أهمية المكان في حياة الإنسان
فاطمة عطفة
يشغل تفكيري دائما الرابط الذي يجمع ما بين المكان والإنسان أينما استوطن أو عبر، هذه الجدلية التي كتب عنها الكثير، لكنها تبقى هاجسا يشغلني بمتعة ويوحي لي بدلالات جميلة لا حصر لها. ما هي الرمزية التي تنشأ عند العابر أم المقيم على هذه الأرض المتنوعة في تضاريسها بين الماء والصحراء والجبال الجرداء أو الخضراء، لا يشغلني الزمن الفاصل بين الإنسان وحاضنته الأرض التي يعيش عليها أو يعبر منها إلى عوالم أخرى غير عالمه الذي نشأ فيه، وأتساءل دائما حول تأثير المكان وأشكاله وتحولاته في نفس الكاتب، وما يستمده منه خلال كتاباته التي يصورها للقارئ حسب رؤيته في التعبير عن أحلامه وهواجسه. لكن الحقيقة أن الربط بين المكان والإنسان تختلف من شخص إلى آخر. هناك من يستطيع أن يعبر عنها في كتب ومجلدات، وهناك من يحفظ المكان في صور فوتوغرافية أو صور في فكره ووجدانه، لذلك نجد النزاعات والحروب التي تنشأ بين الدول على وضع اليد على المكان، أي البلد كما يحصل في جميع حركات الاحتلال التي جرت وتجري في العالم، إذ تأتي الأهمية الكبيرة للمكان أو الوطن وما ينشأ عليه من عوالم عمرانية تصنعها يد الإنسان المتغير دائما لكن المكان ثابت لا يتغير بما نبني فيه من مرافق.
والسؤال الذي يشغلني: ما هو هذا السر العميق الذي يربط بين شعور الكائن وعلاقته بأرضه، أو أي أرض يدب عليها سواء في رحلات طويلة أو قصيرة؟ إن هذا السر من أهم أسرار الحياة التي لم يصل بعد الإنسان إلى استكشاف فلسفة هذه العلاقة بيننا، نحن البشر، وبين الأرض التي نعيش عليها ونسميها (الوطن). وكم فقدت الأوطان من الضحايا والشهداء في سبيل قدسية الأرض منذ أن تكونت البشرية؟ عندما نقرأ في الأدب العالمي أو العربي نجد أن كل كاتب لا بد أن ينطلق من المكان الذي عاش فيه أو قام بزيارته فيصف لنا بسرد طويل أو قصير طبيعة المكان وتضاربسه وعادات سكانه وتقاليدهم، كما أن كتب التاريج تصف لنا الصراعات التي دارت في مناطق شتى على هذا الكوكب منذ أقدم العصور، وما زالت نشرات الأخبار تتحفنا بالحديث عن الصراعات والغزوات والحروب التي يمكن أن تجري أو يعد لها من أجل السيطرة على قسم من هذه الأرض أو تلك الأرض. وهذا الكوكب الجميل الذي يتعرض لطمع الأقوياء وجشعهم، وهم يستعدون ليسيطروا بالقوة على وطن غيرهم ويحتلون أرضه. لكن بعد زمن، لا بد أن تعود الأرض إلى أصحابها مهما طال الانتظار وتكاثرت الضحايا. وهذا ما تؤكده دروس التاريخ، لا بد أن يتجانس المكان مع أهله الأصليين الذين يولدون على أرضه ويرجع الغزاة إلى بلدانهم مهزوميم خائبين.
بعضنا يتذكر الأندلس، وربما كان الشعر الأندلسي والموشحات الأندلسية من أجمل الفنون التي أبدعها أجدادنا في تلك البلاد. ونستعيد ما قاله الشاعر أبو البقاء الرُّنْدي: (لكلِّ شيءٍ إذا ما تمَّ نقصانُ … فلا يغرَّ بطيب العيش إنسانُ/ هي الأمورُ كما شاهدتها دولٌ … من سره زمنٌ ساءته أزمانُ) ثم يبدأ بتعداد الأماكن والمدن الأندلسية التي أصبحت مجرد ذكرى: بلنسية، مرسية، شاطبة، جيّان، قرطبة.. حتى يصل إلى حمص الأندلسية.
ونحن السوريين لا ننسى لواء اسكندرون، وإن غاب عن نشرات الأخبار، كما لا يمكن أن ننسى الجرح الجديد في الجولان. وفلسطين ستظل جرحا يوميا داميا على الأرض وفي سجون الأسرى والمعتقلات ولا يغيب اسم القدس والمسجد الأقصى عن نشرات الأخبار. لكن هذا الجرح الذي يحمله كل عربي، كما يحمله أبناء فلسطين أينما سافروا وأينما حلوا.. هذا الجرح لا بد أن يتماثل للشفاء يوما ويطيب، يوم يسترد الأبناء والأحفاد ما فقده الآباء، ويرفرف علم فلسطين في السماء ليؤكد أنها دولة حرة مستقلة، وتردد الأجيال الصاعدة مع محمود درويش: أنا الأرض/ والأرض أنت/ خديجة، لا تغلقي الباب/ لا تدخلي في الغياب/ سنطردهم من إناء الزهور وحبل الغسيل/ سنطردهم من حجارة هذا الطريق الطويل/ سنطردهم من هواء الجليلي…
كاتبة سورية