الديمقراطية والإسلام ... المقارنات الظالمة
في الآونة الأخيرة - وتحديداً بعد سقوط الإمبراطورية السوفيتية - اتسعت قاعدة المطالبة بالديمقراطية وتعالت الأصوات منادية ومطالبة بها هنا وهناك ، في العديد من الأقطار ، ومنها البلدان العربية والإسلامية ومرد ذلك في تقديري إلى جملة من الأسباب والعوامل الداخلية والخارجية لعل منها حالة الانسداد الخطير الذي وصلت إليه السياسة والدولة والسلطة والحكم في البلاد العربية والإسلامية سواء على مستوى النظرية والمفهوم ، أو على مستوى الممارسة والتطبيق.
فقد أخفقت تجربة العقود الماضية في تحقيق الغايات والأهداف والطموحات في البناء والتنمية والاستقرار ، والحرية ، والوحدة ، والعدل ، والمساواة ، وحفظ الكرامة ، وغير ذلك من مما تاقت وتطلعت إليه شعوبنا ومجتمعاتنا وأمتنا التي صارت تجد نفسها اليوم في العراء مجردة ومنكسرة ومنكشفة أمام كل التحديات والأخطار التي تتربص وتحيط بها من كل جانب ، وتتداعى عليها من كل حدب وصوب تزلزل حاضرها ، وتهدد مستقبلها بل ووجودها الحضاري كله.
وبالرغم من كثرة الأمراض والعلل التي تنهش مجتمعاتنا إلا أن الفساد السياسي يأتي على رأسها ويمثل أم الكبائر التي فاقمت من المشكلة وغذتها وأفسدت كل شيء جميل في حياتنا وكل ما بقي لنا من قيم إيجابية ، وعادات حميدة ، ودمرت مقدرة المجتمع ومقدراته ، وأنهكت جسده المنهك أصلاً فتفاقم الضعف والوهن في الأمة بصورة غير مسبوقة فلم يقف الفرد العربي والفرد المسلم ضعيفاً ومهتزاً أمام السلطة كما هو حاله اليوم حيث بلغ تغول السلطة ذروته ووصل ضعف المجتمع والفرد إلى أقصاه . الفساد يتسيد على كل شيء ... والنفوذ يفترس القانون كله أوله وآخره ورأسه وذيله والحاكم الفرد يطغى فتتحنط المؤسسات في تابوت شخصه وتتوارى وتختفي تحت جلباب عظمته ... وفي مقبرة المحسوبيات يدفن مبدأ تكافؤ الفرص ومبدأ الثواب والعقاب ... ويلتهم الفساد مخصصات التنمية وبرامجها فلا يبقي ولا يذر إلا ما يلزم ذره من الرماد على عيون المانحين والمقرضين أو حتى على عيون المواطنين إن كان هناك مواطنون.
وهكذا وجدنا أنفسنا في وضع تتقابل فيه الحرية والخبز ... الحرية والسجن ... بل الحرية والحياة أحياناً ... المعارضة والحرب ... الحبر والدم ... ويتغالب فيه اليأس والأمل ... التطلع والإحباط ... التوثب والإنكسار ... الكرامة والإذلال ... الإقدام والإحجام في التعاطي مع الشأن العام.
وأمام هذا كله فليس ثمة من مخرج سوى تصحيح مسار السياسة ، وإلجام نزوة الاستبداد والإعلاء من الحرية كقيمة لا تقبل التجزئة ولا التبعيض ، والأخذ بالديمقراطية كتعبيرات نظامية وتجسيدات مؤسسيه للحرية التي لا يصح لنا أن نسمح لصوت يعلو على صوتها.
بقدر ما يمثل ذلك الخطوة الصحيحة باتجاه الخروج من حالة الانسداد والاحتقان فهو يمثل نافذة الأمل في تحقيق البناء والتنمية والنهضة المنشودة بيد أنه من المهم أن ندرك أن انتقال مجتمعاتنا العربية والإسلامية وتحولها نحو الديمقراطية يمثل عملية مخاض يصطدم بالكثير من العقبات وبالتالي يتطلب الكثير من العزم والتضحية المفعمة بالأمل الواسع بالنجاح وباليقين الراسخ بالسير في الطريق الصحيح.
وما من شك إن الجهود الرامية إلى توطين الديمقراطية وتبيئتها ومواءمتها دونما انتقاص أو تشويه ستساعد كثيراً في تكييف مجتمعاتنا ورفع قابليتها للتحول الديمقراطي بصورة أسرع وبكلفة أقل ولسوف تسهم في تعزيز هذا التوجه الذي ننشده وترسخه وتجذره وقبل هذا وذاك سوف تساعدنا على تخطي الصعوبات والعقبات الكأداء التي تعترض مسار التحول الديمقراطي الذي تشهده بصورة أو بأخرى العديد من مجتمعاتنا سواء ما كان منبعها الانظمه الحاكمة وممارساتها القمعية أو ما قد يثيره البعض باسم الإسلام ، أو باسم الحداثة من لغط ولجاجة حول الإسلام والديمقراطية والمواءمة بين نظامي الحكم بينهما.
فهؤلاء قد يرون إننا إنما نحاول إضافة سفر جديد إلى الإسلام وندخل عليه ما ليس منه وليس أمام المسلمين سوى الانحياز لإسلامهم ونبذ الديمقراطية التي هي من ملة الكفر ..الخ.
وأولئك سيقولون إننا نجري تلفيقاً بين متناقضين يؤدي إلى أن ينزع عن الديمقراطية عناصرها الجوهرية المتمثلة بمنظومة من قيم الحداثة والعلمنة ليكون الناتج مسخاً شائهاً وليس أمام المواطنين في المجتمعات العربية والإسلامية سوى الانحياز للديمقراطية بكل منظوماتها القيمية بما يتطلبه ذلك من تحديد موقف معاد للدين فهذا هو الطريق الوحيد -في نظرهم- لتحقيق التقدم والتطور المنشود.
ومبعث هذه التقولات والتخرصات والمزاعم أو تلك - وبعيداً عن اتهام النوايا - إنما ينبع في تقديري من فهوم مغلوطة للإسلام وللديمقراطية بل وحتى لعملية العلمنة التي أخذت بها الدولة الحديثة في أوروبا وأمريكا وفي الغرب عموماً وهي فهوم في مجملها لا تستند إلى أي أساس موضوعي وبقدر ما هي أقرب إلى الانطباعات ففي الجانب الإسلامي نجد أنها مبنية إما على فهم خاطئ لمقتضى شمولية الشريعة وصلاحيتها لكل زمان ومكان أو على خلط بين النص الشرعي والتراث الفقهي وبين مبادئ وأحكام الشريعة وأنماط وأشكال وتقاليد الممارسة والسلوك العملي للمسلمين في مختلف المراحل التاريخية ، وقد يقود هذا الالتباس أحياناً إلى تنزيل اجتهادات المجتهدين منزلة الوحي والنص الشرعي.
وفي الجانب الآخر نجد كذلك جهلاً أو تجاهلاً في فهم الديمقراطية وجوهرها وخلط بين قيمها ومثالياتها الواحدة على مستوى التصور والنظر وبين تجسيداتها النظامية والمؤسسية التي تعددت وتنوعت بتنوع الممارسة والسلوك ، بالإضافة إلى الربط الخاطئ بين الديمقراطية كمبدأ أنساني وبين مساقات التجربة الأوروبية التي صاحبتها تلك الثورة العلمانية ضد استخدام الأقلية للدين كأداة لكبت الأغلبية الشعبية ومصادرة حرياتها المدنية وما أفرزته من حصر الجانب الديني في نطاق الحياة الخاصة و تضييقٍ لدائرة النفوذ الديني الكنسي وإقصائه من ميدان الحركة والسياسة.
هذا التشويش الحاصل لدى غلاة الطرفين جراء الخلط بين القيم والمثاليات وبين نماذج الممارسة والتطبيق إذا أضفنا إليه التشويش الذي لحق مفهوم الشورى كأهم ركيزة لنظام الحكم في الإسلام من جراء الممارسة التسلطية الاستبدادية التي ارتكبها حكام الملك العضوض باسم الإسلام والشورى في مختلف المراحل التأريخية وعلى مختلف النماذج التطبيقية العربية منها والفارسية والتركية ..الخ.
والتشويش الذي لحق مفهوم الديمقراطية من قبل أنظمة الحكم الشمولي التي رفعت العنوان الديمقراطي واصفة به نظام حكمها الذي قدم أبشع صور الاستبداد والقمع والتعسف للشعوب في بقاع عديدة لم تنج منها أي من قارات الأرض.
لهذه الأسباب وغيرها يشعر المخلصون والمفكرون الانسانيون بالحاجة الماسة إلى الحوار والتلاقح بين الحضارات والثقافات وفي هذا السياق تأتي هذه الحلقة النقاشيةü التي طلب مني نيابة أو أصالة أن أتحدث فيها عن إمكانية وجود ديمقراطية إسلامية. وبالطبع فإن حديثي لن يكون ذا طابع أكاديمي فلهذا الميدان أهله وسأقصر حديثي حول بعض الجوانب التي أرى أنه من المفيد التعاطي معها وعلى النحو التالي:
أ - مقدمات في طريق الفهم السليم.
ب - ركائز الكلمة السواء بين الإسلام والديمقراطية.
في طريق الفهم السليم:
1) لا يصح لأحد مهما كان أن يقول عن رأيه أو عن اجتهاده أو فهمه أن هذا هو دين الله وشريعة الله وحكم الله : وإنما يقول هذا هو قولي واجتهادي وأعتقد انه صواب يحتمل الخطأ وعليه أن ينظر إلى اجتهاد غيره انه خطأ يحتمل الصواب وقد كان رسول الله ^ اذا بعث أميرا على سرية إوجيش يوصيه من ضمن مايوصيه "اذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله فلاتنزلهم، فإنك لاتدري أتصيب حكم الله أم لا"(1)
لأنهم في حقيقة الأمر مهما بذلوا من وسع وجهد وتجرد وإخلاص في النظر والاجتهاد لا يستطيعون الجزم على جهة اليقين والقطع أن تكييف تلك الواقعة وحكمهم فيها مطابق لمراد الله وحكمه فيها.
2) الشريعة التي تعبد الله المؤمنين بها هي : الوحي الثابت قرآناً وسنة ، أما اجتهادات وفهوم الفقهاء والعلماء المتقدمين والمتأخرين من أصاب منهم ومن اخطأ فهي تمثل تراثاً حضارياً جديراً بالاحترام ويمكن الإفادة منه دونما إلزام أو تقيد.
3) إن شمول الشريعة لكل جوانب الحياة وصلاحيتها لكل زمان ومكان : لا يعني بأي حال من الأحوال إن الشريعة قد فصلت الأحكام تفصيلاً في كل جوانب وجزئيات الحياة الإنسانية ولم تترك مجالاً للعقل يُعمل فيها نظره ويبذل فيه وسعه بحثاً واجتهاداً، فمثل هذا الفهم بقدر ما ينم عن جهل فظيع بالشريعة الإسلامية فإنه يلحق بالمسلمين أفدح الأضرار ويسوقهم إلى الفتنة سوقاً ويلبس عليهم دينهم ويطالبهم بقولبة حياتهم المتغيرة المتطورة وتجميدها عند لحظة تاريخية معينة وهو أمر يخالف المعقول والمنقول معاً.
والحق إن ( الشارع الحكيم لم ينص على كل شيء بل هناك أشياء ترك النص عليها مطلقاً، وأشياء نص عليها بإجمال على وجه كلي، وأشياء نص عليها بالتفصيل المناسب لها )(2) وقد بين ذلك أهل العلم قديماً وحديثاً وفصله بعضهم على النحو التالي :-
أ- ما يتغير بتغير الزمان والمكان والإنسان تغيراً كلياً وجذرياً سكت عنه الشارع فلم ينص عليه وتركه لاجتهاد العقل الإسلامي يشرع له ما يناسب زمانه ومكانه.
ب- ما يتغير بعض التغيير بتغير الزمان والمكان والإنسان ولكن بصورة غير كلية وغير جذرية ومنها العلاقة بين الحاكم والمحكومين ونظام الحكم والشورى فقد جاءت النصوص فيها بصورة كلية ومجملة تقرر المبدأ والقاعدة تاركة التفصيل لاجتهاد العقول ونظرها بحسب مقتضيات الزمان والمكان والأوضاع وأكثر أحكام الشريعة وأدلتها على هذا النحو من الكلية والأجمال لأن غالب أوضاع الحياة على هذا المنوال.
ج - ما لا يتغير كثيراً بتغير الزمان والمكان والإنسان مثل علاقات البنونة والأبوة والأمومة وأحكام الأسرة والمواريث تناولته النصوص وفصلت فيه الأحكام(3)
وعلى هذا الأساس قام العلماء والفقهاء بعملية واسعة لتحليل النص فبينوا المجمل فيه والمفصل والعام والخاص والمطلق والمقيد والقطعي والظني ثبوتاً ودلالة وغير ذلك مما هو معلوم ومعروف عند الدارسين وبهذا يدرك معنى سعة الشريعة وشمولها حيث ( المنطقة القطعية محدودة جداً وإن كانت مهمة لأنها تمثل الثوابت، أما المنطقة الظنية التي تحمل تعدد الآراء واختلاف الاجتهادات فهي المنطقة الأوسع.