ستّة تطوّرات رئيسيّة أبرزها عمليّة نابلس الفدائيّة تُؤكّد أن الانتِفاضة المُسلّحة الثالثة بدأت تتبلور في الضفّة الغربيّة.. لماذا لا نستبعد صُعود “فتح جديدة” من أوساط رُكام السّلطة المُتآكلة؟ وهل بدأ “التنسيق السرّي” المُقاوم كرَدٍّ على التّنسيق الأمني المُتواطئ مع الاحتِلال؟
تتصاعد حالة القلق والارتباك في صُفوف القيادتين السياسيّة والأمنيّة الإسرائيليّة بعد العمليّة التي نفّذها فدائيّان بالهُجوم على سيّارة تحمل ثلاثة مُستوطنين قُرب مُستوطنة “حوتس” في مُحيط مدينة نابلس “جبل النّار”، ممّا أدّى إلى قتل أحدهم وإصابة اثنين آخرين، فمِثل هذه الهجمات على المُستوطنين وبهذه الكثافة، وعبر تخطيطٍ مُحكم، يعني حُدوث عدّة تطوّرات خطيرة جدًّا:
الأوّل: فشل ملموس للإجراءات الأمنيّة الإسرائيليّة لتوفير الحِماية والأمان لحركة الاستِيطان، وتآكُل “المظلّة الأمنيّة” التي كانت تُوفّر لها الحِماية، وتحتل سُلّم الأولويّات بالنّسبة إلى المنظومة الأمنيّة، بما يُزعزع القاعدة الأيديولوجيّة لحُكومة اليمين المُتطرّف الحاكمة حاليًّا.
الثاني: فشل التنسيق الأمني بين دولة الاحتلال والسّلطة الفلسطينيّة الذي وفّر الحماية للمُستوطنين على مدى ربع قرن، في منع هذه الهجمات التي تنطلق من مناطق السّلطة، وهُناك نظريّة رائجة تقول إن هذا الفشل قد يكون عائدًا إلى حالةِ “صحوةٍ وطنيّة” في بعض صُفوف قوّات الأمن الفلسطينيّة وقِياداتها، وتمرّدها على قيادة الرئيس محمود عبّاس والمجموعة المُحيطة به بسبب الحالة المُزرية التي تعيشها السّلطة، وتفاقم ضُغوط الإذلال والتّجويع الإسرائيليّة عليها.
الثالث: صُعود قيادات فدائيّة فلسطينيّة شابّة في مُختلف أنحاء الضفّة، نجحت في تطوير أدائها المُقاوم، وتنفيذ عمليّات “نوعيّة” جرى التّخطيط لها بشَكلٍ مُحكم، واستِخدام السّلاح في تنفيذها.
الرابع: وجود “تنسيق سرّي” بين بعض كوادر حركة “فتح” من ناحية وفصائل المُقاومة من ناحيةٍ أُخرى، وخاصّةً حركتيّ “حماس” و”الجهاد الإسلامي” والجبهة الشعبيّة، إلى جانب مجموعات مُستقلّة عقيدتها الجديدة إحياء “الكِفاح المُسلّح”.
الخامس: تصاعد عمليّات المُقاومة المُسلّحة في الضفّة الغربيّة بشَكلٍ لافت، واستِخدام الأسلحة فيها، فقبل أيّام أقدم الشيخ فادي أبو شخيدم الذي ينتمي إلى حركة “حماس” بإطلاق النّار على قوّات الاحتِلال في القدس المُحتلّة، ممّا أدّى إلى مقتل جندي وإصابة ثلاثة، وبالأمس قام شابّان بالهُجوم على المُستوطنين وإطلاق 16 رصاصة على سيّارتهم، والانسِحاب من المشهد بشَكلٍ مدروس، ولم تُعلن أيّ حركة تلميحًا أو تصريحًا عن تبنّيها لهذه العمليّة، وتزايد عدد بيانات التّأييد الفصائليّة لها، بِما في ذلك أعضاء في مُنظّمة التحرير.
السادس: تواتر المعلومات التي تُؤكّد حقيقتين جديدتين في الضفّة الغربيّة، الأولى انتِشار السّلاح النّاري بشَكلٍ لافت، سواءً لوجود مصانع محليّة، مِثل بندقيّة “الكارلو” الرشّاشة، أو نتيجة لعمليّات التهريب عبر الحُدود الأردنيّة وغيرها، ولا يُمكن استبعاد أمر ثالث مُهم وهو شِراء هذه الأسلحة من الجُنود الإسرائيليين أو “سرقتها” من مخازنهم، أمّا الحقيقة الثانية فتتجسّد في حالة تفوّق الجانب الفلسطيني المُقاوم في “صِراع الأدمغة” مع المُؤسّسة الأمنيّة الإسرائيليّة التي تعيش حاليًّا حالةً من “الارتِخاء” و”الإحباط” نتيجةً لهذا التفوّق الذي بلغ ذروته في عمليّة “نفق جلبوع”، وتعاظم قوّة الرّدع الصاروخيّة في قِطاع غزّة.
دولة الاحتِلال تُواجه حاليًّا تحدّيين استِراتيجيين، الأوّل، داخلي يتمثّل في تزايد عمليّات المُقاومة، طعنًا ودهسًا وبإطلاق النّار، عدديًّا ونوعيًّا، والثاني، خارجي يتجسّد في محور المُقاومة الذي يضم إيران وسورية والعِراق (الحشد الشعبي)، واليمن (أنصار الله)، وفِلسطين المُحتلّة (الضفّة والقِطاع)، وتزايد شعبيّته في أوساط الفلسطينيين والرأي العام العربي والإسلامي، وتحدّيه للتّهديدات الأمريكيّة والإسرائيليّة.
المعلومات المُتداولة بكثرةٍ حاليًّا في أوساط أهالي الضفّة الغربيّة، تتحدّث عن “موجةٍ جديدة” قادمة من الهجمات المُسلّحة على أهدافٍ إسرائيليّة، في مُحاكاةٍ دقيقة لنظيرتها التي سبقت الانتِفاضة المُسلّحة عام 2000 التي أشعل فتيلها الرئيس الراحل ياسر عرفات بعد فشل مُفاوضات كامب ديفيد نتيجة لرفضه للأفكار التي طرحها الرئيس بيل كلينتون لتسوية دائمة وتتمثّل في التّنازل عن مدينة القدس وحقّ العودة، وإيمانه الرّاسخ بأنّ “إسرائيل” لا تُريد السّلام والتّعايش، وتطبيق اتّفاقات (أوسلو).
من غير المُستَبعد أن “فتح الجديدة” المُتمرّدة، على “فتح القديمة” المُستَسلِمَة، التي تُريد عودة الحركة إلى ينابيعها الأولى، أيّ المُقاومة، بدأت تظهر على السّطح مُجَدَّدًا وتفرض نفسها على السّاحة بقُوّةٍ، كرَدّ فِعل على حالةِ الهوان التي تعيشها “الحركة الأُم” بسبب السّياسات المُذلّة لسُلطة رام الله، وارتِمائها في حُضن الاحتِلال، والخُنوع لإملاءات القِيادة الأمنيّة الإسرائيليّة.
قِيام قوّات أمن السّلطة بتسليم مُنفّذي عمليّة نابلس إذا ثَبُتَ أُسوَةً بما حدث لأبطال الهُروب الكبير من سجن جلبوع الذين لجأوا إلى جنين، وهذا مُتوقّع، سيُعزّز المُقاومة ضدّ السّلطة وأجهزتها الأمنيّة جنبًا إلى جنبٍ مع قوّات الاحتِلال وأجهزته.
الانتفاضة المُسلّحة الثّالثة، والتّنسيق العمليّاتي السرّي، بين فصائل المُقاومة بغضّ النّظر عن انتِماءاتها الأيديولوجيّة، وتحقيق المُصالحة على أرضيّة مُقاومة الاحتِلال قد تكون أحد أبرز عناوين المرحلة المُقبلة.. واللُه أعلم.