رضينا بالبين والبين ما رضي فينا”.. تعثر محاولات منصور عباس لـ”إحراق مراحل مع إسرائيل”
مرة أخرى هدد رئيس القائمة العربية الموحدة داخل أراضي 48 النائب منصور عباس بالمساس بالائتلاف الحاكم الذي يدعمه بقوله إنه لن يصوت معه داخل الكنيست طالما لم تتوقف عمليات التجريف الإسرائيلية في أراضي النقب الذي يشكل نحو ثلثي فلسطين التاريخية وصادرت الدولة العبرية 90% من أراضي أصحابه الأصليين.
لليوم الثالث على التوالي استمرت الأربعاء أعمال تجريف مزروعات البدو الفلسطينيين في النقب وتحديدا في منطقة النقع التي يقطنها نحو 30 ألف فلسطيني داخل ست قرى وتحريجها بالأشجار لاعتبارها “أراضي دولة” مما تسبب بتجدد المواجهات مع الشرطة الإسرائيلية واعتقال المزيد من الأهالي بعد اعتقال 18 منهم يوم الثلاثاء ومنهم طفل وطفلة وامرأة.
هذا التهديد المرشح لأن يفضي لأزمة داخل الائتلاف الحاكم برئاسة نفتالي بينيت ربما يندرج ضمن محاولات الموحدة امتصاص غضب أهالي النقب وفلسطينيي الداخل بشكل عام لكنه يشكل فرصة للتوقف عند جوهر العلاقات التاريخية والراهنة بين الدولة العبرية وبين الفلسطينيين فيها ممن تحولوا إلى أقلية بعد النكبة بعدما كانوا قسما من أغلبية.
نضال ضمن القانون الإسرائيلي
اختار الفلسطينيون في إسرائيل (19%) جراء عوامل تاريخية موضوعية وذاتية الموازنة بين الوطن وبين المواطنة والنضال من أجل حقوقهم السياسية والمدنية ودعم قضية شعبهم في نطاق القانون الإسرائيلي وخارج حركة التحرر الوطني الفلسطينية. أي أن فلسطينيي الداخل الذين تحولوا بعد النكبة لأقلية صغيرة مضطهدة ومحاصرة إسرائيليا وعربيا في العقود الأولى شكلوا لاحقا عنصرا داعما للنضال الفلسطيني دون أن يكونوا رافدا من روافد حركة التحرر الوطنية بحكم خصوصية وضعهم الجيوسياسي.
وانخرط الحزب الشيوعي الإسرائيلي في الانتخابات البرلمانية الإسرائيلية الأولى عام 1949 ومعه “قوائم عربية” متعاونة دارت حتى نهاية سبعينيات القرن الماضي في فلك حزب “مباي” الحاكم وصنيعته وكانت بمنتخبيها ومصوتيها من العرب لكنها في جوهرها إسرائيلية ولذلك لا تحتسب كأحزاب عربية وعلى الأقل هناك فارق جوهري وكبير بينها وبين الأحزاب العربية في الفترة الراهنة (الوطنية والإسلامية). بين هذه وتلك انخرطت الأحزاب العربية في أغلبيتها الساحقة (عدا حركة “الأرض” التي حلت في 1965 رغم رغبتها بالمشاركة في انتخابات الكنيست و”أبناء البلد” و”الحركة الإسلامية الشق الشمالي المحظورة منذ 2015) في النظام السياسي البرلماني الإسرائيلي.
الصراع معقد ونازف ويقذف بحممه
مع ذلك ما زال الصراع الكبير المفتوح منذ قرن يحول دون اندماج الفلسطينيين داخل إسرائيل في نظامها السياسي بشكل كامل رغم أن مواطنتهم الرسمية عمرها 73 عاما. وهذا ببساطة لأن الصراع لا يدور فقط بين إسرائيل وبين الفلسطينيين في الأرض المحتلة عام 1967 وفي الشتات فهو يطال بالتأكيد الفلسطينيين داخل إسرائيل لعدة عوامل. أولا لأن الصراع متداخل ومتشابك وجوهره الصراع على الأرض وعلى هوية البلاد وعلى الرواية التاريخية، والفلسطينيون في إسرائيل جزء من كل ذلك وينتمون في روحهم وانتمائهم التاريخي لشعبهم.
كذلك إسرائيل ما زالت تتعامل مع المواطنين العرب الفلسطينيين فيها كأعداء وتنظر لهم عبر فوهة الأمن (قرارات لجنة أور، مثلا) رغم تمسكهم بمواطنتهم فيها وانحيازهم بشكل عام (رغم وجود استثناءات) لخيار العمل السياسي القانوني منذ 1948 وبقائهم خارج حركة التحرر الوطنية الفلسطينية تحت عنوان “خصوصية وضعهم” لدرجة وصفهم من قبل جهات إسرائيلية بأنهم “الأقلية الأكثر هدوءا في العالم”.
لم ينته تعامل إسرائيل مع المواطنين العرب فيها عبر فوهة الأمن والخطر الاستراتيجي كما تجلى في الماضي بعدة مفارق أبرزها يوم الأرض الأول عام 1976 وهبة القدس والأقصى عام 2000 وفي الحالتين فتحت شرطتها الرصاص الحي القاتل على المتظاهرين. هذه ليست أحداثا تاريخية انتهت بل هي مسيرة مستمرة وبأشكال مختلفة (كما هو الحال في النكبة المتواصلة) كما يتمثل بمساعي تهويد الجليل والنقب تحت عنوان “التطوير والتحديث”، وما يدور الآن في النقب هو حلقة في مسلسل تاريخي بدأ منذ 1948، منذ أن نسيت السلطات الإسرائيلية غصنا صغيرا في الشجرة الفلسطينية، وهي تحاول الآن تقليص أضرار “خطأها التاريخي الفادح”.
التقاط لحظة واستغلال تعادل المعسكرين المتصارعين
وبعدما فشلت في استكمال التهجير والتطهير العرقي (مذبحة كفرقاسم عام 1956 وأفكار ومخططات تهجير) في العقد الأول بعد النكبة (معهد “عكافوت” الإسرائيلي يفضح تباعا بمئات الوثائق انشغال حكومات إسرائيل باستكمال عملية التهجير دون جدوى) سعت إسرائيل طيلة عقود بشتى السبل لمنع نمو هذا الغصن وقمع أي محاولة تبلور المواطنين العرب الفلسطينيين فيها كأقلية قومية أصلية.
وعبرت إسرائيل عن قلقها من تنامي الأقلية الفلسطينية داخلها (19%) كما وكيفا وعن انتقالها من الاحتواء للاستعداء الصريح والدستوري بتشريعها قانون القومية في 2018 وفيه تعتبر إسرائيل “دولة اليهود فقط” أما سواهم فهم عمليا ضيوف وغير مرحب بهم حتى أولئك الخادمين في جيشها. إن انضمام القائمة العربية الموحدة للائتلاف الحاكم في إسرائيل عام 2021 هو خطوة تاريخية غير مسبوقة وثمرة استغلال لحظة تعادل بين معسكرين صهيونيين متصارعين على السلطة، لم يكن أي منهما يرضى بـإشراك الموحدة لو حاز على خيار آخر.
هذه ليست ثمرة ناضجة تعكس تغيرات جوهرية حقيقية في تعامل المؤسسة الإسرائيلية السياسية وإسرائيل بشكل عام مع المواطنين العرب الفلسطينيين فيها تشي ببدء تحولها لدولة كل مواطنيها. هذا لم يحدث ولا يلوح بالأفق القريب أنه سيحدث بسبب الصراع الكبير المفتوح المؤثر على الفلسطينيين في إسرائيل أيضا وبسبب السياسات والتوجهات العنصرية فيها على المستويين الرسمي والشعبي.
محاولة حرق مراحل
للوهلة الأولى تبدو الـ73 عاما فترة طويلة لكنها بعيون ومصطلحات التاريخ والصراعات التاريخية هي مجرد دقائق ولذا ينطوي انضمام الموحدة على محاولة (من قبل عدة أطراف) حرق مراحل ومحاولة تقصير الطريق ومحاولة إنضاج الثمرة الفجة بوسائل اصطناعية. هذه التجربة بأفضل الحالات هي محاولة سياسية انتهازية من قبل الموحدة لاصطياد مكاسب مدنية مهمة للمجتمع العربي وصفها رئيس الموحدة منصور عباس بلعبة بيضة القبان. علما أن هذه مستحقات طبيعية للمواطنة تبقى في دولة ديموقراطية خارج لعبة المساومات، ورغم كون الموحدة “بيضة القبان” تحققت الاتفاقية الائتلافية حتى الآن بشكل جزئي جدا وسط محاولات مضادة (من الحكومة ومن الدولة العميقة) لتقزيمها وتكريسها وعودا على ورق.
في المقابل فإن ضم الائتلاف الهش، ائتلاف التخلص من نتنياهو، للموحدة هو الآخر محاولة سياسية انتهازية للبقاء في الحكم دون أي تغيير جوهري في تعامل أحزابه مع المواطنين العرب ففي القضايا الجوهرية هو ائتلاف صهيوني يميني معاد لهم كما كان في حكومات نتنياهو. إن تحدث منصور عباس وأحمد الطيبي ووليد طه وعايدة توما بالعربية لعدة دقائق ضمن السجال داخل الكنيست حول قانون الكهرباء أغضب واستفز جهات في الائتلاف أيضا لاعتبارهم العربية خطرا على “يهودية الدولة” ورموزها.
رضينا بالبين
“رضينا بالبين والبين ما رضي فينا” كانت تقول جدتي قبل عقود. رحلت جدتي أم محمود وما زالت مقولتها صحيحة وتزداد صحة لأن إسرائيل تزداد فظاظة وعدوانية مستترة وسافرة من ناحية تعاملها مع مواطنيها العرب وتتوقع أن يرضى هؤلاء بما لا يرتقي لمستحقات مواطنة حقيقية وهناك من يقول فتات.
وهذا الصلف الإسرائيلي تجاه فلسطينيي الداخل هو نتيجة عوامل كثيرة منها ما يرتبط بجوهرها ومنها ما يرتبط بالمجتمع العربي نفسه الذي يتطور كما وكيفا وكذلك يشكل بعض قادته أحيانا منديلا أحمر يزيد هيجانها بتصرفهم، ومنها ما يرتبط بتردي النضال الفلسطيني العام والانهيار العربي وانتقال دول كثيرة لحسابات المصالح وإغفال الأخلاق والقوانين الدولية.
على خلفية ذلك فمواطنة العرب الفلسطينيين في إسرائيل ليست حقيقية وكاملة بعد، وعميقا لدى أوساط كثيرة منهم هي الأخرى لا تؤخذ المواطنة بجدية كاملة. ربما يتيح حل الصراع الكبير يوما تطور مواطنة العرب في إسرائيل لمواطنة طبيعية أو كاملة تفضي لمشاركة كاملة بالنظام السياسي وهذا أيضا غير مفهوم ضمنا ويحتاج لتهيئة سياسية إذ هناك من يتوقع أن تصبح دولة “أكثر يهودية” في تعاملها معهم بحال قامت دولة فلسطينية في الأراضي المحتلة عام 1967.
مفاعيل في الوعي
في الحلبة السياسية الإسرائيلية الراهنة ربما ستترك تجربة انضمام الموحدة/الحركة الإسلامية للائتلاف الحاكم في إسرائيل أثرا لا يرى وسترسب مفاعيلها عميقا في الوعي، وعي الطرفين نحو تقصير طريق الاندماج الكامل في النظام السياسي الإسرائيلي أو التمهيد لذلك لكنها ولدت بولادة غير طبيعية ولن يكتب لها العمر الطويل.
تتعزز هذه القراءة في ظل تفاقم الصراعات على السلطة والمزاودات الإسرائيلية الداخلية والمعارضة برئاسة نتنياهو تتصرف كالقرش الذي استنشق رائحة الدم، وتصعد ضرباتها لنزع شرعية هذه الحكومة غير المتناغمة العرجاء ومحاولاتها لدق الأسافين فيما بينها كما فعل نواب “الليكود” في النقب بمشاركتهم بزرع استفزازي للشجر في أراضي القرى العربية وكما تجلى في تحريض نتنياهو الدموي بأن حكومة بينيت تبيع النقب للعرب وللموحدة تماما كما فعل مع حكومة رابين التي بدأت بخطوات لتسوية الصراع ولتحويل مواطنة العرب لحقيقية بعد أوسلو 1993.
العودة للمربع الأول
يبدو أن أقرب الاحتمالات أن الموحدة التي قام هذا الائتلاف الهجين بفضلها ستسقطه مضطرة بضغط الشارع العربي وربما بخلاف رغبة بعض قادتها فالرياح السياسية تجري بما لا تشتهيه سفنهم. وهذا الاشتعال المحتمل موطنه ليس في النقب فقط حيث جمهور الموحدة الأساسي، فالصراع الكبير المتزايد تعقيدا وتدينا وعودة للمربع الأول ينزف ويقذف حممه بين الفترة والأخرى والأحداث الأمنية المتوقعة من شأنها أن تصيبه بجراح بالغة لا سيما أن الأقصى صرح جامع والقدس قاسم مشترك ومقدس جدا لكل الفلسطينيين وهو كما تدلل تجارب الماضي شكل سببا لعدة انفجارات كبيرة.
ومثل هذه النتيجة من شأنها أن تدفع نحو سقوط نسبة مشاركة المواطنين العرب في انتخابات كنيست جديدة إلى دون الـ40% وهذا ربما يفتح الباب ويمهد الطريق لعودة عمل سياسي جماهيري غير برلماني وربما إلى انعزالية سلبية من شأنها أن تفضي لاحقا لصدامات أو تدفع للانضمام لصدام فلسطيني إسرائيلي أوسع على غرار هبة القدس والأقصى عام 2000 أو هبة أيار 2021 وربما أخطر يعيد الأوضاع فعلا للدائرة الأولى قبل سبعة عقود ونيف فهذا وارد غدا أو بعد غد رغم أنه يبدو مستغربا اليوم وهو بحدوثه وبتوقيته وبمدى قوته أيضا رهن عوامل مختلفة موضوعية وذاتية.