يقلقهم “العدوان” الروسي على أوكرانيا ولا يقلقهم الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين
رامي الشاعر
نشر الكاتب والمحلل السياسي رامي الشاعر مقالة في صحيفة “زافترا” الروسية، تتحدث عن اللقاء الذي جمع وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف بنظيره الأمريكي أنتوني بلينكن. وجاء في المقال:
في مؤتمر صحفي مع نظيره الروسي، سيرغي لافروف، على هامش الاجتماع الوزاري لمنظمة الأمن والتعاون في أوروبا، الذي عقد في ستوكهولم، 2 ديسمبر الجاري، قال وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، إن موسكو “تدرك جيداً” العواقب المحتملة لـ “العدوان على أوكرانيا”.
ودعا بلينكن، خلال اجتماعه مع ممثلي حلف شمال الأطلسي “الناتو” منذ يومين، روسيا إلى “احترام سيادة وسلامة أراضي أوكرانيا وسحب الحشد الأخير للقوات الروسية، لتعود القوات إلى المواقع السلمية والطبيعية، وتنفيذ التزامات مينسك”. مؤكّداً على أن “الدبلوماسية هي الطريق الوحيد المسؤول لتجاوز الأزمة بين روسيا وأوكرانيا”. كما جاء في بيان الخارجية الأمريكية، أعقاب لقاء بلينكن مع الأمين العام لحلف “الناتو”، ينس ستولتنبيرغ، أن الثنائي بحثا أهمية مواصلة المشاورات ووحدة الحلف إزاء قضايا مثل “دعم أوكرانيا في التصدي للعدوان الروسي”. وحذّر بلينكن من أن أي “عدوان روسي” جديد، بحسب تعبيره، على أوكرانيا، سوف يستدعي رداً “خطراً”.
من جانبه أعرب وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، عن قلقه إزاء محاولات عدد من الدول فرض مفاهيم “النظام القائم على القواعد”، والتعددية الفعّالة، التي تضع مجموعة معينة من الدول الغربية فوق بقية الدول، ما يعزز نهجاً تمييزياً في الشؤون الدولية. وأكّد لافروف على ضرورة الامتثال للقانون الدولي، الذي يجسد قاعدة عالمية لجميع دول الأرض.
أشار لافروف كذلك، في مستهل لقائه مع بلينكن، إلى أن الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، أوضح أن موسكو لا تريد صراعاً جديداً بشأن أوكرانيا، على الرغم من التوترات المتصاعدة في المنطقة. وطلب الوزير الروسي من نظيره الأمريكي توضيح ما يزعمه من “عدم التزام روسيا بالتزامات مينسك”، حيث صرح: “سيكون من الممتع للغاية بالنسبة لي أن أستمع إلى توضيحات توني (بلينكن) للتصريحات التي أدلى بها في الجلسة العامة، والتي حددت نقاط اتفاقيات مينسك التي يجب على روسيا الالتزام بها. أتطلع إلى توضيحات، وآمل أن يساعدني في التعرّف على الأساليب التي ستتبعها الولايات المتحدة الأمريكية في التسوية بأوكرانيا”.
يواصل “الناتو” أنشطته للتصعيد على الحدود الروسية، بينما يرفض الحلف النظر في المقترحات الروسية، التي تحمل تدابير محددة للغاية، لنزع فتيل التوتر، ومنع الحوادث التي يمكن أن تسفر عن عواقب وخيمة. في الوقت نفسه، يجري الآن العمل على قدم وساق من أجل بناء إمكانات عسكرية في أوروبا الشرقية، بما في ذلك بالقرب من الحدود الروسية.
نستمع يومياً إلى صراخ وعويل غربي حول “حشد القوات الروسية على الحدود الأوكرانية، و “العدوان الروسي المرتقب على أوكرانيا”، وتهديدات تهز الأجواء موجهة إلى روسيا، دون أن يلتفت أحد إلى ما يجري من أنشطة واعية وفاعلة تمثّل انتهاكاً مستمراً وعميقاً لحقوق الأقليات القومية، وخاصة الحقوق اللغوية والتعليمية والثقافية، بالتزامن مع نزعة لتمجيد النازية، وتزوير التاريخ، والرغبة في إغراق أي وجهات نظر بديلة في المجال الإعلامي، بما في ذلك إغلاق وسائل إعلام لا تتماشى مع ذلك التوجه الغربي العام.
لا يلتفت أحد من الشركاء في أوروبا أو في “الناتو” إلى تعزيز القوات المسلحة الأوكرانية في منطقة الصراع في دونباس، بينما تجمعت المعدات الثقيلة، وأفراد بلغت أعدادهم 125 ألف، وفقاً لبعض التقارير، وهو ما يمثّل نصف التعداد الكامل للقوات المسلحة الأوكرانية.
تعليقاً على ذلك أشارت المتحدثة الرسمية باسم الخارجية الروسية، ماريا زاخاروفا، إلى المعلومات التي أفادت بها بعثة المراقبة الخاصة التابعة لمنظمة الأمن والتعاون في أوروبا بأوكرانيا، حيث تم تسجيل انتهاكات وقف إطلاق النار ليس على نطاق محلي، ولكن على طول خط التماس بأكمله. وتساءلت زاخاروفا بدورها: أين حركة حقوق الإنسان الدولية؟ أين العاملون في المجال الإنساني؟ لماذا لا نقرأ مقالات في وسائل الإعلام الرئيسية؟ ولماذا يعجز المدافعون عن حقوق الإنسان في الغرب عن رؤية هذا الوضع؟
على صعيد آخر، وفي إعلان فاضح عن ازدواجية المعايير التي لا ينتهجها فحسب، بل يتنفسها الغرب، تنقل صحيفة “يديعوت أحرونوت” أن الحكومة الإسرائيلية رصدت مبلغاً قدره 1.56 مليار دولار لتعزيز منظومة الدفاع الجوي المسماة “القبة الحديدية” بالصواريخ، وكذلك تعزيز سلاح الجو بمعدات دقيقة، استعداداً لشن هجوم محتمل على إيران. لا يثير ذلك حفيظة أحد من الدول الديمقراطية المحبة للسلام، ولا يقض مضجع أي من رسل الديمقراطية حول العالم، على غرار الولايات المتحدة الأمريكية، التي لا تتوقف وسائل إعلامها ليل نهار الحديث عن الحرية وحقوق الإنسان والقانون الدولي، الذي يؤكد، بالمناسبة، على حقوق الدول في السيادة، ويمنع أي هجوم على أي دولة من دول العالم من دون قرار بالإجماع من مجلس الأمن الدولي التابع لهيئة الأمم المتحدة.
ليس ذلك فحسب، بل إن هذا يأتي بالتزامن مع تصريحات وزير الدفاع الإسرائيلي، بيني غانتس، يوم أمس الخميس، بأن شن هجوم على إيران “في مرحلة ما” قد يكون الخيار الوحيد لتعطيل برنامجها النووي، وطلب رئيس الوزراء الإسرائيلي، نفتالي بينيت، من الولايات المتحدة الأمريكية “وقفاً فورياً” للمحادثات الجارية في فيينا بشأن البرنامج النووي الإيراني. وفي بيان أصدرته باللغة العربية، نقلت رئاسة الوزراء الإسرائيلية عن بينيت قوله، خلال مكالمة هاتفية مع وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، إن إيران تمارس “ابتزازاً نووياً باعتباره أحد تكتيكات إجراء المفاوضات، وإن الرد المناسب يكون بوقف المفاوضات فوراً واتخاذ خطوات صارمة من قبل الدول العظمى”.
أمّا في الضفة الغربية فحدث ولا حرج، حيث يواصل الجيش الإسرائيلي هدم المنشآت الفلسطينية، ويعتدي المستوطنون الإسرائيليون على المنازل والمواطنين الفلسطينيين، بينما تتذرع سلطات الاحتلال بعدم حصول المنشآت المستهدفة على تراخيص، مع العلم بأن تلك السلطات لا تعطي السكان تلك التصاريح.
ربما لا يذكر الشركاء الأوروبيون كذلك كيف تسبب العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة في مايو الماضي، لمدة 11 يوماً، في سقوط 243 فلسطينياً بينهم 65 طفلاً و39 سيدة و1910 مصاباً بينهم 560 طفلاً و380 سيدة و91 مسناً، وتدمير 1335 منشأة سكنية بشكل كامل أو بالغ، وإلحاق ضرر متوسط أو جزئي بحوالي 12 ألف و886 منزلاً. كذلك ربما لا يذكر أصدقاؤنا المدافعون عن أوكرانيا، ضد “العدوان الروسي”، من “الناتو” والولايات المتحدة الأمريكية ما كشفه تقرير صادر عن البيت الأبيض، يونيو الماضي، بالمساعدات التي قُدّمت عقب بدء الوجود الأمريكي في أفغانستان، منذ 2002، وحتى الانسحاب في 2021، والتي قدّرت بأكثر من 124 مليار دولار، علاوة على تقرير حديث لمكتب “المفتش العام لإعادة إعمار أفغانستان”، أحد الأجهزة الرقابية الأمريكية، يذكر أن واشنطن أنفقت خلال 20 عاماً من الحرب قرابة 837 مليار دولار، ما يرفع حجم الخسائر الأمريكية إلى 961 مليار دولار، أو قرابة تريليون دولار إذا ما أضفنا المساعدات بقيمة 124 مليار دولار.
لكن وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، لم يفته أن يؤكد، خلال اتصال هاتفي أجراه مع رئيس الوزراء الإسرائيلي، نفتالي بينيت، على ضرورة تجنّب إسرائيل اتخاذ أية خطوات أحادية الجانب، تقوّض حل الدولتين، بما في ذلك الأنشطة الاستيطانية غير القانونية، التي تزيد من التوترات!
يبدو ذلك الوضع الملتبس، والذاكرة التي تحتاج إلى إعادة ترتيب، وكأنه فيلم كوميدي، يصطنع أبطاله الجدية في تجسيدهم لأدوارهم. إلا أن المفارقة تكمن في أن هؤلاء ليسوا ممثلين كوميديين، ولا مهرجين في السيرك، إنما هم وزراء، ورؤساء وزارة، بل وقادة لدول عظمى، يطلقون تصريحاتهم بكل جدية وصرامة وحسم. وكان الأمر ليمرّ مرور الكرام إذا ما كنّا نعيش في مطلع القرن الماضي، بلا تغطية للأقمار الصناعية لكل شبر من كوكب الأرض، وكان من الممكن التعتيم، أو الإخفاء، أو الحذف، أو الرقابة. أما الآن وقد أصبحت كل الحقائق والمعلومات والبيانات واضحة وضوح الشمس، وأصبح القاصي قبل الداني قادراً على رؤية ما يحدث على الأرض في التو واللحظة وخلال بث مباشر، تبدو تلك التصريحات، والتأكيدات، والتهديدات عبثية إلى أبعد الحدود.
لقد أكّد الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، على اهتمام روسيا باتفاقيات تراعي المصالح الأمنية لجميع الدول دون استثناء، حيث لا ترغب روسيا في امتيازات من جانب واحد. وأصرّ على النظر إلى جميع هذه الاتفاقيات “بجدية”، حتى لا يتم “تنحيتها” أو إبطالها كما فعل الشركاء الأوروبيون مرات عديدة، بما في ذلك وعودهم لروسيا بعدم توسيع الناتو.
لقد تم التوصل إلى اتفاق مع جمهورية ألمانيا الديمقراطية، حينما توحدت ألمانيا، على أن البنية التحتية العسكرية لن تكون موجودة على أراضي ألمانيا الشرقية. وهو ما حدث كذلك مع القانون التأسيسي روسيا-الناتو، وغيرها من الاتفاقيات. إلا أن الغرب تجاهل كل ما اتخذ شكل الالتزام السياسي، لهذا فإن روسيا ترغب في أن يكون للاتفاقيات مع الغرب، والتي سوف تسعى إليها روسيا بكل تأكيد، طابعاً قانونياً ملزماً. فالتهديد الأمني الذي تواجهه القارة الأوروبية اليوم، ووضع أوكرانيا ضمن الخطط الجيوسياسية للولايات المتحدة الأمريكية يهدد القارة العجوز بـ “عواقب وخيمة”، وذلك كان التعبير الدقيق الذي استخدمه وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، يوم أمس. وأنا أتفق معه قلباً وقالباً.
كاتب ومحلل سياسي