الابتلاء
حقيقته وحكمته
ـ
"ولنبلونكم بشئ من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم وأولئك هم المهتدون".
القرآن الكريم منهاج أمة وأسلوب حياة :
القرآن يعالج نفوس هؤلاء البشر حين تكون النفوس قابلة للعلاج، ولكن بعض البشر حين يكونون وسائل للتدمير وللتخريب، وأسباب وأساليب للبلبة والاضطراب، فإنه لا يتأتى منهم الإصلاح ولا يؤثر فيهم العلاج.
وهذا واقع مشاهد ملموس في أمتي الدعوة والإجابة جميعا.
ففي أمة الإجابة نجد نفوسا مؤهلة للإصلاح والصلاح يتعاملون مع القرآن ويتعامل القرآن معهم في تفاعل مستمر غير منقطع.
أما أمة الدعوة فالكثرة الغالبة منهم قد ران على قلوبهم وفي آذانهم وقر، وفي عيونهم عمى، لا ينتفعون بالقرآن، ولا يتفاعلون معه، وصدق الله حيث يقول: "وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين، ولا يزيد الظالمين إلا خسارا".
والأمم قبل الإسلام كانوا على نفس النمط فريق يتفاعل مع الرسالة والرسل، وآخر يجافي الرسل والرسالات.
وفيما قبل أمة الإسلام كانت العناية الإلهية تتعامل مع الفريقين على ما يناسب كلا منهما.
ابتلاء الله للمؤمنين رحمة بهم :
فالمؤمنين يبتليهم الله عز وجل بالخير والشر، وبالشدة والرخاء، وبالهدوء والاضطراب حتى يميز الخبيث من الطيب، ويبقى للمؤمن صفاؤه ونقاؤه، ويظهر على جبين التاريخ جوهره الصافي بغير شوائب.
ولله المثل الأعلى فكما يفعل الصائغ بالجواهر النفيسة يعرضها على النار يخلصها من شوائبها كذلك المؤمن يعرضه الله عز وجل للمغريات من الحياة تارة وللشدائد من الموقف أخرى ثم يطالبه في كلتا الحالتين بأن ينتهج له خطا ثابتا لا يجذبه الهوى، ولا تضعفه الشدة وهذا هو ما يعرف في اصطلاح الشرع وأسلوب الرسالات باسم الابتلاء.
غير أن الابتلاء لا يصل في أي مرحلة من مراحله إلى حد التدمير الشامل الذي يستغرق أمة بأكملها، أو يستأصل مجتمعا بأسره، ذلك أن الابتلاء أسلوب علاج بالدرجة الأولى، أنه علاج للفرد من أمراض النفس والهوى ومخاطر الضلال والإضلال، وهو علاج للمجتمع حين يميز الضعفاء من أبنائه الذين يعبدون الله على حرف، فإن أصابهم خير اطمأنوا به، وإن أصابتهم فتنة انقلبوا على أعقابهم، وهؤلاء قد خسروا الدنيا والآخرة وذلك هو الضلال البعيد، أنهم أولئك النفعيون الذين جردتهم النفعية من الولاء الديني
* * *
ميزان الاعتدال في الأسرة المسلمة
ـ
إن أي ظاهرة اجتماعية لابد لها من قانون ينظمها أو نظام مقنن يضبطها حتى لا تتيه في بيداء الانحرافات أو تزل في مجالات الغواية والضلال.
والأسرة نظام اجتماعي بجميع المقاييس بل إنها نواة المجتمع يصلح المجتمع بصلاحها ويفسد حين تفسد، فهي لبنته الأولى ونظامه الأولي الذي يتركب نظام المجتمع الكلي في غاية تعقيدي.
والإسلام بنظر إلى الأسرة أولاً باعتبارها نظام لابد من الحفاظ عليه مستقيما بغير اعوجاج ولا ينظر إليه بادئ ذي بدء باعتباره كلاً في بناء، ذلك أن النظرة المثلى إنما تتوجه أولاً لمواد البناء الأولى فتفحص كل مادة على حدة وتعيد النظر في مواصفاتها ومدى انطباق هذه المواصفات على القانون العام الذي تقاس إليه الأمور حين يقدر لها أن تتحقق في الواقع المحسوس.
من هنا كانت نظرة الإسلام للأسرة كنظام باعتبارها وحدة منفردة يجب توجيه الاهتمام إليها بشكل يتراءى للناظر بادي الرأى وكأن الأسرة هي محور اهتمام الإسلام دون سواها من سائر الأنظمة أو غيرها من الظواهر التي تستوجب الاهتمام بها .
تلك خاصية الإسلام وعظمته قد لا تتوفر في غيره من الأنظمة الوضعية حين تريد أن تدرس اهتمامه بظاهرة معينة وأنت تظن أنه من فرط اهتمامه بها كأنه قد وجه جُل اهتمامه إليها وصرف النظر عما سواها.
والأسرة في تركيبها الاجتماعي زوج وزوجة، وأولاد، ويتعلق بالأسرة عدة مباحث نبدأها بهذا المبحث الذي يمكن أن نسميه بـ "ميزان الاعتدال في الأسرة".غاضين الطرف مؤقتا عما سواه من المباحث.
فالسلامة غاية السلامة لكل باحث أن يحصر حديثه في نقطة بعينها حتى يستوفيها بحثاً.
وميزان الاعتدال في الأسرة المسلمة حين يتضح تُحل على أساسه كثير من المباحث التي تتصل بالنصوص والتي ساء الكثيرون بحثها في معظم الأحيان.
ولكي نفهم ميزان الاعتدال في الأسرة لابد أن نتخيله خطاً وهمياً بارزاً كما نتخيل خطوط الطول والعرض خطوطاً بارزة نحدد على أساسها الأماكن والأنحاء.
فلنفترض هذا الخط ـ خط الاعتدال ـ في الأسرة خطاً وهمياً نبرزه لكي نحدد عليه مدى الإصابة وحجم الشطط والانحراف وحد الاعتدال الذي نتصوره خطاً وهميا يمكن أن يتجاوزه الزوج وتستطيع الزوجة كذلك أن تتجاوزه ـ كما أن الأبناء في الأسرة يستطيعون كذلك أن يتجاوزوه.
وهذه التجاوزات على تعددها واختلافها قد حدد الإسلام موقفه من كل منها على حدة وأعطاها من الاهتمام قدراً كافيا لو لم نتمثل خط الاعتدال أمامنا ونحن نقرأ توجيهات الإسلام لفهمنا النصوص الشرعية على غير ما يريد الله عز وجل.
فالزوج بما له من استعداد خاص وقدرة معينة وهبها الله له لكي تناسب مكانته ووظيفته في الأسرة وما له من خبرة وبصر بالأمور وبماله من ميزة اجتماعية ليست للنساء أسند الله إليه قيادة الأسرة وتوجيهها مثلها مثل أي نظام يحتاج إلى قيادة وإلى توجيه.
هذا الرجل وهذه صفته وقد يتأتى من هذا الرجل اعتداء وتجاوزات تخرج به من خط الاعتدال المرسوم في الأسرة ولا يجد الرجل له رادعاً يردعه أو كابحاً يكبح جماحه حينئذ يجد أن في مكنته أن يحجب عن الأسرة نفقتها أو يمسك عنها عواطفه أو يتصرف فيها بصنوف الإيذاء وألوان الجرح وأضرب الإهانات وكل هذه الأشياء يستطيع الرجل أن يفعلها فهو يستطيع أن يحجب النفقة، وهو يستطيع أن يحجب عواطفه، وهو يستطيع أن ينال الأسرة بالأذى.
وكان لابد من تدخل تشريعي يرسم أمام الرجل المثل الأعلى في الأسرة ثم يوقفه عند الحد الأدنى من التصرفات ويلزمه بها إذ لا شئ بعده إلا التعدي والخروج عن حد الاعتدال.
فهو يرسم له المثل الأعلى في نحو قول الحق "ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون" الروم :
وهناك آيات كثيرة وأحاديث ترسم المثل العليا لما يجب أن يكون عليه الزوج مع زوجه وهذه الآيات والأحاديث على يد النبي صلى الله عليه وسلم إلى واقع عملي ملموس وتحولها على يد النبي واقعا عمليا ملموساً في أعلى صور المثالية لضرورة تشريعية يحتاجها التشريع ولا يستطيع الاستغناء عنها. إذ لو بقيت النصوص توجيهات نظرية ولم تتحول على يد النبي صل الله عليه وسلم إلى واقع عملي محسوس لكان المبدأ النظري قابلاً لطعن الطاعنين ولجاجة المجادلين.
فتحول المبادئ إلى واقع تاريخي على يد النبي ضرورة تشريعية لا يستغني عنها التشريع حين يستطيع أن يتخفف من أشياء كثيرة غيرها.
غير أن الرجال ليسوا على درجة واحدة في العطاء وليسوا على درجة واحدة في الالتزام بالمبادئ وليسوا على درجة واحدة في مراعاة الشعور والأخلاق.
ومن أجل هذا وجدنا الإسلام يرسم الحد الأدنى للعلاقة الزوجية التي يجب على الرجال أن يراعوها ويشدد النكير على من يتجاوز هذا الحد الأدنى ويسير في طريق الاعتداء إلى غايته أو حتى يقف على بدايات هذا الطريق.
والذي يتجاوز حدوده يجد له في القرآن والسنة تشريعاً رادعاً يلزم القاضي بتنفيذه ويلزم من تقع منه التجاوزات بالوقوف عند حدوده.
ويتضح من هذا أن الشريعة الإسلامية تتحدث عن معاملة الرجل في بيته حديثين يتكاملان فيما بينهما فيصوران الإنسان في أكمل صورة يرضاها المشرع منه أحدهما: يصور الحد الأدنى الذي يتدخل القاضي الشرعي لتنفيذه وحمل الزوج عليه وهذا لا يكون إلا في ظروف طارئة يحتاج البيت فيها إلى تدخل الغير للحفاظ على المعاملة فيه من الانهيار.
وثانيهما: يصور كمال المعاملة قدر استطاعة الإنسان البشري وحسبما يطيقه وسعه وهذا جانب أخلاقي متسامي يستطيع الإنسان أن يرقى فيه وكلما ترقى وجد له فيه مجالاً للترقي، فطريق السمو لا نهاية له وللإنسان أن يضع نفسه على درجة الكمال على المكانة التي يختارها لنفسه.
وسوف نختار من الشريعة أمثلة للنصوص التي تصور لنا كلاً من النوعين وسيتضح من لفظها أن النوع الثاني هو الذي يحكم الحياة الزوجية في ظروفها المعتادة.
والقمة السامقة في هذا السلم يصورها هذا الحديث الذي تعددت رواياته عن رسول الله صل الله عليه وسلم أخرج ابن ماجه عن ابن عمرو مرفوعا، وكذا للترمذي عن عائشة مرفوعاً وكذا ابن ماجه عن ابن عباس رضى الله عنهما: " خيارُ خيارُكم لنسائهم".
وأخرجه الطبراني عن معاوية بلفظ "خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي". وزاد ابن عساكر في رواية هذا الحديث عن معاوية على ما تقدم: "ما أكرم النساء إلا كريم ولا أهانهن إلا لئم".
وفي رواية البيهقي تعميم وهي إلى أبي هريرة: "خيركم خيركم لنسائه وبناته".
وتعدد روايات الحديث على هذا النحو تؤكد إهتمام الشارع بنوع هذه العلاقة ومستواها فهو يضع الرجل رب البيت أمام مسؤلياته الأخلاقية ويرسم له القدوة والمثال الذي يحتاجه كل بناء أخلاقي فلا تستقيم الأخلاق بالنظريات وحدها وإننا نحتاج النظريات بأن تتحول إلى واقع تاريخي يظهر أمامنا في كسوة مثال، وفي نموذج كامل يترائى للعيان قمة سامقة يحاكيها كل من يريد المحاكاة ويتأملها كل من كانت له بصيرة وقدره على التأمل "خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي".
وهذا النموذج الأخلاقي الكامل يمكن أن نفهم في إطاره كل نص من نصوص الشريعة يتحدث عن جانب خاص من الجوانب التفصيلية التي تندرج تحت هذا النموذج العام.
ففي مجال الشعور لا يجوز للرجل أن يعتدي على مشاعر المرأة ولا يجوز له أن ينتقص منها وتلك نظرة حكيمة في الإسلام، إذ إن الاعتداء على المشاعر أو الإنتقاص منها يترتب عليه إنفعال عند المرأة يزيد أو ينقص بحسب درجة الإهانة الموجهة إليها وقد تضطر إلى كبت مشاعرها لاعتبارات كثيرة في معظم الأحيان فإذا كرر الرجل امتهانه من المرأة أو النيل من شعورها تكرر الإنفعال وبتكرار الإنفعال يستقر في وجدان المرأة عاطفة الكراهية للرجل ولا تستطيع أن تقوم بمهمتها الأساسية تجاهه التي هي السكن والمودة والرحمة.
ومن هنا يحمل الإسلام الرجل بواجب الأخلاق أن يترفع فوق جرح المشاعر وامتهان الشعور والإسلام في هذا المجال لا يكلف الرجل أكثر من طاقته فقضية احترام المشاعر كما يفهمها العقلاء لا تتعلق بالماديات إلا تعلقاً ضعيفاً هو تعلق السلوك نفسه مع المادة مهما كان خطر المادة أو تأثيرها الفعلي.
فيكفي الرجل على سبيل المثال أن يطعم زوجته إذا طعم ولا يرفع نفسه عليها متميزاً مهما كان نوع الطعام وكمه.
ويكفي الرجل أيضاً أن يقدر من المرأة سلوكها كما يكفيه أن يستحسن منها ما يرى كلما رآها أو رأى سلوكا منها تبتغي من ورائه رضاه.
أخرج النسائي وابن ماجه وأبو داود واللفظ له عبد الحكيم بن معاوية القشيري عن أبيه قال: " قلت: يا رسول الله ما حق زوجة أحدنا عليه؟ قال: أن تطعمها إذا طعمت وتكسوها إذا اكتسيت أو اكسبت ولا تضرب الوجه ولا تقبح ولا تهجر إلا في البيت".
وعن سعيد بن حكيم عن أبيه عن جده القشيري قال: أتيت رسول الله صل الله عليه وسلم قال: فقال : ما تقول في نسائنا ؟ قال: أطعموهن مما تأكلون واكسوهن مما تكتسون ولا تضربوهن ولا تقبحوهن " .
وقد يتوهم واهم أن الواجب على الرجل وجوباً أخلاقياً أو اجتماعياً لا يكون له فيه أجر عند ا لله في الدنيا ولا في الآخرة وقد يدفع هذا الوهم بأصحابه أن يقصروا فيما يجب عليهم طمعاً فيما عند ا لله عز وجل وتعلقاً بثواب يدخلوهم في الدار الآخرة.
ويدفع الشرع هذا الوهم ليؤكد أن أداء هذا الواجب لا يقل في ثوابه عن صدقه يتصدق بها الرجل يبتغي وجه الله.
فوردت الأحاديث الصحيحة تؤكد أن ما يقوم الرجل به من احترام مشاعر زوجته والقيام على رعايتها لا يفوت له أجراً عند ربه وزيادة في إقناع الرجال عبرت الأحاديث بلفظ الصدقة ليطمئنوا على ثوابهم لا ليقول: إن المرأة عند زوجها موضع ا لصدقات وإنما ليؤكد أن ثواب احترام المشاعر في العلاقات الزوجية لا يقل عما يطمعون من الثواب المترتب على الصدقات.
أخرج البخاري من حديث طويل إلى سعد بن أبي وقاص في مرض ظن أنه مرض موته: " .... وإنك مهما أنفقت من نفقة فإنها صدقة حتى اللقمة التي ترفعها إلى في امرأتك ... " . البخاري في كتاب الوصايا باب أن يترك ورثته أغنياء ، خير من أن يتركهم عالة على الناس 5/363 سلفية.
تلك نماذج مما يستعصي حصره اجتزأناها لنصور المستوى الرفيع الذي ينبغي أن تكون عليه العلاقات الزوجية حتى تؤدي وظيفتها المنوطة بها وجميع هذه النصوص تصور بعض ما يتـ به الشارع إلى الرجل ليحافظ على خط الاعتدال بل يسمو فوقه بأخلاقه إلى الحد الذي يبعده عنه كنيـ فلا يحتاج إلى التحذير من تجاوزه.
غير أن بعض الرجال قد لا يلتزم بهذا المستوى الأخلاقي بل يختار لنفسه درجة من درجاته تبعد قليلا أو كثيراً عن ذروة سنامه، والقضاء الشرعي لا علاقة له به ما دام لم يتجاوز حد الاعتدال ولكن القضاء يتدخل إذا حاول الرجل بتصرفه أن يتجاوز حد الاعتدال المرسوم للحافظ على توازن الأسرة.
ولنضرب لذلك مثالاً أو أمثلة تغنينا بوضوحها عن استقصاء كل مثال في الشريعة.
إن الرجل قد يصل باعتدائه أحياناً إلى الحد الذي يدفعه إلى الإيلاء من زوجته ويصمم على هجران بيته وفراشه وهذا التصرف منه عدوان وظلم ومن حق المرأة بما لها من شخصية حقوقية مستقلة أقرت لها الشريعة بها أن ترفع إلى القضاء أمره ويتدخل القاضي لحسم الموقف في إطار نص لا يقبل منه اجتهاداً وهذا النص يبقى على كرامة الرجل نوعاً من الإبقاء ويرد للمرأة حقها بحسم لا تردد فيه فهو يحفظ على كيانه أملاً من ت حقق الحياة الزوجية فلا يسلبه إرادته كل السلب ولا يطلقها لتعمل في السوء كل الإطلاق إنما يوازن بين الأمور ليرد الحق إلى مستحقه ويكبح ظلم الظالم وهو مفتوح العينين والقلب أملاً في استغلال الحياة الزوجية إذ كان هناك طريق للاستمرار "للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فآءوا فإن الله غفور رحيم، وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم " . ( البقرة : 226 ، 227).
وكما يتدخل القضاء هنا يتدخل القضاء كذلك حين يمتنع الرجل عن الإنفاق وحين يمتنع عن الإسكان وحين يمتنع عن الكسوة ... الخ.
فكل هذه أمور يكون الرجل معتديا بها. ..... أما التعديات الأخلاقية التي لا يستطيع القضاء إثباتها فإن الله عز وجل يحاسب عليها، , والنقطة الهامة التي نريد أن نلحظها هنا في هذا المجال هي أن النبي صلى الله عليه وسلم يلفت نظر الرجال باعتبار أنهم المسؤلون عن قيادة الأسرة إلى المعيار الهام الذي يقيسوم إليه إنهم يتعاملون مع بشر يخطئ ويصيب ولا يتعاملون مع ملائكة كرام فطرهم الله على الخير و فعلى الرجل أن يتوقع منها الخطأ كما يتوقع منها الصواب وأن يقيم سلوكها على هذا الأساس . أخرج البخاري بالسند إلى أبي هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صل الله عليه وسلم " استوصوا بالنساء ، فإن المرأة خلقت من ضلع، وإن أعوج شئ في الضلع أعلاه فإن ذهبت تقيمه كسرته وإن تركته لم يزل أعوج فاستوصوا بالنساء خيرا" . وهذا الحديث في مواضع كثيرة من جامع البخاري.
وأخرجه مسلم من أكثر من طريق إلى أبي هريرة وفي بعضها قال أبو هريرة قال رسول الله صل الله عليه وسلم : " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فإذا أشهد امرأ فليتكلم بخير أو ليسكت واستوصوا بالنساء فإن المرأة خلقت من ضلع وإن أعوج شئ في الضلع أعلاه إن ذهبت تقيمه كسرته وإن تركته لم يزل أعوج استوصوا بالنساء خيرا ".
ويوضح المعيار وجليه أكثر من هذا ما أخرجه الإمام مسلم مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو بالسند إلى أبي هريرة قال: قال رسول الله صل الله عليه وسلم: " لا يفرك مؤمن مؤمنة إن كره منها خلقا رضى منها آخر أو قال غيره " .
وهذا الحديث والذي قبله أخرجهما مسلم في كتاب الرضاع باب الوصية بالنساء من الجزء العاشر.
وهكذا تتضح توجيهات الإسلام للرجل وإيضاح دوره في الأسرة وما ينبغي عليه يقوم به من غير أن يكون له أدنى حق في الاعتداء على خط الاعتدال والذي لا يتجاوزه إلا معتدٍ للعقوبة التي تتناسب مع حجم الاعتداء.
أما دور المرأة في الأسرة فهو دور هام وحساس لا يقل حساسية وأهمية عن دور الرجل فيها.
وكثير ما تحدث من بعض المتحدثين عن الإسلام وهو يحدد دور المرأة فتمخض عن قصد أو غير قصد عن اتهام صارخ للإسلام باعتبار أنه سلب المرأة شخصصيتها ومسخ معالم هذه الشخصية وحملها على القيام بدور العبودية أو الخادمة التي تؤدي ما عليها من واجبات وليس لها في مقابل ذلك أي حق يذكر.
ولسنا نريد أن ندخل في باب اللجاجة والمراء وإنما نريد أن نوضح هنا أن الإسلام قد أعطى المرأة شخصيتها التي لم تحصل عليها في أي نظام سبق الإسلام أو جاء بعده إلا أن شخصية المرأة كشخصية الرجل لا يدخل في مقوامتها حق الاعتداء على خط الاعتداء أو تجاوز هذا الحد وإن أي نظام كائناً ما كان يعطي أحد الأفراد الذين ينطبق عليهم النظام امتياز الخروج عليه يكون نظاماً فاشلاً لا يسع واضعيه إلا تعديله أو تغيره واستبداله بنظام آخر يكون أكثر جدية وصرامة.
والإسلام حين يحدد دور المرأة في الأسرة يعطيها أولاً شخصيتها الكاملة ويحدد لها ذاتيتها المستقلة فهي كالرجل لها شخصية حقوقية إذ إن لها حق التقاضي وحق الإدلاء بالشهادات في إطار ما يليق بها وفي الميادين التي تناسبها حسب نظام تشريعي موضوع.
والمرأة كالرجل لها شخصيتها المالية ولها ذمة تسع إبرام العقود وتتحمل ما يتعلق بها من حقوق مالية في الأخذ والعطاء والبيع والشراء ... الخ.
والمرأة لها شخصيتها السلوكية ومسؤليتها التي تتعلق بهذا السلوك والجزاء الذي يترتب على هذه المسئولية أداءً ووفاءً أو تخاذلاً وتقصيراً.
المرأة إذن لها شخصيتها الكاملة كما للرجل شخصيته الكاملة، إذ أنه مما لا يقبل النزاع أن المرأة في النهاية لا تقل عن الرجل فيما وهب الله لكل منهما من طاقات وإمكانات إذا نظرنا إلى الأمور باعتبار نهاياتها وأحصينا لكل واحد منهما ما يمكن أن تقوم به وما لا يستطيع القيام به وإن كانت الإمكانات والطاقات تختلف في التفاصيل من المرأة إلى الرجل.
كل هذا حق لا ريب فيه.
ولكن الذي لا ريب فيه كذلك أن البناء الاجتماعي يحدد من إطلاق الحريات من غير حدود فكما أن الرجل في الأسرة لا يملك الحرية المطلقة في استعمال إمكاناته وإطلاق طاقاته فكذلك لا تملك المرأة الحرية المطلقة في استعمال الإمكانات والطاقات وبين الاثنين خط الاعتدال الذي لا يجوز الخروج عليه وإن كان من المحبب شرعاً أن يتجاوز الرجل والمرأة الزوج والزوجة خط الاعتدال في الجانب المقابل جانب الرقى بغير ما حدود لهذا الترقي وذلك الخروج.
وإذا كان من الجائز عقلاً أن يخرج الرجل على حد الاعتدال بالاعتداء فإنه من الجائز عقلاً في معظم الأحيان أن تخرج المرأة على حد الاعتدال بالنشوز ونشوز المرأة تقابله الشريعة بمجموعة من النصوص كما أنها في الوقت نفسه تنصب لها المثل الأعلى الذي تترقى إلى أن تصل إليه.
هما إذن طريقان في التشريع الإسلامي يكمل بعضهما بعضاً أحدهما يمثل الحد الأدنى في المعاملة والآخر يمثل الحد الأعلى في الرقى الأخلاقي والكمال الإنساني في السلوك.
ويتحدث النبي عن الحد الأعلى في معاملة المرأة لزوجها فيبين أنه يكمن في الطاعة الكاملة بغير حدود طاعة تنفي عن المرأة شبهة الخروج عن حد الاعتدال بالنشوز والإعراض طاعة تجعل المرأة تمنح المرأة باختيارها الأخلاقي فرصة قيادة الأسرة وتوجيهها الوجهة الحسنة في إطار شرع الله ونظام الإسلام العام.
ويحدد النبي المثل الأعلى في الأخلاق في هذا المجال حين يقول فيما أخرجه الترمذي من باب الرضاع بالسند إلى أبي هريرة مرفوعاً إلى النبي صل الله عليه وسلم قال: " لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها " قال الترمذي حديث أبي هريرة حديث حسن غريب من هذا الوجه من حديث محمد بن عمرو عن سلمه عن أبي هريرة إلا أنه أتى بطرق عديدة غير هذا الوجه عن طريق معاذ بن جبل وسراقة ابن مالك بن جعشم وعائشة وابن عباس وعبد الله بن أبي أوفى وطلق بن علي وأم سلمه وأنس وابن عمر. اهـ(1)
وهذا المثل الأعلى يشير إلى أمرين في غاية الأهمية لا يجوز لنا أن نغفلها لما يتعلق بهما البعض حين يريدون الشغب على الإسلام.
وأحد هذين الأمرين هو أن الأمر بالطاعة هنا إنما هو من الله ا لمشرع الحكيم والذي تجب إطاعته عندما يأمر.
ونحن حين نطيع أمر الآمر الذي هو المشرع إنما نكون قد عبدناه بهذه الطاعة لأوامره فالمرأة حين تطيع زوجها تنفيذاً لأمر ربها تكون عابدة لله عز وجل الذي أمرها فأطاعت.
أما ثاني الأمرين هو أن الطاعة هذه متعلقة بالزوج فالمرأة تتوجه بطاعتها لزوجها وهذا الزوج في هذه الصورة إنما هو متعلق الأمر الإلهي وحين نتوجه بالأمر إلى متعلقه لا نكون عابدين لهذا المتعلق وإنما نحن نتوجه إليه حين ننفذ أمر الله لحكمة بالغة يريدها الله من تشريعه ولعل الحكمة هنا هي في تكريم الزوج والحفاظ على بعض الهيبة له بالقدر الذي يمكنه من إصدار القرار في الوقت المناسب وتوجيه الأسرة والقيام بمسئولياته.
وبعد توضيح هاتين النقطتين يتضح لنا أن المثل الأعلى الذي رسمه النبي يحتوي قضية مزدوجة فيها عبادة الله بإطاعة أمره وفيها الحفاظ على هيبة الرجل بالتوجه إليه بالطاعة على أنه متعلق الأمر الإلهي.
وهذا الازدواج في المثل الأعلى المرسوم هنا يفهم في مواطن كثيرة بنفس الصورة من تشريعات الله عز وجل فالله عز وجل يوجهنا إلى الكعبة وكذا في الحج والعمرة والطواف بغير حج أو عمرة فالكعبة متعلق الأمر الإلهي يكون في التوجه لها تكريماً لها لحكمة يريدها الله من ذلك التكريم وفي إطاعة أمر الله بالصلاة والتوجه للكعبة عبادة لله عز وجل ونحن نستطيع أن نفهم ذلك أيضاً في أمر الله الملائكة بالسجود إلى آدم إلى غير ذلك من المواقف المتعددة والمتنوعة.