حكومة فلسطين في المنفى
عماد شقور
أمضيت نحو خمسة ايام خلال الاسبوعين الماضيين، باحثا بين فصول وفقرات العديد من الكتب والمراجع المتوفرة في مكتبتي الخاصة، للعثور على نص محضر لقاء تم في القاهرة، في عهد الملك فاروق، بين النصف الأخير من ثلاثينيات ونهاية الأربعينيات من القرن الماضي، ايام كانت مصر رهينة «اتفاقيات»، (هي في الواقع املاءات)، وقعتها مصر مع «الامبراطورية» البريطانية، اثر اخماد ثورة عرابي 1881ـ 1882. كان ذلك اللقاء بين مسؤول بريطاني رسمي كبير، ومسؤول كبير في الحركة الصهيونية. لم أفلح في العثور ولو على طرف خيط يوصلني الى استعادة ذلك المحضر، لتثبيت وتسجيل فقرات منه.
لكن ما أحفظه عن الظروف المحيطة بحيثيات ومجريات ذلك اللقاء، على وجه اليقين، وهو راسخ في ذاكرتي تماما، أن المسؤول البريطاني الرسمي انزعج من مبالغة المسؤول الصهيوني في طلباته لدعم وتسهيلات بريطانية للتحكم في مصر، في تلك المرحلة التي كانت مصر خلالها خاضعة للهيمنة البريطانية، حيث كانت بريطانيا، من خلال وجودها العسكري والسياسي في مصر، تتحكم في تشكيل الحكومات هناك، وتتحكم في الاقتصاد المصري، وفي العلاقات المصرية العربية والدولية، على جميع الأصعدة تقريبا.
بموجب ما ورد في محضر ذلك اللقاء، قال المسؤول البريطاني للمسؤول في قيادة الحركة الصهيونية، (وانا انقل هنا من الذاكرة): « هل أفهم مما تقوله أنكم (في قيادة الحركة الصهيونية) تريدون أن تحكموا مصر؟». وكان رد المسؤول الصهيوني مذهلاً، حيث قال: «ابداً.. نحن لا نريد ان نحكم مصر، ما نريده هو أن نحكم من يحكم مصر»!.
نجيل نظرنا هذه الأيام، وبعد مرور ما يزيد على أكثر من ثمانين سنة على ذلك اللقاء في القاهرة، ونركز على ما يبدو ظاهرا للعيان من داخل اسوار قصور ومقرات ملوك (وولاة عهود) وسلطان ورؤساء وامراء ومشايخ في عواصم عربية، فنرى ان قادة الحركة الصهيونية، في إسرائيل اساسا، وفي امريكا ايضا، بشكل خاص، يحكمون ويتحكمون في من يحكم العديد من شعوب هذه الدول العربية. هذا مصدر قوة كبير لإسرائيل، لكنه يكشف عجزا اكبر في اختراق الشارع العربي، وفي التحكم بايمان وقناعات أبناء الأمة العربية من المحيط الى الخليج، الذين تتملكهم قناعات راسخة أن قضية فلسطين وشعبها العربي، هي قضيتهم الشخصية والخاصة والوطنية، وليست فقط قضيتهم القومية الاولى والأهم، وأنها هي الجذر الأساسي للغالبية الأعم من مشاكل التخلف والضعف والضياع والاحباطات التي عانوا ويعانون منها منذ انتهاء عصر الاستعمار في اطار الامبراطورية العثمانية، مطلع القرن الماضي، بشكل عام، ومنذ اعلان اقامة دولة إسرائيل، في مثل هذا اليوم، قبل اثنين وسبعين سنة بالتمام والكمال، بشكل خاص. ونترك، كفلسطينيين، هؤلاء الذين تحكمهم إسرائيل والحركة الصهيونية، الى شعوبهم وقواها الحرة، فهي الأدرى بمصالحها ومستقبلها، وهي الأقدر على التصرف والرد.
لم يتغير شيء في جوهر هذه السياسة الصهيونية منذ تلك العقود البعيدة، وما قبلها ايضا، وحتى اليوم. بل ازداد ويزداد التمسك بها مع كل يوم يمر. يفاوضون «الباب العالي» في اسطنبول على منحهم حق الهجرة والاستقرار في محيط بحيرتي طبريا والحولة، ولا يبحثون الأمر مع أصحاب وأهل البلاد، ابناء الشعب الفلسطيني. يفاوضون بريطانيا حول دورهم في مصر، للجم واحباط أي عون مصري حاسم لدعم فلسطين وشعبها. يفاوضون مفجر الثورة العربية الكبرى، الحسين بن علي، حول ضفتي نهر الأردن: الفلسطينية والاردنية، وكل «بلاد الشام»، بل و«الهلال الخصيب» باضافة العراق، ويستبعدون شعب فلسطين وممثليه. يفاوضون، (ممثَّلين بالرئيس الامريكي روزفلت) الملك عبد العزيز، مؤسس الملكة العربية السعودية، حول مستقبل أرض فلسطين، قافزين عن وجود شعب عمّر هذه الارض ويعمرها منذ ما قبل روايات واساطير ابراهيم وموسى وسليمان وداوود. يفاوضون الرئيس المصري انور السادات، حول الضفة الغربية الفلسطينية وقطاع غزة، ويشترطون استبعاد الشعب الفلسطيني، وممثله الشرعي الوحيد: منظمة التحرير الفلسطينية.
لا بديل عن تفعيل كل الطاقات الفلسطينية: السياسية، متمثلة بمنظمة التحرير الفلسطينية، وحكومة المنفى الفلسطينية؛ والنضال الميداني للجماهير الفلسطينية على أرض الدولة الفلسطينية، والفلسطينيين في إسرائيل؛ واحياء دور الفلسطينيين في دول اللجوء والشتات
نصل الى ما نحن فيه هذه الأيام الحبلى، على ابواب مخاض لعالم جديد على الأصعدة الثلاثة التي تهمنا: الصعيد الوطني الفلسطيني اولا؛ والصعيد العربي القومي ثانيا؛ والصعيد الدولي العالمي ثالثا، فماذا نرى؟.
نرى إسرائيل، مدعومة من الادارة الأمريكية الأكثر عنصرية من كل ما سبقها من ادارات، تسعى لفرض سيادتها على الارض الفلسطينية التي احتلت في حرب حزيران 1967، بالضم الرسمي لها، وبقرار من الكنيست الإسرائيلية، لا تقرها عليه أي شرعية دولية.
هذه الخطوة، في حال اتخاذها، تشكل خروجا غير مسبوق على الشرعية الدولية.. تشكل ضربة قاضية لكل مساعي الوصول الى حل الدولتين، ولكنها تشكل، الى جانب ذلك، تحريرا لليد الفلسطينية المكبلة باتفاقية أوسلو، وتفتح الباب واسعا لاعتماد سياسة فلسطينية جديدة، أرى أن تكون:
ـ اعلان تشكيل حكومة فلسطينية في المنفى، تنبثق عن منظمة التحرير الفلسطينية. تنهي عهد الارتهان لتصاريح واذونات إسرائيلية لكل تحرك فلسطيني.
ـ اعادة فتح باب علاقة اخوّة فلسطينية جزائرية نضالية تحررية حقيقية. واعتماد الجزائر، (بما لها من مكانة في الضمير الفلسطيني، وبما لفلسطين وشعب فلسطين من مكانة مميزة في الضمير الجزائري، بالاضافة الى ما للجزائر من وزن معنوي في العالم العربي وفي وافريقيا وفي العالم اجمع)، مقرا رسميا للحكومة الفلسطينية في المنفى.
صحيح أن للجغرافيا أحكاما: مصر والأردن محددتان لفلسطين، لا غنى عنهما اطلاقا، وكذلك سوريا ولبنان الى ابعد الحدود.
صحيح أن للتاريخ أحكاما: لم تنعم فلسطين بالاستقرار والهدوء والتقدم والازدهار، على مدى التاريخ، الا في فترات التوافق والتعاون والتكامل بين مصر و«بلاد الشام»، من ايام الفراعنة والكنعانيين والفرس والاغريق والرومانيين، وصولا الى الصليبيين وصلاح الدين، وانتهاء بعهد محمد علي ودحر العثمانيين من القسم الشمالي من بلاد الشام، ووصول بشائر وثمار حرب تشرين/اكتوبر/رمضان 1973، الا ان هذه الثمار قطفت قبل ان يكتمل نضجها، وكانت الاستفادة الفلسطينية والعربية منه محدودة تماما.
لكن الصحيح ايضا أن للسياسة أحكاما ايضا: وفي ايامنا هذه، حيث المشرق العربي غارق في صراعات دموية وتبعية وخذلان غير مسبوق، فاننا نرى في المغرب العربي عامة، وفي الجزائر خاصة، رافعة هائلة للعمل والنضال الوطني الفلسطيني، دون ان يعني الاتكاء والاستعانة بالجزائر، الاستغناء عن جناح المغرب (وربما موريتانيا ايضا)، داعما من الغرب، وجناح تونس داعما من الشرق، لبدء انطلاق نضال فلسطيني جدي وحقيقي، يفتح باب الأمل لبدء تحقيق الاهداف الوطنية الفلسطينية، والقومية والعربية، على امل بدء الدخول الفلسطيني والعربي الى عالم الغد الذي تبدو ملامحه واضحة للعيان في هذه الايام، خاصة عندما نرى ترنح عصر الهيمنة الامريكية المطلقة، وبدء بزوغ فجر شرقي جديد، تقوده الصين مدعومة من موسكو ومن كل ضحايا الغطرسة الامريكية.
لا بديل عن تفعيل كل الطاقات الفلسطينية: السياسية، متمثلة بمنظمة التحرير الفلسطينية، وحكومة المنفى الفلسطينية؛ والنضال الميداني للجماهير الفلسطينية على أرض الدولة الفلسطينية، والفلسطينيين في إسرائيل؛ واحياء دور الفلسطينيين في دول اللجوء والشتات.