_ الديمقراطية والشورى .
لتروج فكرة الديمقراطية على الناس، قالوا وزعموا – زوراً وتضليلاً للناس – أن الديمقراطية هي الشورى في الإسلام، ولا تغاير بينهما ولا تناقض، حيث كل منهما يدل على الآخر ويعطي معناه .. وغير ذلك من الأقاويل الباطلة المزخرفة التي تأتي كلها من باب إلباس الحق بالباطل، وكتمان العلم على الناس رهبة من طاغوت، أو رغبة بالفُتات اليسير الذي يُرمى إليهم من قبل الطاغوت ..!
والله تعالى يقول: ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون البقرة:42 . وقال تعالى: يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون آل عمران:71 .
لذا تعين علينا أن نبين للقارئ أبرز الفوارق بين الديمقراطية والشورى، والتي منها:
1- الشورى كلمة عربية قرآنية جاء ذكرها والأمر بها في القرآن الكريم في أكثر من موضع، بينما الديمقراطية كلمة غربية، خبيثة المنبت والمنشأ، لا قرار لها ولا أصل ولا وجود لها في اللغة العربية، ولا في دين الله تعالى .
2- الشورى حكم الله تعالى، بينما الديمقراطية هي حكم الشعب، وحكم الطاغوت ..
3- الشورى تقرر أن السيادة والحاكمية لله تعالى وحده، بينما الديمقراطية تقرر أن السيادة والحاكمية للشعب، وما يختاره الشعب ..
4- الشورى تكون في مواضع الاجتهاد؛ فيما لا نص فيه،بينما الديمقراطية تخوض في كل شيء، وتحكم على كل شيء بما في ذلك النصوص الشرعية ذاتها، حيث لا يوجد في نظر الديمقراطية شيء مقدس لا يمكن الخوض فيه، وإخضاعه لعملية التصويت والاختيار..
5- تخضع الشورى لأهل الحل والعقد، وأهل الاختصاص والاجتهاد، بينما الديمقراطية تخضع لجميع طبقات وأصناف الناس؛ الكافر منهم والمؤمن، والجاهل منهم والعالم، والطالح والصالح فلا فرق، وكلهم لهم نفس الأثر على الحكم والقرار ..!
6- تهتم الشورى بالنوع والرأي الأقرب إلى الحق والصواب وإن خالف ذلك الأكثرية وما عليه الجماهير، بينما الديمقراطية تهتم بالكم والغثاء، وهي تدور مع الأكثرية حيث دارت، ولو كانت النتيجة مخالفة للحق موافقة للباطل ..!
7- ينبثق عن الشورى مجلس استشاري وظيفته استخراج أقرب الآراء إلى الحق وفق ضوابط وقواعد الشرع، بينما الديمقراطية ينبثق عنها مجالس تشريعية، لها صلاحيات التحليل والتحريم، وسن القوانين والتشريعات بغير سلطان من الله تعالى ..
8- الشورى من دين الله تعالى، الإيمان بها واجب وجحودها كفر ومروق، بينما الديمقراطية دين الطاغوت، الإيمان به كفر والكفر به إيمان ..
قال تعالى: فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى البقرة:256 .
9- الشورى – على القول الراجح - واجبة غير ملزمة، بينما الديمقراطية فإن الآراء التي تؤخذ عن طريقها – مهما كان نوعها وقربها أو بعدها عن الحق – فإنها ملزمة وواجبة ونافذة ..!
وبعد، هذه هي أهم الفوارق بين الشورى والديمقراطية، ومنها يتبين أن الفارق بينها شاسع وكبير، وأنه لا لقاء بينهما في شيء، وزعم اللقاء بينهما في بعض الأوجه هو محض افتراء وكذب ..
وللتذكير فإننا نقول: من يُسوي بين الشورى والديمقراطية، ويعتبرهما شيء واحد من حيث الدلالة والمعنى أو القيمة، مثله مثل من يسوي بين الخالق والمخلوق، وبين شرع
الله تعالى ودينه وشرع الطاغوت ودينه، وعليه وعلى أضرابه يُحمل قوله تعالى: قالوا وهم فيها يختصمون . تالله إن كنا لفي ضلالٍ مبين . إذ نسويكم برب العالمين الشعراء:96-98.
_ مناقشة مبادئ وأسس الديمقراطية .
مهما حاول دعاة الديمقراطية بكل اتجاهاتهم وانتماءاتهم – الذين يعيشون بأجسادهم في بلاد المسلمين وبقلوبهم وعقولهم في بلاد الغرب والكفر – أن يكسو الديمقراطية الثوب الوطني المحلي، أو القومي، أو الديني فيحملونها من المعاني مالا تحتمل ولا تتسع له، فإن للديمقراطية مبادئ وأسساً تقوم عليها وترافقها أينما حلت وحكمت، تُعتبر من الثوابت التي لا يمكن تغييرها أو تجاوزها، والتي من دونها لا تُسمى الديمقراطية – في عرف المؤسسين لها – ديمقراطية .
فالديمقراطية على اختلاف تشعباتها وتفسيراتها تقوم على مبادئ وأسسٍ نوجز أهمها في النقاط التالية:
أولاً: تقوم الديمقراطية على مبدأ أن الشعب هو مصدر السلطات بما في ذلك السلطة التشريعية، ويتم ذلك عن طريق اختيار ممثلين عن الشعب ينوبون عنه في مهمة التشريع وسن القوانين، وبعبارة أخرى فإن المشرع المطاع في الديمقراطية هو الإنسان وليس الله ..!
وهذا يعني أن المألوه المعبود المطاع – من جهة التشريع والتحليل والتحريم – هو الشعب والإنسان والمخلوق وليس الله تعالى، وهذا عين الكفر والشرك والضلال لمناقضته لأصول الدين والتوحيد، ولتضمنه إشراك الإنسان الضعيف الجاهل مع الله في أخص خصائص إلهيته، ألا وهو الحكم والتشريع ..
قال تعالى: إن الحكم إلا لله أمر أن لا تعبدوا إلا إياه يوسف:40 .
وقال تعالى: ولا يشرك في حكمه أحداً الكهف:26 .
وقال تعالى: وما اختلفتم فيه من شيءٍ فحكمه إلى الله الشورى:10 . وليس إلى الشعب أو الجماهير، أو الكثرة الكاثرة ..
وقال تعالى: أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقومٍ يوقنون المائدة:50 . وقال تعالى: قل أفغير الله أبتغي حكماً وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلاً الأنعام:118 .
وقال تعالى: أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله الشورى:21 . فسمى الذين يشرعون للناس بغير سلطان من الله تعالى شركاء وأنداداً ..
وقال تعالى: وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك المائدة:49.
وقال تعالى: اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله التوبة:31.
جاء في الحديث عن عدي بن حاتم لما قدم على النبي وهو نصراني، فسمعه يقرأ هذه الآية: اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله .قال: فقلت له إنا لسنا نعبدهم – أي لم نكن نعبدهم من جهة التنسك والدعاء، والسجود والركوع، لظنه أن العبادة محصورة في هذه المعاني وحسب – قال: " أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه، ويحلون ما حرم الله فتحلون "؟ قال: فقلت بلى. قال: " فتلك عبادتهم " .
ونحوه قوله تعالى: قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواءٍ بيننا وبينكم ألا نعبد إلا اللهَ ولا نُشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون آل عمران:64. أي ليكون – يا أهل الكتاب – اتفاقنا واجتماعنا على كلمة سواء بيننا وبينكم تتضمن توحيد الله تعالى وعبادته وطاعته، والتحاكم إليه سبحانه؛ فنحل حلاله ونحرم حرامه، وأن لا نجعل من الإنسان المخلوق مألوهاً مطاعاً نرد إليه النزاعات، ونعترف له بحقه في الحكم والتشريع، والتحليل والتحريم، فنتخذه بذلك رباً من دون الله تعالى .
وهذا النداء خُص به أهل الكتاب – من اليهود والنصارى – لأنهم عُرفوا بعبادتهم للأحبار والرهبان، واتخاذهم لهم أرباباً من دون الله من جهة خاصية التشريع والتحليل والتحريم ..
وواضح أن الناس في الأنظمة الديمقراطية يتخذون بعضهم بعضاً أرباباً من دون الله، فهم فروا من عبادة الأحبار والرهبان إلى عبادة أحبار ورهبان أخرى تتمثل في أشخاص النواب، الذين أقروا لهم بحقهم – الذي لا يشاركهم فيه أحد – في التشريع، والتحليل والتحريم، وسن القوانين، وعلى العباد طاعتهم وامتثال أوامرهم في كل ما يصدر عنهم ..!
زعموا – كما يخيل إليهم – أنهم أحرار، وأنهم العالم الحر، وأنهم أسياد وهم في حقيقة أمرهم عبيد، عبيد لآلهة لا تُعد ولا تُحصى، هـي
أحط من نفوسهم، وأصغر منهم شأناً وقدراً ..!
تحرروا من عبادة الله القدير، ليعبدوا المخلوق الجاهل الضعيف في صور شتى، وتحت لافتات ومسميات براقة عديدة كلها تكرس مفهوم عبودية العبيد للعبيد .. ثم بعد ذلك يزعمون زوراً وبهتاناً أنهم أحرار غير عبيد !
ورحم الله سيد قطب إذ يقول: إن الناس في جميع الأنظمة الأرضية يتخذ بعضهم بعضاً أرباباً من دون الله، يقع في أرقى الديمقراطيات، كما يقع في أحط الديكتاتوريات سواء ..
إن أول خصائص الربوبية هو حق تعبيد الناس، حق إقامة النظم والمناهج والشرائع والقوانين والموازين، وهذا الحق في جميع الأنظمة الأرضية يدعيه بعض الناس في صورة من الصور، ويرجع الأمر فيه إلى مجموعة من الناس على أي وضع من الأوضاع، وهذه المجموعة التي تُخضع الآخرين لتشريعها وقيمها وموازينها وتصوراتها هي الأرباب الأرضية التي يتخذها بعض الناس أرباباً من دون الله، وإن لم يسجدوا لها ويركعوا، فالعبودية عبادة لا يتوجه بها إلا لله .
وقال: أظهر خصائص الألوهية بالقياس إلى البشرية تعبيد العبيد، والتشريع لهم في حياتهم وإقامة الموازين لهم، فمن ادعى لنفسه شيئاً من هذا كله فقد ادعى لنفسه أظهر خصائص الألوهية، وأقام لنفسه للناس إلهاً من دون الله ..
عندما يدعي عبد من العبيد أن له على الناس حق الطاعة لذاتـه،
وأن كذلك حق إقامة القيم والموازين لذاته، فهذا هو ادعاء الألوهية، ولو لم يقل كما قال فرعون: أنا ربكم الأعلى،والإقرار به هو الشرك بالله أو الكفر، وهو الفساد في الأرض أقبح الفساد.
فأيما بشر ادعى لنفسه سلطان التشريع للناس من عند نفسه فقد ادعى الألوهية اختصاصاً وعملاً، وأيما بشرٍ آخر اعترف لذلك البشر بذلك الحق فقد اعترف لـه بحـق الألوهية سواء سماها باسمها أم لم يسمها ..
إن الذي يملك حق التحريم والتحليل هو الله وحده، وليس ذلك لأحد من البشر، لا فرد ولا طبقة ولا أمة ولا الناس أجمعين إلا بسلطان من الله وفق شريعة الله (1).
ويقول الدكتور محمد حسين رحمه الله في كتابه" أزمة العصر ": والحاكمية في الإسلام لله، فكتاب الله وسنة رسوله مصدر الأحكام . بينما الأمة أو الشعب ممثلاً في نوابه هو عند الديمقراطية مصدر الأحكام، فالأمم محكومة في الإسلام بتشريع الله الحكيم العليم . وهي في الديمقراطية محكومة بقوانين صادرة عن شهوات الناس ومصالحهم . فالأحكام مستقرة دائمة في الإسلام، وهي متبدلة متغيرة لا تستقر في الديمقراطية ا-هـ .
قلت: والإنسان في النظام الديمقراطي يكون كحقل التجارب، تُجرى عليه تجارب القوانين – التي لا تعرف الاستقرار أو الثبات – ـــــــــــــــــ
(1) الظلال:1/407 ، وطريق الدعوة:2/170و179 .
لتُعرف مدى صلاحيتها من فسادها، وإلى أن يُعرف هذا من ذاك تكون الضحايا والتكاليف باهظة الثمن،والذي يقدمها هو الإنسان.
ثانياً: تقوم الديمقراطية على مبدأ حرية التدين والاعتقاد، فللمرء – في ظل الأنظمة الديمقراطية – أن يعتقد ما يشاء، ويتدين بالدين الذي يشاء، ويرتد إلى أي دين وقت يشاء، وإن كان هذا الارتداد مؤداه إلى الارتداد عن دين الله تعالى إلى الإلحاد وعبادة غير الله عز وجل ..!
وهذا أمر لا شك في بطلانه وفساده، ومغايرته لكثير من النصوص الشرعية، إذ أن المسلم لو ارتد عن دينه إلى الكفر، فحكمه في الإسلام القتل، كما في الحديث الذي يرويه البخاري وغيره: " من بدل دينه فاقتلوه " وليس فاتركوه .. فالمرتد لا يصح أن يُعقد له عهد ولا أمان، ولا جوار، وليس له في دين الله إلا الاستتابة فإن أبى فالقتل والسيف(1) .
وسيرة الصحابة – رضوان الله عليهم – مع المرتدين في حروب الردة وغيرها معروفة لدى الجميع .
ومعلوم كذلك أن الإسلام انتهى حكمه في أهل الكتاب، ومعهم المجوس كما هو الراجح، إلى إحدى ثلاث: إما الإسلام – والإسلام يجب ـــــــــــــــــ
(1) دلت السنة على أن المرتد نوعان: نوع يُقتل ولا يُستتاب وهو المرتد ردة مغلظة، ونوع يُستتاب قبل أن يُقتل وهو المرتد ردة مجردة، واستتابته سنة يُندب إليها لا تُحمل على الوجوب .
ما قبله – وإما الجزية وهم صاغرون، وإما القتل والقتال .
أما الملحدون الذين يقولون: لا إله في الوجود والحياة مادة، ومعهم عبدة الأوثان والأصنام من العرب وغيرهم فليس لهؤلاء في دين الله إلا الإسلام أو القتل والقتال ..
قال تعالى: وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله الأنفال:39 .
وفي الحديث فقد صح عن النبي كما في الصحيحين أنه قال: " أُمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله " .
وفي رواية عند مسلم:" من قال لا إله إلا الله، وكفر بما يُعبد من دون الله، حَرُمَ ماله ودمه وحسابه على الله " .
وقال :" بعثت بين يدي الساعة بالسيف، حتى يُعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذل والصغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقومٍ فهو منهم "(1) .
وكذلك يوم نزول عيسى - كما دلت على ذلك السنة – فإنه يكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويُسقط الجزية، ولا يقبل من مخالفيه _ بما فيهم أهل الكتاب – إلا الإسلام، أو القتل والقتال ..
ـــــــــــــــــ
(1) رواه أحمد، والطبراني، وأبو يعلى، صحيح الجامع الصغير:2831 .
أقول: على ضوء هذه الحقائق والنصوص، وغيرها من النصوص الشرعية ذات العلاقة بالمسألة يجب أن يُفهم قوله تعالى: لا إكراه في الدين ، وليس كما يفعل لصوص العلم من خدَمَة الطواغيت حيث يقتطعون هذه الآية من مجموع النصوص ذات العلاقة بالموضوع، ليسوغوا وجود وحرية حركات الردة والإلحاد والزندقة الواسعة الانتشار في زماننا المعاصر ..
ثم أن الديمقراطية – كما يمارسها الديمقراطيون – إذ تقبل بحرية الاعتقاد والتدين، والانتقال من دين إلى دين، فهي لا تقبل ولا تسمح أن يرتد نظام أو شعب من دين الديمقراطية إلى أي دين أو نظام آخر، ولو حصل مثل هذا المكروه سرعان ما يعلنون الحرب والعداء، ويعملون الحصارات الاقتصادية وغيرها التي قد تبيد شعباً وجيلاً بأكمله، كل هذا من أجل عيون الديمقراطية، وحماية الديمقراطية ..!
أرأيت التناقض والتغاير، فما يجوز لهم لا يجوز لغيرهم، والممنوع عن غيرهم جائز لهم ..؟!
ثالثاً: تقوم الديمقراطية على اعتبار الشعب حكم أوحد ترد إليه النزاعات والخصومات؛ فإذا حصل أي اختلاف أو نزاع بين الحاكم والمحكوم، أو بين القيادة والقاعدة نجد أن كلاً من الطرفين يهدد الآخر بالرجوع إلى إرادة الشعب، وإلى اختيار الشعب، ليفصل الشعب ما تم بينهما من نزاع أو اختلاف .
وهذا مغاير ومناقض لأصول التوحيد التي تقرر أن الحكم الذي يجب أن ترد إليه جميع النزاعات هو الله تعالى وحده، وليس أحداً سواه .
قال تعالى: وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله الشورى:10 . بينما الديمقراطية تقول: وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الشعب، وليس إلى أحدٍ غير الشعب ..!
وقال تعالى: يا أيها الذي آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر النساء:59 . والرد إلى الله والرسول يكون بالرد إلى الكتاب والسنة ..
قال ابن القيم رحمه الله في كتابه أعلام الموقعين1/50 : جعل هذا الرد من موجبات الإيمان ولوازمه، فإذا انتفى هذا الرد انتفى الإيمان ضرورة انتفاء الملزوم لانتفاء الآخر ا-هـ .
فليحذر دعاة الديمقراطية بأي نار هم يلعبون؛ إنها نار الكفر والخروج من الإيمان لو كانوا يعلمون ..!
ثم أن إرادة التحاكم إلى الشعب أو إلى أي جهة أخرى غير الله تعالى، فهو يعتبر في نظر الشرع من التحاكم إلى الطاغوت الذي يجب الكفر به، كما قال تعالى: ألم ترَ إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أُنزل إليك وما أُنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أُمروا أن يكفروا به النساء:60 . فاعتبر الله سبحانه وتعالى إيمانهم زعماً ومجرد ادعاء لا حقيقة له، لمجرد حصول الإرادة في التحاكم إلى الطاغوت، وإلى شرائعه؛ وكل شرع غير شرع الله تعالى، أو حكَمٍ لا يحكم بما أنزل الله فهو يدخل في معنى الطاغوت الذي يجب الكفر به .
قال ابن القيم رحمه الله في أعلام الموقعين1/50: الطاغوت كل ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع، فطاغوت كل قوم من يتحاكمون إليه غير الله ورسوله، أو يعبدونه من دون الله، أو يتبعونه على غير بصيرةٍ من الله، أو يطيعونه فيما لا يعلمون أنه طاعة لله؛ فهذه طواغيت العالم إذا تأملتها وتأملت أحوال الناس معها رأيت أكثرهم عدلوا من عبادة الله إلى عبادة الطاغوت، وعن التحاكم إلى الله وإلى الرسول إلى التحاكم إلى الطاغوت، وعن طاعته ومتابعة رسوله إلى طاعة الطاغوت ومتابعته ا-هـ .
قلت: هذا حال الناس في زمن ابن القيم رحمه الله، فكيف بزماننا الذي تعددت فيه الآلهة وتنوعت، واستشرفت لتفتن البلاد والعباد، وتصدهم عن دين الله باسم الديمقراطية المزعومة، وغيرها من الشعارات الدخيلة والمبتدعة ..؟!
رابعاً: تقوم الديمقراطية على مبدأ حرية التعبير والإفصاح، أيَّاً كان هذا التعبير، ولو كان مفاده طعناً وسباً للذات الإلهية، وكتبه ورسله، إذ لا يوجد في الديمقراطية شيء مقدس يحرم الخوض فيه، أو التطاول عليه بقبيح القول . وأي إنكار على ذلك يعني إنكار على النظام الديمقراطي الحر برمته، ويعني تحجيم الحريات المقدسة في نظر الديمقراطية والديمقراطيين ..!
بينما هذا الذي تقدسه الديمقراطية فهو في نظر الإسلام يُعتبر عين الكفر والمروق، إذ لا حرية في الإسلام للكلمة الخبيثة الباطلة؛ الكلمة التي تفتن العباد عن دينهم وتصدهم عن نصرة الحق، الكلمة التي تفرق ولا توحد، الكلمة التي تعين على نشر الفجور والمنكر..
فكلمة هذا نوعها يؤخذ صاحبها في الإسلام بالنواصي والأقدام، غير الذي ينتظره يوم القيامة من عذاب أليم يكافئ جرمه .
قال تعالى: لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظُلم النساء:148 .
وقال تعالى: ألم تر كيف ضرب الله مثلاً كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء . تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون . ومثل كلمة خبيثةٍ كشجرةٍ خبيثةٍ اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار إبراهيم:24-26 .
والكلمة الطيبة المراد منها هنا هي الكلمة الطيبة المباركة التي تؤتي ثمارها وفوائدها كل حين وعلى مدار الزمن؛ وهي كلمة التوحيد لا إله إلا الله، وكل كلمة تعين على نشر الحق والفضيلة، والكلمة الخبيثة التي لا تعرف القرار ولا الثبات، ولا تعرف سوى الدمار والخراب، هي كلمة الشرك الظلم الأكبر، وكل كلمة تعين على نشر الباطل والرذيلة ..
وقال تعالى: ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبا لله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون . لا تعتذروا قد كفـرتم بعـد
إيمانكم إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة التوبة:65-66 .
روى ابن جرير بسنده عن عبد الله بن عمر قال: قال رجل في غزوة تبوك في مجلس، ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء – يقصد أصحاب رسول الله - أرغب بطوناً، ولا أكذب ألسناً، ولا أجبن عند اللقاء، فقال رجل في المجلس: كذبت، ولكنك منافق لأخبرنَّ رسول الله ، فبلغ ذلك النبي ونزل القرآن . قال عبد الله بن عمر: فأنا رأيته متعلقاً بحقب ناقة رسول الله تنكبه الحجارة، وهو يقول: يا رسول الله إنما كنا نخوض ونلعب، ورسول الله إنما كنا نخوض ونلعب، ورسول الله يقول : أبا لله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم .
فانظر كيف أن هذا الرجل قال كلمة على وجه الخوض واللعب – بحق أصحاب رسول الله - لم يلق لها بالاً، قد أوبقت به في الكفر، وخسر دنياه وآخرته .
قال القرطبي في التفسير8/199: قيل كانوا ثلاثة نفر، هزئ اثنان وضحك واحد، فالمعفو عنه هو الذي ضحك ولم يتكلم. قال خليفة بن خياط في تاريخه: اسمه مخاشن بن حمير، وقيل إنه كان مسلماً، إلا أنه سمع المنافقين فضحك لهم ولم ينكر عليهم ا-هـ(1).
ـــــــــــــــــــ
(1) قد يرد سؤال: أين يكمن استهزاء المستهزئين بالله وآياته ورسوله، وهم لم يثبت عنهم سوى أنهم طعنوا واستهزؤوا بالصحابة رضي الله عنهم فقط، ولم يذكروا الله ورسوله بشيء ..؟! =
وهذا الرجل الذي عُفي عنه كان يقول: اللهم إني أسمع آية أنا أُعنى بها تقشعر الجلود، وتجب منها القلوب، اللهم فاجعل وفاتي قتلاً في سبيلك، لا يقول أحد أنا غسلت أنا كفنت أنا دفنت، فأصيب يوم اليمامة فما من أحدٍ من المسلمين إلا وقد وجد غيره(1).
وكل هذا منه - رحمه الله – ليكفِّر عنه ما بدر منه من تبسم للذين سخروا من دين الله، فليحذر هؤلاء الذين يملؤون حياتهم بالاستهزاء والسخرية، والطعن بالدين ثم يحسبون أنفسهم بعد ذلك أنهم على شيء .
وقال تعالى: يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم وهموا بما لم ينالوا التوبة:74. وهذه آية نزلت في رجل من المنافقين قال كلمة وعبر عن رأيه الخبيث – كما تريد له الديمقراطية – عندما سمع رسول الله يخطب، فقال: لئن كان صادقاً فنحن شر من الحمير، فأتي به إلى الرسول ، فحلف وأنكر أنه لم يقل ــــــــــــــــــــ
= فالجواب: أنه لما أثنى الله تعالى خيراً على أصحاب رسول الله ونزلت فيهم آيات عديدة من القرآن الكريم تبين ذلك، وكذلك لما ثبت رِضى النبي على أصحابه، وثناؤه عليهم بالخير، كان الذي يطعن بمجموع الصحابة كمن يطعن بالله وآياته ورسوله، لذا عُد من الكافرين .
والآية فيها فائدة: وهي أن من يطعن بمجموع الصحابة يكفر ويخرج من دائرة الإسلام، لتضمنه الطعن بالله تعالى وآياته ورسوله، بخلاف الطعن بآحاد الصحابة ففي تكفيره نظر وخلاف، وبحسب المراد.
(1) انظر تفسير ابن كثير:2/382.
شيئاً، فنزل القرآن يكذبه ويكفره (1).
وفي السنة، فقد صح عن النبي أنه قال:" إن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يرى بها بأساً يهوي بها سبعين حريفاً في النار "(2).
وفي الصحيحين:" إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها، يزل بها إلى النار أبعد مما بين المشرق والمغرب ". وعند البخاري في صحيحه، قال :" إن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى لا يلقى لها بالاً يهوي بها في جهنم " .
وقال :" إن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما كان يظن أن تبلغ ما بلغت، يكتب الله بها سخطه إلى يوم يلقاه "(3) .
فتأمل قوله :" لا يرى بها بأساً .. ما يتبين فيها .. لا يلقي لها بالاً .. ما كان يظن " كل هذا لم يكن مانعاً من لحوق الوعيد بصاحب الكلمة السيئة الخاطئة، وهو درس رادع لمن يوسع ساحة الأعذار على الفجار الطاعنين في الدين، من غير علمٍ ولا دليل .
وعن سفيان بن عبد الله قال: قلت يا رسول الله ما أخوف ما تخاف علي ؟ فأخذ بلسان نفسه ثم قال:" هذا "(4).
ـــــــــــــــــ
(1) وقيل في سبب نزول الآيات غير ذلك، انظر تفسير ابن كثير وغيره من كتب التفاسير المعتمدة .
(2) صحيح سنن الترمزي:1884 .
(3) رواه مالك في الموطأ، والترمذي وقال: حديث حسن صحيح، رياض الصالحين. (4) رواه الترمزي، وقال حديث حسن صحيح، رياض الصالحين .
وقال :"من وقاه الله شرَّ ما بين لحييه وشرَّ ما بين فخذيه دخل الجنة "(1).
ومن حديث معاذ قال: قلت يا رسول الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به ؟ فقال:" ثكلتك أمك، وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم "(2).
وقال :" من قال في مؤمن ما ليس فيه، حُبس في ردغة الخبال، حتى يأتي بالمخرج مما قال "(3). فما يكون القول فيمن يقول في الله تعالى ما ليس فيه، ويطعن بالدين، وبالأنبياء والرسل تحت زعم الحرية، كما تزين له الديمقراطية ..؟!
وفي الحديث المتفق عليه، قال :" من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت ".
قال النووي رحمه الله: اعلم أنه ينبغي لكل مكلف أن يحفظ لسانه عن جميع الكلام إلا كلاماً ظهرت فيه المصلحة، ومتى استوى الكلام وتركه في المصلحة، فالسنة الإمساك عنه لأنه قد ينجر الكلام المباح إلى حرام أو مكروه، وذلك كثير في العادة والسلامة لا يعدلها شيء (4) .
ـــــــــــــــــــ
(1) رواه الترمذي وقال حديث حسن . (2) رواه الترمذي، وقال حديث حسن صحيح . (3) رواه أبو داود وغيره، السلسلة الصحيحة:437 . وردغة الخبال: هي عصارة أهل النار، والردغ هو الطين الكثير، كما في النهاية .
(4) رياض الصالحين: 483.
فأين الديمقراطية من جميع ما تقدم التي تطلق للمرء الحرية في أن يطلق لسانه شرقاً وغرباً، وفي الاتجاه الذي يهوى ويريد، ومن غير حسيب ولا رقيب !
والإسلام إذ يضع تلك القيود على اللسان درءاً للمفاسد والفتن، فإنه في المقابل يأمر المسلم بأن يطلق لسانه – من غير خوف ولا وجل – في بيان الحق، وفي نصرة الحق، وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي الإصلاح والبناء، كما يأمره بمواجهة ظلم الطواغيت وأن لا يسكت على جورهم أو كفرهم، وقد عد الإسلام الرجل الذي يقف أمام السلطان الجائر يأمره وينهاه، ويقول كلمة حق في وجهه فيقتله لذلك، من أفضل الشهداء يوم القيامة، وسيرة السلف الصالح مع سلاطين الجور عبر التاريخ خير شاهد ودليل على ذلك .
فحرية التعبير البنَّاء وفي الحق شيء، وهو ما يأمر به الإسلام، وحرية التعبير في الباطل، والكفر والشرك والمجون شيء آخر، وهو ما تأمر به الديمقراطية، ويأمر به الديمقراطيون ..!
خامساً: تقوم الديمقراطية على مبدأ فصل الدين عن الدولة، وعن السياسة والحياة، فما لله لله؛ وهو فقط العبادة في الصوامع والزوايا، وما سوى ذلك من مرافق الحياة السياسة والاقتصادية، والاجتماعية وغيرها فهي من خصوصيات الشعب..قيصر الديمقراطية .
فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم ساء ما يحكمون
الأنعام:136.
وهذا القول منهم معلوم – من ديننا بالضرورة – فساده وبطلانه، وكفر القائل به لتضمنه الجحود الصريح لما هو معلوم من الدين بالضرورة .
فهو أولاً، جحود صريح لبعض الدين الذي نص على أن الإسلام دين دولة وسياسة، وحكم وتشريع وأنه أوسع بكثير من أن يحصر في المناسك أو بين جدران المعابد .. وهذا مما لا شك فيه أنه كفر بواح بدين الله تعالى .
كما قال تعالى: أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يُردون إلى أشد العذاب البقرة:85 .
وقال تعالى: ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلاً. أولئك هم الكافرون حقاً وأعتدنا للكافرين عذاباً أليماً النساء:150 .
وهذا الحكم – هم الكافرون حقاً – يشمل كل من يأتي بالشعائر التعبدية من صلاة وصوم، وحج وزكاة وغيرها، لكنه في الجانب الاقتصادي أو السياسي أو الاجتماعي، أو القضائي .. تراه يؤثر ويقدم ديناً ومنهجاً آخر غير منهج الإسلام .
وهو ثانياً، عندما جحدوا بعضاً من الدين لزمهم أن يلتمسوا هذا الجانب الواسع الذي جحدوه من عند أنفسهم، فيأتون بالتشريعات والقوانين التي تضاهي شرع الله تعالى، أو أنهم يلتمسوها من عند غيرهم من الطواغيت والمشركين، فيتحقق فيهم صفة المتحاكم إلى الطاغوت الذي أمروا أن يكفروا به، وكلا الأمرين يعتبران من المزالق العقدية التي تخرج صاحبها من دائرة الإسلام، والأدلة على ذلك كثيرة لا تخفى القارئ المسلم، وقد تقدم بعضها .
سادساً: تقوم الديمقراطية على مبدأ الحرية الشخصية؛ فللمرء في ظل الديمقراطية أن يفعل ما يشاء، ويمارس ما يشاء .. مالم يتعارض مع القانون الوضعي للبلاد .
وهذا قول معلوم بطلانه وفساده، لتضمنه تحليل ما حرم الله تعالى على العباد، وإطلاق الحرية للمرء في أن يمارس ما يشاء ويهوى من المعاصي والموبقات المحرمة شرعاً.
فالمرء في نظر الإسلام حريته مستمدة من الإسلام، وهي مقيدة بقيود الشرع وما يملي عليه من التزامات وواجبات وسنن، فليس للمسلم – إن أراد البقاء في دائرة الإسلام أو أن يسمى مسلماً – الحرية في أن يتجاوز حدود الإسلام وآدابه وتعاليمه، ويرتكب ما يشاء من المحظورات، ثم بعد ذلك يصبغ على تصرفه هذا الشرعية أو القانونية، أو أنه حقه الشخصي، ومن خصوصياته التي لا حق لأحدٍ أن ينكرها عليه، ويقول بعد ذلك أنه مسلم، يتدين بدين الإسلام، فالإسلام وهذا الشأن لا يجتمعان أبداً ..!
فمن لوازم الإيمان وشروطه التحاكم إلى شرع الله تعالى في كـل
كبيرة وصغيرة، وفي الأمور العامة والخاصة، والرضى بحكمه، والاستسلام له ظاهراً وباطناً من دون أدنى تردد أو تعقيب، ولا بد أن يتبع ذلك كله انتفاء مطلق الحرج والضيف، كما قال تعالى: فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً النساء:65 .
قال ابن القيم رحمه الله في كتابه التبيان في أقسام القرآن: أقسم سبحانه بنفسه المقدسة قسماً مؤكداً بالنفي قبله عدم إيمان الخلق حتى يحكموا رسوله في كل ما شجر بينهم من الأصول والفروع، وأحكام الشرع وأحكام المعاد وسائر الصفات وغيرها، ولم يثبت لهم الإيمان بمجرد هذا التحكيم حتى ينتفي عنهم الحرج وهو ضيق الصدر، وتنشرح صدورهم لحكمه كل الانشراح وتنفسح له كل الانفساح وتقبله كل القبول، ولم يثبت لهم الإيمان بذلك أيضاً حتى ينضاف إليه مقابل حكمه بالرضى والتسليم، وعدم المنازعة وانتفاء المعارضة والاعتراض ا-هـ .
ولو أردنا أن نتتبع مصطلح الحرية في القاموس الإسلامي – هذه الكلمة التي سحرت الناس واستهوت الشعراء والكتاب، وأصبحت شعاراً وغاية لكثيرٍ من الحركات والأحزاب والتجمعات – لم نجدها استخدمت إلا في الموضع المغاير لمعنى العبد المملوك، فيقال: فلان عبد؛ أي مملوك لسيده، وفلان حر أي غير مملوك .
أما المعنى – للحرية – المراد في الديمقراطية، وعند كثير من الأحزاب والحركات التي تهوى ما يستهويه الناس، لتصرف وجوههم إليها دون غيرها، لم نجد له مكاناً في الإسلام، ولم يُستخدم في الكتاب أو السنة أو في قولٍ لسلف معتبر .
بل إننا نجد أن المسلم مقيد بقيود الشرع وتكاليفه، التي تتدخل في دقائق الأمور من حياة الإنسان؛ والتي تحدد له كيف يأكل، وكيف يشرب، وماذا يلبس من ثياب، وكيف ينام، وحتى كيفية الخراءة، وكيف يدخل بيت الخلاء وكيف يخرج منه، فضلاً عن الأمور العظام التي لها حكم الكليات والمصالح العامة، التي لم يتركها الإسلام سُداً لأهواء وآراء الرجال .
وهذا لا يعني بحال أن المسلم مسلوب الإرادة، أو أنه يعرف الذل والخنوع للظلمة والطواغيت، أو الجهل والرضى بالأمر الواقع البعيد عن هدي الله تعالى، لا، ولكن الذي أردناه وعنيناه أن حرية المسلم مستمدة من تعاليم الإسلام لا غيره، وهو يدور مع الشرع حيث دار، لا يخالفه في قليل ولا كثير، وهو له رسالة وغاية عظمى في هذه الحياة، لخصها الصحابي الجليل ربعي بن عامر عندما قال لملك الفرس: لقد ابتعثنا الله لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة وخير الآخرة .
سابعاً: تقوم الديمقراطية على مبدأ حرية تشكيل التجمعات والأحزاب السياسية وغيرها، أياً كانت عقيدة وأفكار وأخلاقيات هذه الأحزاب والجماعات ..!
وهذا مبدأ باطل شرعاً، وذلك من أوجه:
منها، يتضمن الإقرار والاعتراف – طوعاً من غير إكراه _ بشرعية الأحزاب والجماعات بكل اتجاهاتها الكفرية والشركية، وأن لها الحق في الوجود، وفي نشر باطلها، وفسادها وكفرها في البلاد وبين العباد، وهذا مغاير ومناقض لكثير من النصوص الشرعية التي تثبت أن الأصل في التعامل مع المنكر والكفر إنكاره وتغييره، وليس إقراره والاعتراف بشرعيته .
قال تعالى: وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله الأنفال:39.
قال ابن تيمية رحمه الله: فكل طائفة ممتنعة عن التزام شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة يجب جهادها، حتى يكون الدين كله لله، باتفاق العلماء .
وقال: وأيما طائفة انتسبت إلى الإسلام، وامتنعت من بعض شرائعه الظاهرة المتواترة فإنه يجب جهادها باتفاق المسلمين حتى يكون الدين كله لله، كما قاتل أبو بكر الصديق وسائر الصحابة رضي الله عنهم مانعي الزكاة .
وقال: فثبت بالكتاب والسنة وإجماع الأمة،أنه يُقاتَل من خرج عن شريعة الإسلام وإن تكلم بالشهادتين ا-هـ .
قلت: إذا كان هذا حكم الطائفة التي تمتنع عن شريعة واحدة من شرائع الإسلام الظاهرة، فما يكون الحكم والقول في طوائف الكفر والردة والزندقة التي تمتنع عن جميع شرائع الإسلام، وتأبى أن تدخل في طاعة الله ودينه، وتتكلف المكائد في حرب الإسلام والمسلمين .. لا شك أنها أولى بالقتال والإنكار، وليس بالاعتراف بشرعيتها أو الإقرار بحقها في أن تحكم البلاد والعباد .
وفي الحديث فقد صح عن النبي - كما في صحيح مسلم – أنه قال:" من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان " .
ومنها، أن هذا الاعتراف الطوعي بشرعية الأحزاب الكافرة، يتضمن الرضى – وإن لم يصرح بفيه أنه يرضى بحريتها – والرضى بالكفر كفر (1).
قال تعالى: وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يُكفر بها ويُستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذاً مثلهم إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعاً النساء:140 .
قال الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله تعالى: إن معنى الآية على ظاهرها، وهو أن الجل إذا سمع آيات الله يكفر بها ويُستهزأ بها فجلس عند الكافرين المستهزئين من غير إكراه ولا إنكار ولا قيام عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره فهو كافر مثلهم، وإن ــــــــــــــــــــ
(1) انظر إن شئت أدلة القاعدة " الرضى بالكفر كفر " بشيء من التفصيل في كتابنا قواعد في التكفير.
لم يفعل فعلهم لأن ذلك يتضمن الرضى بالكفر، والرضى بالكفر كفر . وبهذه الآية ونحوها استدل العلماء على أن الراضي بالذنب كفاعله، فإن ادعى أنه يكره ذلك بقلبه لم يُقبل منه، لأن الحكم على الظاهر وهو قد أظهر الكفر فيكون كافراً (1) ا-هـ .
قلت: والاعتراف طوعاً بشرعية الكفر، هو أكثر دلالة على الرضى بالكفر من مجرد الجلوس في مجالس الكفر والطعن بالدين من غير إكراه ولا إنكار ولا قيام .
وفي الحديث فقد صح عن النبي أنه قال في الإنكار على أهل المنكر:" فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل" .أي ليس وراء إنكار القلب حالة يثبت معها الإيمان؛ لأنه ليس وراء إنكار القلب سوى الرضى، والرضى بالكفر كفر كما تقدم .
قال ابن تيمية في الفتاوى 48/127: وذلك يكون بالقلب – أي تغيير المنكر – وتارة باللسان، وتارة باليد، فأما القلب فيجب بكل حال، إذ لا ضرر فيه، ومن لم يفعله فليس هو بمؤمن .
وقيل لابن مسعود من ميت الأحياء ؟ فقال: الذي لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً ا-هـ .
ورحم الله سيد قطب حيث يقول: ومجرد الاعتراف بشرعية ــــــــــــــــــ
(1) مجموعة التوحيد: 48 .
منهج أو وضعٍ أو حكم من صنع غير الله، هو بذاته خروج من دائرة الإسلام لله، فالإسلام لله هو توحيد الدينونة له دون سواه (1).
ومنها، أن من لوازم الاعتراف بهذا المبدأ، السماح للأحزاب الباطلة بكل اتجاهاتها بأن تبث كفرها وباطلها، وأن تغرق المجتمع بجميع صنوف الفساد والفتن والأهواء، فنعينهم بذلك على هلاك ودمار البلاد والعباد .
وفي الحديث، فقد صح عن النبي - كما في صحيح البخاري – أنه قال:" مثل القائم على حدود الله والواقع فيها، كمثل قومٍ استهموا – أي اقترعوا – على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلَها، فكان الذي في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذِ مَن فوقنا، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجَوا ونجوا جميعاً " .
وهؤلاء الذين هم في أسفلها هم الذين يمثلون في زماننا دعاة الديمقراطية، الذين يريدون أن يخرقوا السفينة بشبهاتهم وأهوائهم وباطلهم، ليغرقوها ويُغرقوا من فيها بما في ذلك أنفسهم هم بدعوى الحرية المزعومة التي تكفلها لهم الديمقراطية .
فالديمقراطية تقول وبكل وقاحة: دع الأحزاب تفعل ما تشاء، دعهم يمارسوا تدمير المجتمعات بما يشاؤون من المفاسد والفتن، والكفر ـــــــــــــــــــــــ
(1) طريق الدعوة في ظلال القرآن:2/52 .
والشرك، فهم أحرار، وحريتهم مقدسة، ليس لأحد أن يمنعهم أو يسلبهم حريتهم في ذلك، مهما كانت النتائج المترتبة من ذلك ..!
بينما النبي انظروا ماذا يقول:" فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم – ضرباً وزجراً ونهياً – نجوا ونجوا جميعاً".
فليحذر الذين يُخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم النور:63.
ومنها، أن هذا المبدأ وهو حرية تشكيل الأحزاب السياسية وغيرها.. يترتب عليه تفريق كلمة الأمة، وتشتيت ولاءات أبنائها في أحزاب وتجمعات متنافرة متباغضة متدابرة، ما أنزل الله بها من سلطان، وهذا مغاير لقوله تعالى: واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا آل عمران:103. ولقوله تعالى: ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم الأنفال:46.
وفي الحديث، فقد صح عن النبي أنه قال:" عليكم بالجماعة وإياكم والفرقة، فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد، ومن أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة "(1).
والنصوص هي كثيرة التي تأمر بالتزام الجماعة والتوحيد، وتنهى عن التفرق والاختلاف، سنأتي إلى ذكر بعضها – إن شاء الله – بشيء من التفصيل عند الحديث عن شرعية العمل الحزبي، وحكم الإسلام في ــــــــــــــــــ
(1) رواه الترمذي وغيره، صحيح سنن الترمذي:1758 .
التعددية الحزبية .
ثامناً: تقوم الديمقراطية على مبدأ اعتبار موقف الأكثرية، وتبنِّي ما تجتمع عليه الأكثرية، ولو اجتمعت على الباطل والضلال، والكفر البواح، فالحق – في نظر الديمقراطية الذي لا يجوز الاستدراك أو التعقيب عليه – هو ما تقرره الأكثرية وتجتمع عليه لا غير..!
وهذا مبدأ باطل لا يصح على إطلاقه؛ حيث أن الحق في نظر الإسلام هو ما يوافق الكتاب والسنة قلَّ أنصاره أو كثروا، وما يخالف الكتاب والسنة فهو الباطل ولو اجتمعت عليه أهل الأرض قاطبة .
قال تعالى: وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون يوسف:106.
وقال تعالى: وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون الأنعام:116.
فدلت الآية الكريمة أن طاعة واتباع أكثر من في الأرض ضلال عن سبيل الله تعالى، لأن الأكثرية على ضلال، ولا يؤمنون بالله إلا وهم يشركون معه آلهة أخرى.
وفي الحديث فقد صح عن النبي أنه قال:" ما صُدق نبي من الأنبياء ما صُدقت، إن من الأنبياء من لم يصدقه من أمته إلا رجل واحد " مسلم. فإذا كانت الأكثرية هي دائماً على الحق – كما تقول الديمقراطية – فأين يكون موقع هذا النبي من الحق وما معه من أمته إلا الرجل الواحد..؟!!
وقال :" بدأ الإسلام غريباً وسيعود كما بدأ غريباً، فطوبى للغرباء " وفي رواية: قيل ومن الغرباء يا رسول الله ؟ قال:" ناس صالحون قليل في ناسٍ سوءٍ كثير، ومن يعصيهم أكثر مم