفات الإقليمية، ومن ضمنها العلاقة مع حماس. وقد أصدرت المحاكم السعودية في 8/8/2021 أحكاماً بالسجن لفترات طويلة بحق العديد من أفراد حماس والمقربين منها.
8. من غير الواضح حتى هذه اللحظة طبيعة الموقف الذي ستتبناه الإدارة الأمريكية والحكومات الأوروبية إزاء انفتاح الأردن على العلاقة مع حماس؛ لكن المرجّح أن يعتمد موقف الإدارة الأمريكية على مدى تأثير ذلك على فرص التهدئة في الساحة الفلسطينية. فقد بات الحفاظ على التهدئة وتجنّب التصعيد أو اندفاع الأمور نحو مواجهة جديدة بين الفلسطينيين والإسرائيليين، أولوية لدى الإدارة الأمريكية. كما أن الجانب الأمريكي وبعض الأطراف الأوروبية أبدت اهتماماً بعد معركة سيف القدس بفتح قنوات تواصل مباشرة أو غير مباشرة مع حماس.
سابعاً: السيناريو المرجّح:
في ضوء ما سبق يُرجّح أن لا يذهب الجانب الرسمي الأردني بعيداً في تطوير علاقته مع حركة حماس في ضوء المعيقات التي ما زال يأخذها بالحسبان على الرغم من المتغيرات المهمة التي طرأت على المشهد الفلسطيني والإقليمي، وهو ما يُضعف فرص نجاح سيناريو تطوير العلاقة مع حماس بصورة تحقّق نقلة نوعية.
غير أن قراءة الأردن لحجم الخسائر التي ترتبت على اختزال علاقته السياسية مع طرف واحد في الساحة الفلسطينية، وحالة التعارض مع الموقف الشعبي المؤيد للانفتاح على حركة حماس، والشعور بأن فتور العلاقة مع الحركة فوّت على الأردن فرصة تعزيز دوره الإقليمي وإمكانية لعبه دوراً سياسياً مؤثراً خلال مواجهة سيف القدس، التي حضر فيها دور مصر وقطر بشكل قوي وانعكس إيجاباً على علاقاتهما مع إدارة جو بايدن Joe Biden…؛ كل ذلك يدفع باتجاه إعادة النظر بشكل إيجابي في العلاقة بحماس.
ويبدو السيناريو الثالث، أي التطوير الجزئي لسقف العلاقة مع حماس، السيناريو المرجّح خلال الفترة القادمة، حيث يحقق بعض المكتسبات المعتبرة، ويجنّب الأردن الرسمي في الوقت ذاته تحمّل أعباء لا يرغب بدفع ثمنها في المرحلة الحالية. وهو يشكّل نصف خطوة إلى الأمام تُلبّي بعض مطالب الشارع الأردني ونخبه السياسية والعشائرية، وتوفّر فرصة لتعزيز الحضور الإقليمي، وفي الوقت ذاته تُجنِّبه الحرج في العلاقة مع السلطة و”إسرائيل” وبعض الأطراف العربية والدولية.
ثامناً: التوصيات:
انطلاقاً مما سبق نقترح ما يلي:
1. ضرورة انفتاح الأردن على مختلف الأطراف الفاعلة والمؤثرة في المشهد الفلسطيني، والوقوف على مسافة واحدة من فصائل العمل الوطني، وتطوير العلاقة مع حركة حماس ونقلها من بُعدها الإنساني وسقفها الأمني إلى المستوى السياسي. واستثمار العلاقة مع أطراف المعادلة الفلسطينية لتعزيز دور الأردن وحضوره الفاعل في الإقليم، بما يخدم مصالحه الوطنية ومصالح الشعب الفلسطيني.
2. تعزيز التعاون بين الأردن، الذي يتولى إدارة شؤون المقدسات، وبين مختلف القوى السياسية والشعبية في الساحة الفلسطينية، من أجل حماية القدس والمقدسات والتصدي للانتهاكات الإسرائيلية المتواصلة للمسجد الأقصى.
3. استثمار ما يتمتع به الأردن من علاقات جيدة مع أطراف العمل الوطني الفلسطيني لإنهاء الانقسام وتحقيق المصالحة وترتيب البيت الفلسطيني، بما يُعبّر عن الإرادة الحرة للشعب الفلسطيني.
4. تنسيق الجهود بين القوى الوطنية في الأردن وفلسطين لمواجهة المخططات الإسرائيلية التي تستهدف الأرض الفلسطينية وحقوق الشعب الفلسطيني، وللدفاع عن الأردن في مواجهة الأطماع الصهيونية وإفشال مؤامرات الترانسفير والتوطين ومشروع الوطن البديل.
لتحميل التقدير، اضغط على الرابط التالي:
https://www.alzaytouna.net/arabic/data/attachments/St-Assessment/Str-Ass_125_9-21.dochttps://www.alzaytouna.net/arabic/data/attachments/St-Assessment/Str-Ass_125_9-21.pdf