«وحوش بلا وطن» للأمريكي كاري جوجي: حينما تحمل البراءة البندقية
أكلت الحرب في القارة الافريقية من أجساد أبنائها تماما مثلما فعل الجوع والجفاف. افريقيا في المتخيل الجمعي تعني في ما تعني تاريخا كولونياليا وهيمنة وسخرة طويلة، مازالت آثارها حتى اليوم.
في فيلم «Beasts of no Nation» «وحوش بلا وطن» كانت الحرب التي لم تضع أوزارها هي الأبرز من بين الأحداث التي أرهقت قلب الصغير (آغو) وحولته من طفل وديع ومدلل إلى مقاتل شرس وقاس. يقوم بكل الأعمال القذرة والوحشية، في بلد يقع في غرب افريقيا الغنية بالغابات والأدغال والمعادن النفيسة.
تنطلق الأحداث من قرية صغيرة ووديعة كان يحرسها جنود حفظ السلام النيجيريون، قبل أن يرحلوا عندما تكون القرية في مرمى قوى الانقلاب العسكري التي تباغتها ليقع الطفل (آغو) في الأسر هو وباقي أفراد أسرته، أعقبه إعدام جماعي. قبل إعدام والد آغو، يهرب هو وأخوه نحو الغابات القريبة، لكن أخاه يقتل برصاص الجنود الذين يلاحقونهم فيما ينجو آغو، ويتابع ركضه نحو الأدغال ليجد نفسه أسيرا مرة أخرى في قبضة مقاتلي «N. D. F» الميليشيات العسكرية التي يقودها القائد في حشد من الجنود الذي يشكل عصبهم الأطفال واليافعون. يؤخذ آغو إلى مخابئهم في أعالي التلال الخضراء، وبهذا يكون قد وضع قدميه على طريق اللاعودة في الانضمام للميليشيات المقاتلة. مدفوعا بالثأر لمقتل أخيه وأبيه. فيمر بمراحل التجنيد الأولية، التي تركز على غسيل الأدمغة والأدلجة بالشعارات والأفكار الثورية، وصولا إلى التدريب العسكري. وهذا ما جعله مستعدا نفسيا وبدنيا للقتال، وحتى ذلك الوقت يكتشف المقاتل الصغير أن بيئة المعسكر هي بيئة فاسدة، يسودها الإدمان والشعوذة، ما يجعل جل الأطفال المجندين، الذين طلقوا براءتهم منقادين بشكل كبير إلى الكومنانت الطامح لنيل رتبة جنرال، بعد أن يقوم بتحرير العاصمة.
سرعان ما ستتحطم أحلام الكومنانت بعد أن يتم استدعاؤه من قبل رئيس الجناح السياسي للحركة المتمردة، فيتجاهله هذا الأخير حتى اليوم التالي يتركه في قاعة الانتظار ليصعق بخبر ترقية الجندي «توايسي» الذي كان حتى الأمس القريب تحت إمرته في إظهار صريح لانتهازية السياسيين. يرفض الكومنانت ذلك فيخبره رئيسه بحقيقته كجندي واجبه فقط الطاعة العمياء، كما يخبره بأن الحرب وفظاعتها قد جلبت انتباه العالم، وأنه لا مفر من المحاسبة. والسياسيون هم الأقدر على استثمار الإنجاز العسكري والميداني. ونتيجة لذلك يدبر الكومنانت مكيدة لتوايسي تنتهي بمقتله، ويتحول التنظيم الثوري إلى عصابة يقودها هذا القائد الوصولي. وتتم ملاحقته في كل مكان حتى يصبح هو وجنوده مهددين بالجوع والأمراض القاتلة. هذا الأمر يدفع الطفل المقاتل آغو والآخرين إلى الانشقاق وترك المعسكر والاستسلام لجنود حفظ السلام. فيتم نقلهم إلى مركز مختص بإعادة تأهيل الأحداث. يعمل فيه الاخصائيون على إعادة بريق الطفولة المقتولة فيهم. ليطرد منهم شبح المقاتل والجندي والمدمن على الكوكايين. في هذا المركز تسأل المرشدة النفسية آغو عما اقترفته يداه سابقا فيعبر لها عن خشيته على البوح، لأنها ستجزم أن الجالس أمامها هو وحش فعلا لا طفلا صغيرا لم يبلغ الحلم بعد. إنه طفل لكنه يحب الموتى ورائحتهم. فينتهي الفيلم بهذه النهاية المفتوحة من غير أن نتعرف على مستقبل الطفل آغو وباقي رفاقه من الأطفال المقاتلين ولا الكومنانت، أو القائد ومصير هذه الحرب الأهلية. يعد هذا الفيلم الثالث للمخرج الأمريكي كاري جوجي، على التوالي بعد فيلميه «Sin nomber» و»Jane Eyre» لكن فيلمه الأخير هو الأقرب إلى إنتاجه الأول « Sin nomber» عام 2009 الذي يروي حكاية الهجرة اللاتينية إلى أرض الأحلام «أمريكا» عبر فتاة مراهقة تلتقي بأبيها، ثم تعبر بصحبة العصابات المكسيكية إلى الحدود. وهو فيلم حصد أكثر من جائزة.
الفيلم الحالي نال جائزتين في مهرجان البندقية للأفلام في إيطاليا، كما رشح لنيل جائزة أفضل فيلم في مهرجان لندن للأفلام عام 2015. ومخرجه جوجي هو نفسه سيناريست الفيلم المستوحى من الرواية، التي جاءت بالعنوان نفسه وصدرت في عام 2005 للكاتب الأمريكي ذي الأصل النيجيري أوزو دينما أويالا، الذي يعد من أفضل 20 روائيا أمريكيا شابا من ذوي الأصول الأجنبية.
ما تميز به إخراج الفيلم بوجه عام هو نقله للبيئة الحقيقية بفيزيائيتها وطبيعتها الخلابة، عبر تنويع المساحات التصويرية والبصرية. غابات خضراء وعذراء وطبيعة ساحرة وناس طيبون، يكونون عرضة للتمييز والإبادة من قبل الطامعين والعسكر المتنفذ، وهم يعكسون صراعات ممتدة من عصر الاستعمار الذي عقد النسيج القبلي والإثني في القارة الافريقية لينهب خيراتها بالتحالف مع الطغم العسكرية الحاكمة والفاسدة في الداخل. أبرز ممثل في طاقم الفيلم هو «Idris Elba» بطل الفيلم الشهير عن مانديلا «Long walK to freedom» وهو الذي أعطى بتقمصه لدور الكومنانت بعدا نفسيا وانفعاليا، أجمع النقاد على صلابة أدائه في نجومية لا تقل توهجا عن نجوميته في دور المناضل الافريقي والأممي نيلسون مانديلا، الذي أوصله للعالمية، وجعله في دائرة الضوء. إلى جانبه يبرز Abraham Attah في دور آغو، الذي حصد إحدى جوائز مهرجان البندقية في إيطاليا لروعة أدائه اللافت في إظهار التحولات النفسية العميقة التي تتلاطم داخله كصبي. لقد قدم هذا الفيلم صورة بليغة عن تجنيد الأطفال وحرقهم في الصراعات والحروب الأهلية التي عرفتها القارة السمراء.
آغو يعاتب فطرته بصوت داخلي وهو يرى نفسه يتحول إلى وحش، فكان يرجو الشمس أن لا تشرق ثانية حتى يعم الظلام فلا يرى الآخرون ما يجري هناك من فظائع واحداث رهيبة، غرقت فيها القارة حتى رأسها وتحملت تبعاتها الثقيلة، ألا يعد هذا اغتصابا للطفولة والبراءة من قبل سماسرة الحرب وزبانية الاستعمار وأذنابهم؟
مشاهدة فيلم Beasts of No Nation 2015 مترجم
https://cimawbas.tv:2053/see.php?vid=6105e324bhttps://www.ok.ru/video/359342934766