هل ينجح رهان الرئيس أردوغان في إنقاذ الاقتصاد التركي؟ رحلة الليرة الطويلة وإلغاء الأصفار الستة
عمر نجيب
يمنح الموقع الجغرافي لتركيا بين أوروبا وآسيا أهمية جيوسياسية نادرة بين الشرق والغرب. وتركيا عضو في حلف الناتو وفي عام 2005 بدأت مفاوضات للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي ولكن بعد 16 سنة من المحادثات أصبحت مسألة الانضمام مستعصية. وتتمتع تركيا باقتصاد بلغ حجمه 720 مليار دولار سنة 2020، وهي عضو في مجموعة العشرين التي تضم الاقتصاديات الأكبر في العالم.
خلال الشهور ال 11 الأولى من عام 2021 بلغت قيمة الصادرات التركية حسب أنقرة نحو 203 مليارات و141 مليون دولار، مقابل واردات بقيمة 219 مليار دولار. ووفقا لبيانات موقع ITC Trade بلغت قيمة صادرات تركيا في العام 2020 نحو 170 مليار دولار.
ورغم هذه الوضعية تشهد تركيا أزمات اقتصادية أو مالية كما يحبذ البعض وصفها، مما يهددها ويرفع من المخاطر التي تواجهها داخليا وخارجيا خاصة بعد أن أصبحت متدخلة في العديد من الصراعات العسكرية ابتداء من أذربيجان وأرمينيا مرورا بأوكرانيا وسوريا والعراق وليبيا والصومال وأجزاء من أفريقيا جنوب الصحراء.
برزت أخبار الأزمة التي تعاني منها تركيا بشكل شديد خلال الثلث الأخير من شهر ديسمبر 2021 عندما تجاوز سعر صرف الليرة التركية 18.4 مقابل الدولار الأمريكي وذلك بعد شهور من التراجع بسبب الخفض الشديد لأسعار الفائدة ومخاوف بشأن زيادة كبيرة في التضخم.
لكن مساء يوم الإثنين 20 ديسمبر 2021 أعلن الرئيس التركي أردوغان عن خطة يعوض بها البنك المركزي والخزانة الخسائر على الودائع المحولة إلى الليرة التركية لحمايتها من خسائر النقد الأجنبي.
القرار أدى لتحول الاتجاه، لتصعد الليرة بقوة وتمحو خسائر بداية الأسبوع وتستمر في حصد المكاسب حتى إغلاق الجلسات عند مستويات 10.60 مقابل الدولار يوم السبت 25 ديسمبر، ولكنها عادت لتلامس سعر 13.3 ليرة للدولار مع بداية سنة 2022 رغم تدخل البنك المركزي.
يوم الجمعة 24 ديسمبر قال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إن الحكومة قضت على فقاعة سعر الصرف باتخاذ خطوات لحماية ودائع الليرة التركية ضد التقلبات وذكر أيضا أن الاقتصاد التركي سيدخل بيئة شديدة الاختلاف هذا الصيف بفضل “نموذج اقتصادي جديد” يتمثل في أسعار فائدة منخفضة. كما أعلن رفع الحد الأدنى لأجور العاملين في تركيا خلال عام 2022، إلى 4 آلاف و250 ليرة تركية أي بزيادة نسبتها 50 في المائة.
محللون في أنقرة ذكروا إن الرئيس التركي رضخ لضغوط السوق ورفع أسعار الفائدة بشكل غير مباشر، حيث أن سلسلة الإجراءات المعقدة التي أعلن عنها لإنقاذ العملة الوطنية والتي لم يشرح كيف ستعمل، هي في الواقع “رفع غير مباشر في أسعار الفائدة” حسبما قال المستشار السابق للخزانة التركية محفي إجلمز.
تقديرات الخبراء الاقتصاديين والسياسيين عبر العالم وفي داخل تركيا نفسها تباينت بشأن نجاعة أو خطورة السياسات التي يتبعه الرئيس التركي، وما إذا كانت تلك الإجراءات ستكون أكثر نجاحا في نهاية المطاف هذه المرة. هذا أمر يتلخص في سؤال بسيط، هل سترى الأسر والشركات التركية في “قاطع الدائرة” هذا جسرا لمجموعة أكثر شمولا من التدابير التي تعالج الدوافع الأساسية لعدم الاستقرار الاقتصادي والمالي، أم وجهة سرعان ما تثبت أنها وجهة غير مستقرة بطبيعتها؟.
رحلة العملة التركية
الليرة هي العملة المعروفة لتركيا والمتعامل بها منذ عام 1927، حيث طبعت بالحروف العثمانية، وكانت أول ورقة فئة 5 ليرات، ثم تغيرت إلى الحروف اللاتينية عام 1937 بنفس فئة العملة. ومن أشهر الشخصيات التي ظهرت على العملة التركية، مصطفى كمال أتاتورك على العملات من فئة 5 و 10 و 50 و100 ليرة، وكذلك عصمت أينونو والذي طبعت في عهده عملات من فئة 100 إلى 500 ألف ليرة عام 1939. ومع التطور الاقتصادي في العصر الحديث بدأت تركيا في طباعة عملة المليون ليرة عام 1995 والتي قضت بدورها على قيمة الألف ليرة، حيث كانت المليون ليرة تجابه 1 دولار ارتفاعا أو انخفاضا في السوق العالمية.
ومع بداية الألفية الجديدة تطورت العملة التركية لتصل فئاتها إلى أرقام مليونية من الليرات وتطرح فئة خمسة ملايين و10 ملايين و20 مليون ليرة، تزامنا مع بداية نهضة اقتصادية واسعة حتمت على الحكومة التركية التخلص من الأصفار الستة على يمين العملة. وصدر قانون تنظيم العملة للجمهورية التركية يوم 28 يناير 2004، جرى بعدها حذف ستة أصفار من العملة بتاريخ 1 يناير سنة 2005، واكتسب تسمية الليرة التركية الجديدة وكانت من فئات خمسة و10 و20 و50 و100 ليرة. وبعد حذف ستة أصفار من العملة اكتسبت الليرة استقرارها. وقد تم سحب كل العملات القديمة واستبدلت مكانها العملات الجديدة، لتصبح مليون ليرة قديمة تساوي ليرة جديدة.
وكان عدد الأصفار الكبير يخلق مشاكل في التعاملات، كما يخلق صعوبة في قراءة أرقام عدادات سيارات الأجرة ولائحة الأسعار في محطة البنزين. في مارس 2015، هبطت الليرة إلى أدنى مستوياتها مقابل الدولار حيث خسرت الليرة التركية 11.4 في المائة من قيمتها فيما عرف حينها بـ”خطر الدولرة” وهو ما دفع البنك المركزي التركي لإبقاء معدلات الفائدة دون تغيير. وحتى إجراء الانتخابات الرئاسية التركية خسرت العملة التركية أكثر من 20 في المائة من قيمتها مقابل العملتين الأوروبية والأمريكية في اقتصاد شهد تباطؤا في النمو وارتفاعا كبيرا في نسبة التضخم وعجزا عاما كبيرا.
وفي 2 نوفمبر 2015، سجلت الليرة التركية ارتفاعا كبيرا مقابل الدولار واليورو، إثر فوز حزب الرئيس رجب طيب أردوغان في الانتخابات التشريعية التي جرت حينها، حيث ارتفع سعر الليرة التركية 4 في المائة وبلغ 2.78 ليرة للدولار و3.07 لليورو.
يذكر أن حزب “العدالة والتنمية” سبق أن نجح في تخليص تركيا من ديونها لصندوق النقد الدولي في العام 2015، ويعتقد أردوغان أنه سينجح في سياسة تحرير تركيا من هيمنة البنوك الغربية على الاقتصاد عبر خفض الفائدة المستمر وتسديد ديون المصارف الأجنبية على تركيا.
واستفادت تركيا من الفائدة المرتفعة أو “دولرة الاقتصاد” خلال العقد الماضي، حيث وفرت المصارف الغربية للشركات والأعمال التجارية التمويل الدولاري، وبالتالي مكنتها من التوسع الإنتاجي، إلا أن أردوغان يرى أن سياسة “دولرة الاقتصاد التركي” باتت في الآونة الأخيرة مكلفة للاقتصاد وأفراد الشعب التركي، وبالتالي يرغب في القضاء عليها ضمن ما أطلق عليه “الاستقلالية الاقتصادية”.
الجذور
يوم الثلاثاء 28 أغسطس 2018 أي قبل زهاء ثلاث سنوات ونصف أصدر خبير في جامعة ستانفورد ومركز الإدارة المالية والسياسات في معهد مساشوسيتس للتكنولوجيا تحليلا حول الوضع الاقتصادي التركي جاء فيه:
كتب كثيرون في الفترة الأخيرة عن الأزمة الاقتصادية في تركيا وانهيار العملة التركية، واختلفت الآراء بين من يفسر الأمور بمنظور المؤامرة كعادة كثير من الشعوب، وآخرون أكثر حصافة يعبرون عن آراء اقتصادية جيدة، إلا أن التفسير الأدق والأكمل صورة يأتي عادة من المحللين الماليين الممارسين عمليا في أسواق العملات والمختصين فـي اقتصاديات وأسواق الدول الناشئة وفي رأي المجموعة الأخيرة، تبدو الأسباب واضحة، وتتلخص في الآتي:
– أحد أهم أسباب انهيار العملة التركية هو الخلل الكبير الذي يعانيه الاقتصاد التركي في ميزان المدفوعات.
وهذا بمعناه البسيط أن قيمة الصادرات التركية من صناعات وغيرها تقل بكثير عن الواردات من سلع وغيرها، وكذلك الدخل بالعملات الصعبة من السياحة والاستثمارات الخارجية في تركيا يقل بكثير عن حجم العملات الصعبة التي تخرج من تركيا لتمويل الواردات وخاصة الطاقية والديون الكبيرة على القطاعين العام والخاص. ذلك الخلل هو نتيجة عدم قدرة تركيا خلال السنين الماضية على تطوير وزيادة الصادرات وأيضا عدم قدرة الاقتصاد التركي على جذب الاستثمارات الخارجية النوعية التي كان من الممكن أن تجعل من الاقتصاد التركي أكثر إنتاجية وتنافسية.
– ولأن الاقتصاد التركي قد بدا منذ فترة ضعيفا وهشا في مواجهة تلك المصاعب، ومع تصاعد اعتماد الاقتصاد التركي على القروض الخارجية، فإن الارتفاع الأخير لأسعار الفائدة والعملة الأمريكية قد نتج عنه تراجع كبير لليرة التركية مقابل الدولار. وتجدر الإشارة هنا إلى أنه مع حدة التراجع الأخير للعملة التركية، إلا أن ذلك لم يكن هو التراجع الأول خلال السنوات العشر الماضية، فلقد هبطت قيمة الليرة التركية من نحو ليرة مقابل الدولار عام 2007 إلى ليرتين مقابل الدولار، وثلاث ليرات مقابل الدولار، وأربع ليرات مقابل الدولار في السنوات اللاحقة إلى أن وصلت خلال سنة 2018 إلى أكثر من ست ليرات للدولار الواحد. هذا الهبوط المستمر والمتلاحق سنة بعد سنة لليرة التركية لمدة عشر سنوات هو المؤشر الواضح على عمق المشكلة التركية، وهو أحد أوجه الاختلاف بين ما يحدث اليوم في تركيا وما حدث في الأزمة المالية الآسيوية عام 1998.
– تختلف الأزمة في تركيا عن أزمة الدول الآسيوية في أنه رغم كون الأخيرة قد تعرضت لمشكلة الديون الخارجية كما هو الحال في تركيا، إلا أن الدول الآسيوية كانت تتمتع وقتها بقاعدة اقتصادية قوية لاسيما في مجال الصادرات والقدرة على بناء احتياطيات مالية ضخمة من العملات الصعبة. ولهذا فلم تستمر الأزمة المالية الآسيوية طويلا. واستطاعت الدول الآسيوية في مدة قياسية العودة ليس فقط لمستويات النمو السابقة بل تعدت ذلك إلى مستويات قياسية جعلت منها الأقوى نموا في العالم. وتمكنت تلك الدول الصاعدة من بناء أصول سيادية ضخمة من العملات الأجنبية كرافد كبير لاقتصادياتها وقت الأزمات.
ويجمع كثيرون على أن السياسات العامة للحكومة التركية هي الحاضن الأساس للمصاعب الكبيرة التي يمر بها الاقتصاد التركي. وبدا في نظر الأسواق العالمية وكأن الفريق الحالي المسؤول عن إدارة الأزمة غير قادر على مواجهة التحديات الكبيرة التي تواجه الاقتصاد التركي، ما ينذر بمصاعب أخرى قد يتعرض لها الاقتصاد خلال الفترة المقبلة.
ولهذا فإن من غير المتوقع أن يحدث تغير في المسار التراجعي لليرة التركية بشكل عام خلال الأشهر والسنوات المقبلة ما لم يحدث تغير جذري في السياسة التركية لتكون أكثر جاذبية للاستثمار وأكثر توافقا مع شركائها التجاريين.
هبوط قياسي للاحتياطيات
يوم الخميس 30 ديسمبر 2021 أعلن البنك المركزي التركي أن صافي الاحتياطيات الدولية لديه انخفض إلى أدنى مستوى منذ 2002 ليصل إلى 8.63 مليار دولار في 24 ديسمبر من 12.16 مليار قبل ذلك بأسبوع فيما يعكس تدخل البنك في سوق الصرف الأجنبي مؤخرا.
وكان البنك المركزي قد أعلن تدخله المباشر 5 مرات في السوق شهر ديسمبر لوقف انهيار العملة وقال مصرفيون إن حجم التدخل الإجمالي تراوح بين ستة مليارات وعشرة مليارات دولار.
وفي 2019-2020 انخفض صافي الاحتياطيات عندما باع البنك المركزي 128 مليار دولار لبنوك الدولة لتثبيت سعر الليرة التي واصلت تراجعها رغم ذلك.
سجلت تركيا عجزا كبيرا في ميزانها التجاري (الفرق بين قيمة الصادرات والواردات) في أول 4 شهور من 2021، وسط استمرار ارتباك واضح في تجارتها.
ووفق مسح أجري استنادا إلى بيانات وزارة التجارة التركية وهيئة الإحصاء، سجلت تركيا عجزا في ميزانها التجاري بقيمة 14.13 مليار دولار في الشهور الأربعة الأولى 2021، وهو رقم يفوق العجز المسجل في الفترة المقابلة من عام 2019.
وتنفذ عديد من الاقتصاديات حول العالم مقارنات 2021 مع 2019، بسبب الظروف غير الطبيعية التي شهدها الاقتصاد العالمي خلال عام 2020، الناجمة عن تفشي جائحة كورونا وتبعاتها على كافة القطاعات.
وبلغ عجز الميزان التجاري التركي في الشهور الأربعة الأولى من العام 2019، نحو 8.67 مليارات دولار، بينما بلغ العجز نحو 17.5 مليار دولار في الفترة المقابلة من عام 2020.
وبلغت قيمة الصادرات التركية خلال الشهور الأربعة الأولى من عام 2021، 68.8 مليار دولار أمريكي، بينما بلغت قيمة الواردات 82.93 مليار دولار خلال نفس الفترة، ما يظهر حجم الاعتماد الكبير على الواردات.
وبسبب الاعتماد على الواردات، سجلت أسعار المستهلك في السوق التركية ارتفاعات متسارعة خلال الشهور الماضية، بسبب تحميل المستهلك النهائي فروقات أسعار الصرف، مقابل الليرة التركية المتراجعة أمام النقد الأجنبي.
وتظهر أحدث بيانات التضخم الصادرة عن هيئة الإحصاء التركية، أن التضخم السنوي في السوق المحلية سجل حوالي 21 في المائة.
يأتي الصعود الكبير للتضخم الذي يعد الأعلى من عامين وبالتحديد منذ مايو 2019، بالتزامن مع ضعف حاد في العملة المحلية، وارتفاع كلفة الإنتاج والاستيراد، في وقت تعاني فيه البلاد من التضخم وارتفاع نسب الفقر.
ويضاف التضخم إلى مزيد من الأزمات التي يواجهها الاقتصاد المحلي والسكان، وسط ضعف في الثقة الاقتصادية وتراجع مؤشر ثقة المستهلك في البلاد، وتآكل ودائع المواطنين بسبب هبوط القيمة السوقية والشرائية للعملة المحلية.
وترتب على القيود الرامية لاحتواء جائحة كورونا في تركيا آثار ضارة على النشاط السياحي الذي يمثل مصدرا رئيسيا للدخل بالنسبة لاقتصاد البلاد.
وبحسب بيانات منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، شكلت عائدات السياحة 3.8 في المائة من إجمالي الناتج المحلي في تركيا عام 2018، كما وفرت فرص عمل لـ7.7 في المائة من قوة العمل في البلاد خلال نفس العام، وبلغت عائدات السياحة في تركيا 34.5 مليار دولار خلال عام 2019.
وكانت إيرادات السياحة في تركيا قد هبطت في عام 2020 بنسبة 65 في المائة إلى 12.059 مليار دولار، مما يسلط الضوء على أثر قيود السفر واسعة النطاق المفروضة بسبب جائحة فيروس كورونا.
ويوم الجمعة 30 أبريل 2021 أظهرت بيانات من معهد الإحصاءات التركي، أن إيرادات السياحة تراجعت 40.2 في المائة في الربع الأول من العام إلى 2.45 مليار دولار.
دعم بعشرات المليارات
لا يجب حصر عمليات محاولة تقويم سعر الليرة التركية على البنك المركزي التركي، حيث أن دولتي قطر والامارات العربية المتحدة ساهمتا وفي تواريخ متفاوتة وبأموال ضخمة في عملية اسناد الاقتصاد التركي. وحسب البيانات الرسمية من الدوحة أو الإمارات فاقت التدخلات المالية للبلدين 28 مليار دولار وتتحدث أوساط مالية في لندن عن مبلغ يصل إلى 61 مليار دولار.
خلال شهر ديسمبر 2021 وقع الرئيس أردوغان والأمير الشيخ تميم بن حمد آل ثاني 15 اتفاقية لتحسين العلاقات الاقتصادية والتكامل المالي.
وقد وافقت قطر على تمديد اتفاقية تبادل العملات مع تركيا ، والتي ضاعفت مبلغ 15 مليار دولار في الدوحة ثلاث مرات عام 2021. تهدف الاتفاقية إلى زيادة احتياطيات تركيا الأجنبية واستقرار الليرة. ولم يذكر التقرير الصادر في الدوحة زيادة حجم المساعدة المالية المباشرة.
ومع ذلك، وفي مؤتمر صحفي يوم الاثنين 6 ديسمبر 2021، قال وزير الخارجية التركي إنه ليس لديه خطط لطلب مساعدة مالية من الدوحة، مضيفًا أن الدوحة تبحث في الفرص الناشئة عن التحديات الاقتصادية لتركيا.
غير أن الحدث الأبرز في اجتماعاتهما الأخيرة هو اتفاق على شراء القطريين 10 بالمائة من أسهم بورصة اسطنبول في وقت يستمر فيه هروب الاستثمارات الأجنبية من تركيا. كما تمتنع المؤسسات المالية الدولية والدول الغربية التي اعتمدت تركيا عليها حتى وقت قريب عن تقديم قروض وتسهيلات مالية تسد الثغرة الناتجة عن هذا التراجع.
سبق صفقة البورصة صفقات أخرى عديدة خلال السنوات الأربع الماضية في مقدمتها تعهدات قطرية في صيف عام 2018 بضخ استثمارات بقيمة 15 مليار دولار من أجل مساعدة تركيا على الاستقرار المالي.
وخلال الربع الأخير من شهر نوفمبر 2021 أعلنت دولة الإمارات العربية المتحدة من جانبها تأسيس صندوق بقيمة 10 مليارات دولار لدعم الاستثمارات في تركيا.
وجاء هذا الإعلان بحسب وكالة أنباء الإمارات، يوم الأربعاء 24 نوفمبر 2021 عقب المحادثات التي جرت في أنقرة بين ولي عهد أبوظبي الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، والرئيس التركي لتعزيز دعم الاقتصاد التركي وتوثيق التعاون بين البلدين.
من جانب آخر قال مسؤول تركي يوم الأربعاء، إن تركيا والإمارات ستبرمان اتفاقات في مجالات الطاقة واستثمارات التكنولوجيا والموانئ البحرية واللوجستيات، بحسب “رويترز”.
وذكر المسؤول التركي أنه سيجري توقيع مذكرات تفاهم بين الشركة القابضة المملوكة لحكومة أبوظبي وصندوق الثروة السيادي التركي ومكتب الاستثمار التابع للرئاسة التركية وشركات تركية أخرى.
أزمة تتفاقم
كتب الخبيران الاقتصاديان سيلفا ديميرالب وشبنم كاليمالي أوزكان في بروجيكت سنديكيت يوم الخميس 7 يناير 2021:
لم يكن من المفاجئ أو المستغرب أن نشهد المحن الاقتصادية والمالية التي ألمت بتركيا أخيرا. إذ كانت فصول الأزمة الثلاثية التي تعيشها البلاد – العملة، والصناعة المصرفية، والديون السيادية – تتوالى لأعوام. ترى هل تستحث هذه الاضطرابات الاقتصادية اضطرابات سياسية؟ هذا السؤال محل مناقشة تدور على نطاق واسع الآن.
كان التضخم المرتفع الذي طال أمده وفجوة العجز المتزايدة الاتساع يطاردان الاقتصاد التركي حتى قبل اندلاع جائحة مرض فيروس كورونا كوفيد – 19، فعلى مدار عشرة أعوام، تجاوزت توقعات التضخم هدف 5 في المائة بأكثر من النصف. وكانت قيمة الليرة التركية في انخفاض مستمر مقابل الدولار منذ أواخر عام 2017، مع انخفاض بلغ 20 في المائة في أغسطس 2018. وأفضت الجهود العنيفة لتكييف السياسات خلال الجائحة، وتركيبة غير مستدامة من السياسات التي اعتمدت على النمو الائتماني المفرط، فضلا عن بيع احتياطيات النقد الأجنبي لدى البنك المركزي للتعويض عن تدفقات رأس المال إلى الخارج، إلى توليد مزيد من نقاط الضعف. وأدى هذا إلى خسارة 40 في المائة أخرى من قيمة الليرة منذ يناير.
في نوفمبر 2020، عين الرئيس رجب طيب أردوغان، وزيرا جديدا للمالية، ومحافظا جديدا للبنك المركزي. وفي أعقاب ذلك، خضع إطار السياسة النقدية في تركيا لعملية تطبيع طال انتظارها، مع ارتفاع تراكمي لسعر الفائدة بلغ 675 نقطة أساس في غضون شهرين، واستعادت الليرة 10 في المائة من قيمتها المفقودة بحلول نهاية العام.
أبقت تركيا على تعويمها لسعر الصرف منذ عام 2001، عندما اضطرتها الأزمة المصرفية وأزمة الديون السيادية وميزان المدفوعات، إلى التخلي عن ربط الليرة بسلة عملات تتألف من الدولار واليورو. وتبنت تركيا نظام استهداف التضخم، الذي بموجبه لا يجوز تعديل الأسعار التي تحددها السياسة لهندسة خفض قيمة العملة أو رفع قيمتها، أو في الاستجابة لصدمات خارجية، مثل كوفيد – 19، وأدى إلى تدفق رأس المال إلى الخارج.
تتطلع الأسواق المالية إلى المستقبل، وتعلم أن التضخم لا يمكن إدارته إلا من خلال سياسة نقدية جديرة بالثقة. لماذا إذن لم تضع الأسواق انخفاض قيمة الليرة الحاد في الحسبان قبل ذلك بمدة طويلة؟. تكمن الإجابة في أهمية تداعيات السياسة النقدية الأمريكية على الأسواق الناشئة. كانت السيولة العالمية بالدولار التي أوجدتها أسعار الفائدة المنخفضة في الولايات المتحدة تعني ضمنا سهولة وصول مصارف الأسواق الناشئة إلى العملات الأجنبية، بما في ذلك بتكاليف إقراض منخفضة.
بوضع هذه الحقيقة في الحسبان، يتبين لنا أن أزمة تركيا التي تتفاقم ببطء يمكن تقسيمها إلى ثلاث مراحل. خلال مرحلة ما قبل كوفيد – 19، كانت قيمة الليرة تنخفض ببطء بسبب عدم معالجة المشكلات البنيوية التي أحدثت هذا الانخفاض، ولم يكن استهداف التضخم أولوية عالية. فبفضل قدرة المصارف التركية على الاقتراض بسهولة في الأسواق الدولية، استبعد احتمال انخفاض أكثر حدة في قيمة العملة.
بدأت المرحلة الثانية من الأزمة عندما اندلعت الأزمة في مارس 2020. في مستهل الأمر، استجابت تركيا – مثلها في ذلك كمثل دول أخرى – بالتيسير النقدي والمالي. لكن السياسة النقدية التوسعية سرعان ما بلغت حدودها القصوى. وتسبب انخفاض أسعار الفائدة إلى ما دون معدل التضخم الذي ارتفع إلى خانة العشرات في الدولرة – التحول إلى الدولار، وأدى العزوف المحلي والأجنبي عن شراء الأصول المقومة بالليرة التركية إلى انخفاض أكثر حدة في قيمة العملة، وهو ما حاولت تركيا كبحه ببيع ما يقرب من 130 مليار دولار من احتياطيات العملة الأجنبية، لكن المحاولة باءت بالفشل.
لكن حتى لو كان البنك المركزي في تركيا يحتفظ بقدر أكبر من احتياطيات العملة الأجنبية لدعم الليرة، فما كانت النتيجة لتختلف. في نهاية المطاف، كانت العملة لتخضع حتما إلى تصحيح حاد بمجرد تسعير الأسواق المالية للمخاطر في تركيا، إضافة إلى مخاطر العملة. فالدولة التي تنفذ احتياطياتها من العملات الأجنبية تستطيع، من حيث المبدأ، الاقتراض في الأسواق الدولية ومواصلة التدخل لإدارة تقلبات عملتها. في حقيقة الأمر، في أوقات عدم اليقين العالمي المتزايد، يكون الاقتراض بالعملات الأجنبية أرخص من الاقتراض بالعملة المحلية…
تزايد مخاطر الدولة
تركيا لم تستفد بالضرورة من انخفاض تكاليف الإقراض. فمع تزايد مخاطر الدولة وتدهور ميزانيات المصارف العمومية، أصبح الاقتراض بالعملات الأجنبية في الخارج أصعب. فمع بيع الاحتياطيات من النقد الأجنبي من خلال المصارف لترويض انخفاض القيمة، وزيادة الأسر لودائعها بالعملات الأجنبية في الاستجابة لارتفاع التضخم، سرعان ما تنامى عدم تطابق العملات الأجنبية على ميزانيات المصارف العمومية. واكتسب التحول إلى الدولار مزيدا من الثقل مع استمرار الجائحة، مع تسارع ودائع السكان المحليين بالعملات الأجنبية خصوصا في أوائل أغسطس 2020، ما أدى بالتالي إلى زيادة التزامات المصارف بالعملات الأجنبية تجاه الأسر المحلية.
للحد من عدم تطابق العملات الأجنبية، يتعين على مصارف الدولة إما أن تزيد قروضها بالعملات الأجنبية للشركات، وبالتالي تثبيت استقرار جانب الأصول، وإما أن تعمل على تقليص اقتراضها بالعملات الأجنبية من كل من الأسر المحلية والدائنين في الخارج – تثبيت استقرار جانب الالتزامات. لا تستطيع المصارف خفض ديونها الخارجية بالعملات الأجنبية على الفور، لأنها تحتاج إلى سداد أو ترحيل الالتزامات الضخمة القائمة. ورغم أن القروض بالعملات الأجنبية أرخص، فإن الشركات التركية تخشى أن تضطر إلى النضال من أجل توليد القدر الكافي من العائدات بالعملة الأجنبية لسدادها. وبالتالي، سيكون من الصعب على المصارف أن تعمل على تحسين مركزها فيما يتعلق بالعملات الأجنبية مع الاستمرار في بيع الاحتياطيات لدعم الليرة.
كان هذا الخليط من السياسات غير المستدامة سببا في زيادة مخاطر الدولة التركية، كما يتضح من ارتفاع فوارق أسعار مقايضة التخلف عن سداد الائتمان. لا تستطيع المصارف إيجاد التوازن بين أسعار الصرف وأسعار الفائدة في دولة، حيث لا تخضع تدفقات رأس المال لأي ضوابط، حيث تتأثر شروط تمويل المصارف ليس فقط بالبيئة المالية العالمية بل أيضا بمخاطر الدولة. واستخدام المصارف لتحقيق هذا الغرض، بدلا من تنفيذ سياسات مالية ونقدية جديرة بالثقة، يدمر التوازنات الاقتصادية على المستويين الداخلي والخارجي.
الآن، تمر الأزمة التركية بمرحلة ثالثة، حيث بدأ صناع السياسات في تطبيع السياسة النقدية من خلال زيادة أسعار الفائدة. رفع البنك المركزي في تركيا سعر الفائدة القياسي بمقدار نقطتين مئويتين في سبتمبر 2020. لكن المصرف لم يكمل دورة تشديد السياسة بزيادة أخرى لسعر الفائدة في أكتوبر 2020، بل قام بدلا من ذلك برفع أسعار الفائدة ضمنيا من خلال عمليات السيولة. وأدى هذا إلى تعزيز الرأي القائل: إن صانعي السياسات غير راغبين في أو غير قادرين على معالجة التحديات الأكثر إلحاحا التي تواجههم. وأفضت استجابة السوق المناوئة، مقترنة بعدم كفاية احتياطيات البنك المركزي لمعادلة الضغط، إلى إشعال شرارة الأحداث التي أدت إلى استبدال الفريق الاقتصادي.
أصر محافظ البنك المركزي التركي الجديد ووزير المالية على أن استهداف التضخم سيكون له الأولوية في تركيا. ومع ذلك، ستتأثر السياسة النقدية في البلاد في نهاية المطاف بسياسة أردوغان، الذي يرى مرارا وتكرارا عن اعتقاده وزعمه، بل إصراره بأن أسعار الفائدة المرتفعة تسبب التضخم. ترى ماذا سيحدث بمجرد استقرار الأسواق المالية؟ هل يبقي البنك المركزي التركي على موقفه الأكثر تشددا، بما يتوافق مع استهداف التضخم التقليدي، أو أنه سينظر في خفض أسعار الفائدة في محاولة لخفض التضخم، بما يتفق مع اقتراحات أردوغان؟.
الواقع: إن المستثمرين يراقبون. إذا أثبت موقف تركيا السياسي الأكثر تشددا وتخبطا كونه محاولة لمرة واحدة لتثبيت استقرار سعر الصرف، وخفضت الدولة أسعار الفائدة في الأشهر المقبلة في محاولة لخفض معدل التضخم المتسارع في الزيادة، فستستمر أزمتها التي تتفاقم ببطء بلا أدنى شك.
خيارات المدخرين الأتراك
هل تنجح سياسة الرئيس أردوغان المالية ؟ سؤال يطرحه الكثيرون.
وكالة “بلومبيرغ” تنقل عن لوتز روماير، كبير مسؤولي الاستثمار في مجموعة “كابيتولوم أسيت مانجمنت” ومقرها برلين، قوله عن خطة الرئيس التركي لتشجيع هجر الأتراك الدولار والتحول إلى الليرة، “ببساطة، تلك خطة غير قابلة للصمود… هي تحد جزئي من هروب رؤوس الأموال لدى المدخرين الأتراك فحسب. وسيظل هناك من لا يثقون بتلك البرامج ويفضلون الاحتفاظ بالدولار الأمريكي بدلا من الليرة”.
أما المحللون في قطاع أوراق الدين، فيرون أن تلك الخطوة ليست سوى إجراء بسيط متأخر جدا، كما يذكر تقرير “بلومبيرغ”. وبالفعل، خسر المستثمرون في الدين التركي خلال عام 2021 ما نسبته 7.8 في المائة، مقارنة بمتوسط خسارة في بقية الأسواق الصاعدة حول العالم عند نسبة 2.9 في المائة. ويعد هذا أسوأ أداء لسوق الدين التركي منذ عام 2013، بحسب مؤشر “بلومبيرغ” للديون السيادية.
وانعكس ذلك بوضوح على أداء البورصة التركية بشكل عام، التي فقدت خلال الأسبوع الثالث من ديسمبر 2021 وحده نسبة 21 في المائة، في أسوأ أداء لها منذ يوليو 2001.
وحذر محللون من أن برامج الادخار الجديدة التي أعلن عنها الرئيس أردوغان لتحفيز دعم المواطنين العملة الوطنية، تشكل مخاطر عالية ستؤدي إلى ارتفاع معدلات التضخم. ويتوقع أن يصل معدل التضخم إلى نسبة 30 في المائة، بينما هو حاليا، بحسب الأرقام الرسمية لشهر نوفمبر، عند 21 في المائة. ومن شأن ارتفاع معدلات التضخم أن تأكل من قيمة الأصول الأجنبية لتركيا.
وكانت مؤسسة “فيتش” للتصنيف الائتماني قد خفضت مطلع ديسمبر 2021 توقعاتها لتصنيف الدين السيادي التركي إلى “سلبية”، محذرة من أن استمرار تدخل البنك المركزي لدعم سعر صرف الليرة “يهدد بالإضرار أكثر في الاحتياطيات الدولية للبنك المركزي المتدهورة أصلاً”.
الادخار بالليرة
من غير الواضح إن كان ما أعلنه أردوغان سيحقق ما هو متوقع من دعم المواطنين الأتراك للعملة الوطنية أو لا. وتنقسم الخطة المعلنة إلى شقين: الأول وعد بحماية المدخرات بربطها بسعر الصرف على أن تعوض الخزانة التركية المودعين إذا زاد معدل الهبوط في سعر صرف الليرة عن سعر الفائدة على حساب الادخار. والشق الثاني، المدعوم من البنك المركزي، فيعرض حوافز مماثلة للمواطنين الذين يحولون مدخراتهم بالعملات الأجنبية إلى مدخرات بالليرة.
ونقلت “فاينانشال تايمز” عن مدير التصنيف السيادي في مؤسسة “ستاندرد أند بورز” ماكسيم ريبنيكوف، قوله “ليست هذه بالإجراءات المعتادة التي يمكن أن تجدها في أي بلد يعمل على استقرار عملته الوطنية… فمع دعم وتمويل الدولة “الخزانة العامة” والبنك المركزي للبرامج، واستنادا إلى تطورات سوق أسعار الصرف، يمكن أن تكون التكلفة باهظة”.
المشكلة الأساسية هي عدم ثقة المواطنين الأتراك التقليدية بالادخار المصرفي بشكل عام، وإن ادخروا فيكون بالعملات الأجنبية كالدولار واليورو. وبحسب ما نقلت وسائل إعلام تركية عن مسؤولين في الحكومة، فإن هناك مليارات الدولارات من ادخار الأُسر لا تدخل النظام المصرفي، إنما يحتفظ بها الأتراك في بيوتهم، ومعظمها عبارة عن ذهب.
وبحسب أرقام القطاع المصرفي التركي الرسمية، فإن أكثر من 60 في المائة من مدخرات الأتراك فيه هي بالعملات الأجنبية. وتتطلب استفادة المودعين من البرامج التي أعلنتها الحكومة لدعم الليرة أن تظل المدخرات لمدة لا تقل عن ثلاثة أشهر. وفي تلك الحالة، لا يتوقع أن يغير كثيرون من حسابات ادخارهم لأن معظم المودعين يفضلون خيار إمكانية السحب من حساباتهم في أي وقت.
وبحسب بيانات القطاع المصرفي الرسمية، فإن نسبة 35 في المائة من الادخار في البنوك هي في حسابات لا تزيد على شهر. ويبلغ حجم الادخار بالعملة الوطنية في القطاع المصرفي نحو 98 مليار دولار (1.1 تريليون ليرة).
وتنقل “فاينانشال تايمز” عن أحد المصرفيين الأتراك سؤاله “لماذا نغامر بالتحول إلى دولار أردوغان، طالما يمكننا التمسك بدولار حقيقي؟”. وتلك هي الحالة السائدة بين المواطنين، حتى الغالبية من مؤيدي حزب أردوغان الحاكم، العدالة والتنمية.
حرب غربية
في الأوساط المناصرة لحزب العدالة والتنمية يكثر الحديث عن المؤامرة ضد أردوغان، ويؤكدون أن ما يحدث هو ببساطة حرب بين “النظام المالي الغربي” القائم على الفائدة المصرفية في تسعير النقود، وبين توجهات أردوغان نحو “استقلالية الاقتصاد التركي وخفض سعر الفائدة”.
ولكن الخلاف بين أردوغان والغرب ربما يتجاوز الليرة إلى ملفات استراتيجية عديدة. في هذا الشأن، يرى الخبير البريطاني والزميل بمعهد “العلاقات الخارجية” الأمريكي للدراسات ستيفن أيه كوكس أن سياسات أردوغان تتناقض مع واشنطن على صعيد الحريات العامة مثل حرية الصحافة وحقوق المنظمات المدنية والأقليات العرقية، كما تتناقض كذلك مع مبادئ عضوية حلف شمال الأطلسي.
وحتى وقت قريب كان التعامل بين واشنطن وأنقرة يتم عبر سياسة “تخادم المصالح” التي تفيد القوى الغربية في تنفيذ استراتيجيات “الهيمنة العالمية”، إذ إن تركيا بلد ضخم وذات موقع جغرافي استراتيجي لواشنطن، إذ تقع في موقع وسيط بين أوروبا وآسيا والمنطقة العربية الغنية بموارد النفط والغاز الطبيعي، وإطلالتها على البحر الأبيض المتوسط والبحر الأسود ومضيق البوسفور، المدخل الرئيسي للأسطول الروسي لمنطقة الشرق الأوسط.
وبالتالي فإن هذا الموقع جعلها مهمة في سنوات “الحرب الباردة” مع الاتحاد السوفييتي. كما تبدو واشنطن غير راضية عن تدخل أنقرة في شمال سوريا ضد الأكراد فقط ولكنها تؤيدها في عدائها لحكومة دمشق، كما أن واشنطن معارضة لصفقة شراء نظم الصواريخ “أس ـ 400” الروسية والتقارب بين تركيا وموسكو في بعض الملفات.
في هذا الشأن، يرى الخبير في معهد “كارنيغي يورب” للدراسات الاستراتيجية مارك بيريني أن “تركيا تحولت كثيراً من موقعها كركيزة أساسية يعتمد عليها حلف شمال الأطلسي خلال الحرب الباردة إلى قوة مزعجة لاستراتيجيات الدول الغربية خلال السنوات الأخيرة”.
ويقول الزميل بالمعهد، بيريني، في تحليله، إن الغرب يشعر بالانزعاج من التدخل العسكري التركي في النزاعات، وتزايد نفوذ أنقرة الخارجي وتزكية الأهداف الوطنية، وبالتالي يرى بيريني المتخصص في شؤون أوروبا والشرق الأوسط، أن تركيا ستدفع ثمن هذا الانزعاج سلبا في علاقاتها مع الحلفاء الغربيين وحلف شمال الأطلسي الدفاعي “ناتو” في المستقبل، كما يرى أن أنقرة ستتعرض لضغوط اقتصادية ومالية.
ويرى محللون غربيون أن أردوغان يحدث تطورا نوعيا في إستراتيجية تركيا الاقتصادية والمالية والدفاعية والنقدية قد تهدد المصالح الغربية. ويستهدف أردوغان بناء نظام اقتصادي يخدم أهداف التوظيف والاستثمار والإنتاج “غير ربوي” في تركيا، وبالتالي مغاير لـ”النظام المالي العالمي” الذي تقوده الولايات المتحدة عبر المؤسسات المالية الدولية المشتركة والمصارف التجارية.
وتعمل المؤسسات المالية الغربية داخل وخارج تركيا على إفشال هذا النهج، وتتخوف من احتمال تمدده في المنطقة العربية، وربما خروجها من دائرة النفوذ الغربي، خاصة أن تركيا بدأت في الانفتاح نحو الإمارات والسعودية ومصر.
وحتى الآن يظهر الصراع من الجانب الغربي في آلية المضاربة على الليرة التي تعاني من أسوأ انهيار في تاريخها القريب، وتعد العملات دائماً من الأهداف السهلة في الحروب الاقتصادية، خاصة عندما تكون الدولة تعاني من ضعف مالي، ولديها ديون دولارية قصيرة الأجل كبيرة وبحاجة لتسديدها ومعدل تضخم عال، وتواجه نقصا في مداخيل العملة الصعبة، مثل ما هو الحال في تركيا.
وبينما يسعى الرئيس التركي للتخلص من “دولرة الاقتصاد” عبر خفض الفائدة المصرفية، يرى محللون بصحيفة “وول ستريت جورنال” أن البنوك الاستثمارية الغربية ترد على هذه الاستقلالية، عبر تضييق الخناق على الشركات التركية بتفادي شراء الأسهم والسندات المقومة بالعملة التركية، كما رفعت شركات التصنيف الائتماني من كلف الاستدانة بالليرة. وهذه سياسة فعالة في تجفيف منابع التمويل بالدولار واليورو.
في المقابل، يراهن أردوغان على مداخيل السياحة والصادرات التركية والاستثمارات المباشرة لدعم الدخل من العملات الصعبة.
لكن من جانبها تراهن المصارف الغربية على استهلاك الرصيد الأجنبي من العملات الأجنبية، وعجز تركيا عن تسديد أقساط ديونها بالعملات الصعبة، أو حدوث سلسلة من الإفلاسات لبعض الشركات في البلاد.
وينتقد خبراء سياسة أردوغان النقدية، ويرون أن الدفاع عن الليرة التركية عبر ضخ دولارات البنك المركزي لن تكون مفيدة، وربما سترفع فقط من مضاربات المصارف الغربية وأذرعها في داخل تركيا.
في هذا الشأن، يقول البروفسور بجامعة كوك بإسطنبول سيلفا ديمرلاب: “لا أدري كيف سيكون تدخل البنك المركزي مفيداً في السوق وسط سياسة خفض الفائدة”، فيما يرى مدير صندوق “آي جي أم” الأمريكي بول مكنمارا، في تصريحات لصحيفة “وول ستريت جورنال”، أنه “سبق أن تدخلت دول نامية واقتصادات ناشئة في السوق للدفاع عن عملتها ولم تنجح، ولا أدري كيف ستنجح تركيا”.
وينفي مقربون من السلطات النقدية التركية مثل هذه الاحتمالات الغربية، خاصة مع تدفق النقد الأجنبي على البلاد، فقيمة الصادرات وحدها تتجاوز 200 مليار دولار عام 2021، وصادرات تركيا بلغت أكثر من 21.5 مليار دولار في شهر نوفمبر وحده، وفق وزير التجارة التركي محمد موش.