السر غير المعروف لأفضلية مرحلة صدام حسين على الحاضر
علي سيريني
يحن عموم العراقيين إلى زمن صدام حسين، وكذلك العرب في جلّهم، يعتبرون تلك الحقبة الماضية أفضل مما نحن فيه في الوقت الراهن. الأسباب التي تدفع الناس إلى تفضيل تلك الحقبة على راهنهم الجاري، معروفة و واضحة، من حيث المعيشة والأمان والإستقرار. ولكن في الواقع، يفتقدون إلى فهم صحيح لهذه الأفضلية الظاهرة التي ينسبونها غلطاً إلى أفضلية صدام ونظامه، مقارنة بما لدينا من أنظمة و أحزاب و سياسيين بلغوا قعر الإنحطاط. فالناس ترى أن صداماً ونظامه كانا أفضل من النظام السياسي الحالي، تفضيل نوعٍ بين جيد وردئ. ولكن هذا الفهم الظاهري خاطئ وقاصر لجهة إدراك أن المفاضلة أو المقايسة النوعية بين المرحلتين ممنوعتان من الصرف، ليس فقط لأسباب موضوعية بين المرحلتين، بل لأن الفروق بينهما ليست نوعية، بل متجانسة في الكم بين إبتداء الخراب (أي السياق الممتد الذي فيه وصل حزب البعث إلى السلطة)، وسيلان هذا الكم المتجانس إلى القعر (أي الواقع الراهن). من هنا فإن المفاضلة العكسية (مراذلة)، أي الحديث عن أيهما أكثر سوءا وأكثر خرابا، قد يكون الأنسب، لكن الشعور الشعبي العام هو بطبيعته ميّال إلى الماضي، ومن هنا، فإن الأقل سوءا يكسب نقاطا، يستحيل على الشعور الشعبي العام فهم هذا السياق فهما تحليلياً وافياً، يوصله إلى قراءة أدق في أي مقايسة مطروحة بين المرحلتين أو أكثر.
بدأت الكارثة العظمى بسقوط الدولة العثمانية، وتقسيم المنطقة و وقوعها تحت الإحتلال الغربي، ثم هيمنة المد الأتاتوركي على الحياة العامة (الثقافية والسياسية). على أن خلفيات هذه الكارثة العظمى نُسجت في القرن التاسع عشر، بل وقبل ذلك. قدمتُ خلاصة عن هذا الموضوع في مقال ‘الحركات و التيارات الإسلامية (الوهابية و الإخوانية) من منتوجات الحداثة الغربية لا الإسلام: البروتستانتية الإسلامية و الجذور الماسونية للإحيائية الإسلامية‘ وهذا هو رابطه:
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=658083في القرن التاسع عشر، ظهرت حركة تغريبية خطيرة في تركيا وفي مصر، كان جوهرها هو تلوين الشرق بلون الغرب، والقيام بعملية التقمص والإستنساخ الحذافيري للغرب وأنماطه في الحياة. من جُبّة هذه الحركة، ولدت فكرة العلمانية والقومية (لاحقا القومية الإقليمية مثل سوريا و العراق ومصر والأردن الخ)، و ولدت الأحزاب السياسية، ومنها الأحزاب والحركات الإحيائية الإسلامية. بعد ذلك، وفي هذه الأجواء، ولد حزب البعث العربي الإشتراكي في ظل التأثر بالواقع الجديد في منطقة الشرق (الدول القومية كتركة عثمانية سياسيا)، وتحت تأثير مباشر للفكر القومي و العلماني الأوروبي (النازية الألمانية)، وكذلك الشيوعية السوفيتية.
الأتاتوركية في تركيا، كانت إرهاباً وقهراً وفرضاً للتغريب بقوة الحديد والنار، وقلبٍ للموازين والأنماط، رأساً على عقب. وهذه التجربة أصبحت تؤثر في كل الحركات والجماعات السياسية، وتمدها بالثقافة و الروحية، حتى الحركات والجماعات الإسلامية! الدولة العثمانية حكمت المنطقة، كوريث للدولة الإسلامية والمملكوية والأيوبية والعباسية والأموية. أي أن مطلع القرن العشرين الميلادي، هو الأرض التي تراكمت فيها وعليها خبرة 14 قرنا من الحكم والسلطة والثقافة والسياسة، و تتويجا بتراثٍ احتضن مئات الآلاف من العلماء في شتى علوم المعرفة، وملايين الكتب في كل الحقول العلمية والإنسانية، وخبرة عظيمة في معارف العلوم والحياة. حين تلاشت الدولة العثمانية، انبثقت دول إقليمية على أنقاضها مثل سوريا و العراق والأردن ولبنان وتركيا ومصر الخ. وقامت هذه الدول الجديدة على أكتاف الكادر العثماني، حيث عاد الكادر العثماني الذي ينتمي إلى المناطق البعيدة إلى منطقته، بعد سقوط الدولة، فيما ظل الكادر العثماني باقياً في كل بلد هو موجود فيه أساساً. فانخرط الكادران، المقيم في البلد أساساً وذاك الذي كان وافدا على عاصمة الدولة العثمانية قبل تلاشيها، في العملية السياسية الجديدة، في انبثاق الدول والممالك الجديدة التي أعتبِرَت امتدادا للعثمانية مع تعديلات معينة. ففي العراق و الأردن و سوريا، قامت ممالك وريثة لتركة الدولة العثمانية من كل النواحي. أي أن النظام الجديد ورث كادر الحكم والسياسة، والخلفية الدستورية والسياسية، وأرضية وأدوات الحكم من العثمانية. أي أن النظام الجديد، لم ينبت في فراغ، ولا أتى إلى أرض خالية.
ظلت المملكة العراقية لأكثر من ثلاثة عقود، كدولة عثمانية مصغرة، تمضي قدماً وتنقل الخبرة من جيل لآخر. في عام 1958، وقع إنقلاب عسكري مشؤوم بيد تيار من تيارات التغريب والحداثة. هذه التيارات تتضمن القوميين و الشيوعيين و الوطنيين الخ. بالرغم من تعدد المسميات، لكن التسمية اللائقة بهذه التيارات وفروعاتها هي (الشلاتية و السرسرية)، إلا ما رحم ربك. وهؤلاء هم من أسسوا بداية التراجع والإنحدار، أو نسجوا الخيوط الأولى لحقبة الفشل والبؤس. كوادر حزب البعث العراقي الذين تسلموا السلطة في عام 1963 لبرهة، ثم استولوا عبر إنقلاب 17 تموز 1968 وإلى عام 2003، هم الذين ولدوا في ظل النظام الملكي الوريث للدولة العثمانية. معظم كوادر البعث من الجيل الأول ولِد في أواخر العشرينات أو في ثلاثينات القرن العشرين، أي في ظل العهد الملكي الذي كان بعدُ في أجواء العثمانية، في مجالات الحياة. أحد هؤلاء هو صدام حسين الذي ولد في عام 1937، وكان له 21 عاماً، أثناء الإنقلاب على النظام الملكي في عام 1958. ومعنى هذا أن الكادر البعثي كان كادرا ملكياً متصلا بالتراث العثماني، وبخبرة عثمانية متراكمة بطبيعة الحال. لكن الذي أفسد هذا الكادر هو المد الجديد من التيارات الفكرية الحداثية، والآيديولوجيات المعاصرة، مثل القومية والإشتراكية والشيوعية والليبرالية والروافد الغربية عموما. حافظ حزب البعث على هذا الكادر منذ عام 1968 وإلى عام 1979، حيث قام صدام حسين بإغتيال معظم هذا الكادر الخبير، وصاحب الإمكانيات العلمية والثقافية والسياسية. مثلا، لو تفحصنا السيرة الشخصية لكوادر البعث الذين اغتالهم صدام وجهازه المخابراتي الأمني، لوجدنا أن أي واحد منهم هو خبير ومثقف وكاتب ومفكر. مثلا عبدالخالق السامرائي، عبدالله سلوم السامرائي، محمد المحجوب، غانم عبدالجليل، عدنان الحمداني الخ، هؤلاء وعشرات الكوادر الأخرى، معظمهم قريب الولادة من ولادة صدام زمنياً. هؤلاء قضوا نحبهم بسبب طغيان صدام وغروره، وحبه للإستفراد بالسلطة. هؤلاء كانوا أصحاب عقول و إمكانيات علمية (ترعرعوا في ظل العهد الملكي وخيراته الباقية من الدولة العثمانية).
حين انفرد صدام بخبثه ومكره وغدره بالسلطة، وحين قضى على هذه العقول والإمكانات، جاء برهط من البلطجية والجهلة من أمثال علي حسن المجيد و طه ياسين رمضان و عزت الدوري الخ، ليكونوا واجهة السلطة وركائز دكتاتوريته. منذ سقوط الدولة العثمانية، دخلت المنطقة برمتها في مرحلة مظلمة. لكن الظلمات تكاثفت أكثر مع الإنقلابات العسكرية التي قام بها (الشلاتية السرسرية)، من الزمر التي تلوثت بالتيارات الغربية الآيديولوجية. لكن بقايا الخير ظلت تتراوح في المكان، في العراق مثلا، بسبب الكوادر التي تربت في العهد الملكي، وجلبت معها الأضواء و المعارف التي بثت في شرايين النظام والحكم، ما أمدها بالخير وأسباب البقاء. ولكن بقايا الخير تلاشت مع نهاية السبعينيات، ودخل العراق العهد الأكثر قتامة و ظلمة، حيث بدأت الكوارث تضربه بسبب استفراد صدام بالحكم، و بمعاونة البلطجية و الفاسدين. أي أن الدولة أصبحت في مراحلها الأخيرة دولة عصابات، إلا أن بقاؤها ظل مرهونا بكوادر الدولة من الموظفين والأكاديميين والفنيين والمهنيين، الذين انهلوا تعليمهم ومعارفهم منذ العهد الملكي، أو في ستينيات القرن الماضي حيث كانت بقايا الخير مازالت موجودة.
مع مشارف العقد الثامن من القرن العشرين، كان العراق دولة تدار من العصابات الآكلة لبقايا الخير الذي امتد من العثمانية إلى الملكية، وإلى حيث كان البعث برئاسة صدام وحكمه الأوحد يمتص العراق، ويدفعه نحو الإنهيار النهائي. ومنذ أن استشرى الظلم والفساد أركان الدولة والمجتمع على هذه المراحل المظلمة، بإنحدار شديد نحو المأساة، فإن فروعات المجتمع انكسرت على أرضية غريبة عن تراثه و ضميره و كينونته، على مستوى الدين والهوية والثقافة والتأريخ. ومن هنا، فإن الأحزاب والجماعات والسياسيين الذين نموا وترعرعوا مع البعث أو بموازاته (إلا النزر اليسير جدا) كانوا نسخة مماثلة للبعث في الفساد والإنحطاط. لذلك، حين سقط العراق في عام 2003، بيد إحتلال آثم وحقير، فإن الأدوات التي اعتمد عليها الإحتلال، في تهشيم بقايا العراق وجوهره والقضاء عليه قضاءا مبرماً، هي الأحزاب والجماعات التي كانت تسمى بالمعارضة العراقية، وأتت إلى العراق، لتستكمل الطبقات المظلمة التي أسرع صدام حسين في تغطية العراق بها. لكن صداماً، كان يتمتع ببقية الخير من العهد الملكي الوريث للعثمانية. أما العهد الجديد منذ عام 2003، فقد كان خالياً من آخر بقية خير. لذلك، أتت العصابات الجديدة وفي ذهنها لا شئ، سوى السلطة والمال والقتل، فأعْدِمَ المجتمع من بقية الخير الذي كان يصلهم زمن صدام، ولم يكن هذا الخير من صنع يديه. واثّاقلت على المجتمع ظلمات الفساد والقتل والدمار، فظن خائباً حاسراً، أن زمن صدام كان الأفضل. ومع أن المجتمع محقٌ جزئيا وظاهريا، لكنه أخفق إخفاقا شديدا في معرفة السر وراء هذا الفرق في التفاضل، فأعاد السبب إلى الفرق في جوهر النظام زمن صدام، وجوهر النظام بعد عام 2003. لكن الواقع هو، أن العهد الجديد كان استكمالا أسرع وأقوى للظلم والظلمات في عهد صدام ومن سبقه، منذ الإنقلاب على ورثة الخير في عام 1958 في قصر الرحاب.