اللغة العربية وروح الإسبارطية اليهودية
بقلم الأديب المصرى
د.طارق رضوان جمعه
بالأمس القريب كتبت عن تقبل الأخر ونال المقال إعجاب الكثير من القُراء. فكان دعوة إلى تقبل الإختلاف بلا خلاف.لكن لم يلتفت القارىء الكريم إلى الإستفسار عن ماهية الأخر الذى يجب أن استمع إليه وأتقبله وأحاوره. فليس كل أخر هو أنا، ولا يعنى هذا التسرع والدعوة إلى العداوة .بل أن الأمر ما يزال يتطلب التروى والتدبر والإستماع فقط من أجل دراسة وتجنب مخاطر الأخر. مواجهة بفكر رشيد حكيم، وليس فرار من عدو هش. فمن يتعلّم ويعرف لغة عدوّه، وأساليب تفكيره، بأمِنَ مكره وكيده، وإلا ستتحول هشاشته إلى وحش مخيف.
المواطنون العرب هم جزء لا يتجزّأ من الأمّة العربيّة، وتشكّل اللغة العربيّة لغة الدين والحضارة والتراث بالنسبة لهم. فالمسائل العامّة التي تتحدّى العربية كالازدواجيّة اللغويّة، واللهجات واللغات الدارجة منتشرة لدى جميع الناطقين بالعربيّة دون استثناء، وهذا بدوره يثقل سيرورة إتقان اللغة والتحدّث بها بطلاقة. من الطبيعيّ أن يحصل تداخل لغويّ لدى التواصل بين الأغلبيّة والأكثريّة في الدولة. إلا أنّ وضع اللغة العربيّة في إسرائيل لا يتمثّل فقط في الدخيل اللغويّ، بل يتعدّاه ليشمل الجانب الهويّتيّ والثقافيّ والرمزيّ.
كانت اللغة العربية في إسرائيل تحظى باعتراف كلغة رسمية بموجب "مرسوم ملكي" انتدابي يحدد هذا القانون أن اللغة العربية هي لغة رسمية في إسرائيل واستمر هذا الوضع في الدولة حتى 2018 مع إقرار القانون الأساسي: إسرائيل كدولة أمة للشعب اليهودي. وبحسب القانون السابق، وقعت على الحكومة مسؤولية عامة لنشر جميع الأوامر والإعلانات الرسمية والاستمارات الرسمية بالعبرية والعربية، ويحق للفرد التوجه للسلطات الرسمية وللوزارات مستخدما اللغة العبرية أو العربية، وتقع على السلطات المحلية مسؤولية نشر جميع إعلاناتها المحلية باللغتين.
ومنذ مطلع التسعينيات بدأت المحكمة العليا الإسرائيلية إلزام السلطات باحترام حق الأقلية العربية باستخدام لغتها. وفي عدد من الأحكام القضائية تم الاعتراف بحق الأقلية العربية بلغتها: بخصوص الحق في نشر الإعلانات بالعربية، بخصوص الحق في التوجه للسلطات باللغة العربية، بخصوص الكتابة بالعربية على بطاقة التصويت للانتخابات، وبخصوص إضافة العربية على لافتات الشوارع الرئيسية وفي المدن التي تسكن فيها أقلية عربية كبيرة .
بالإضافة إلى ذلك، في بيت البرلمان الإسرائيلي "الكنيست" بإمكان أعضاء الكنسيت العرب القاء الخطابات في اللغة العربية، وأيضا هنالك المواقع الالكترونية لمكاتب الحكومة الإسرائيلية مترجمة إلى اللغة العربية.
وكتب القاضي أهرون براك في حيثيات قراره أن لكل إنسان الحق في المحافظة على لغته، وأن للّغة العربية مكانة خاصة في إسرائيل: "إن اللغة العربية هي لغة أكبر أقلية في إسرائيل، وهي أقلية تعيش في إسرائيل منذ القدم. إنها لغة ترتبط بالمميزات الثقافية، التاريخية والدينية للأقلية العربية في إسرائيل. إنها لغة السكان الذين يريدون العيش في إسرائيل، على الرغم من الصراع العربي- الإسرائيلي، كمواطنين أوفياء ومتساوي الحقوق، مع احترام لغتهم وثقافتهم. إن الرغبة في ضمان التعايش القائم على احترام أحفاد إبراهيم عليه السلام، في إطار التسامح المتبادل والمساواة، يُبرر الاعتراف بإضافة اللغة العربية على اللافتات البلدية في المدن التي تعيش فيها أقلية عربية ملحوظة (بين 6-19% من السكان)."
لكن أشارت بدايات ظهور أدب الأطفال الإسرائيلي المعاصر في فلسطين منذ عام 1905م، ومصادره الرئيسية المستقاة من التوراة، واهتمام عدد من الأدباء اليهود بترجمة الكثير من آداب الأطفال العالمية ونقلها إلى اللغة العربية، وقد بدأت بعدها تظهر في فلسطين صحف لتسلية الأطفال ولكنها كانت طفرة، فلم يستمر وجودها وقتا طويلا؛ لأن ما فيها كان أدبا مفعما "بـالقيم "اليهودية القومية التي تهدف إلى التنشئة السياسية لخلق أجيال ذات توجه تاريخي عنصري، بالإضافة إلى التنشئة العلمية العقلانية من أجل ترسيخ إحساس بالشعب اليهودي "المضطهد"- حسب الرؤية الصهيونية- في نفسية الأطفال، وأن اضطهادهم كان من الضخامة والشراسة بحيث لا يمكن أن يعادله أي اضطهاد لأي جنس بشري في العالم!!
و تقول الباحثة والكاتبة الصحافية الإسرائيلية إرنا كازين " إن من يطلع على مناهج التعليم في المدارس الاسرائيلية في جميع المراحل لا بد أن يلفت انتباهه التوجه العام القائم على التنشئة التربوية على روح العسكرة والتطوع للجيش واعداد الطفل حتى يكبر ليصبح مقاتلاً، لتكريس الروح الاسبارطية ".
التربية الإسرائيلية تركز على ثلاث عناصر كلها تهدف لخدمة المشروع الصهيوني في تأسيس الدولة العبرية وجمع الشتات اليهودي في هذه الدولة، وهذه العناصر هي:
1-إحياء اللغة العبرية، 2-وتعزيز الارتباط بالأرض، 3-وتنمية الروح العسكرية والعنصرية.
الأمر الذي دعى التعليم الإسرائيلي إلى إعطاء الأولوية لبناء شخصية الطفل منهجيًا بشكل غير مسبوق في كل منطقة آسيا وإفريقيا. فأصبحت المدرسة في إسرائيل المكان الأول الذي ينبغي أن تُبنى فيه وحدة الأمة، فلذا لا يقتصر دور المدرسة على نقل المعارف فقط، بل يجب أن تكون في مقدمة من ينقل قيم المجتمع الجديد. ويعتبر التعليم الإسرائيلي مميزًا من الناحية الفنية؛ في طرفي السلم التعليمي. فجل اهتمامهم مركّز على مرحلة الطفولة (ما قبل الابتدائي)، وكذلك على مرحلة التعليم العالي بعد الثانوية. "مرحلة الطفولة المبكرة" هي أول مرحلة في نظام التعليم الإسرائيلي الغير إلزامي. والعجيب الملفت للنظر في هذه المرحلة أنها؛ تبدأ من سن ثلاثة أشهر إلى سنتين من العمر، وقد أنشئت دور حضانة متخصصة بهذه المرحلة، وتعتبر تكلفتها عالية، ومع ذلك نسبة الالتحاق بها حوالي 97%. وهي لا تدخل من ضمن مراحل التعليم الرسمي ومعظمها ممول من هيئات نسائية.
وهذه الحضانات تعود إلى مؤسسات عامة وخاصة وتقوم الوزارة بتمويلها جزئيًا وتتولى الإشراف عليها والتفتيش والرقابة وإعداد المربيات اللواتي تحتاجها هذه الحضانات. هذه المرحلة المبكرة تعتبر الأنسب لغرس الطقوس الدينية اليهودية المتعلقة بالأعياد والمناسبات المقدسة وغيرها من أمور دينية أخرى. فكان من أكبر الإنجازات التي تُحسب للنظام التعليمي الإسرائيلي هو إحياء اللغة العبرية من العدم وتطويرها وتحديثها وتعميم الكلام بها في مجتمع مهاجرين متعددين اللغات والثقافات والمستويات التعليمية. والجدير بالذكر أن كل مستويات التعليم في إسرائيل تتم باللغة العبرية بما في ذلك لغة التعليم العالي والبحث العلمي، وإنشاء ثقافة مشتركة خلال خمسين عامًا من خلال أخلاط دينية وعرقية ولغوية، ومستويات حضارية شديدة التفاوت، وانتماءات قومية متباينة.
فقد كان الاستنتاج الذي توصل إليه قادة الحركة الصهيونية هو أن الصراع بين العرب ودولة إسرائيل هو صراع وجود وليس صراع على حدود أو أرض أو موارد طبيعية. فهذا المجتمع الذي يقدس القوة، لا يحترم إلا القيم التي تعكسها، من هنا فأن المجتمع الإسرائيلي يمر بعملية عسكرة متواصلة، فالساسة هم جنرالات متقاعدون، ومدراء المؤسسات الاقتصادية هم من خريجي الجيش، والصحف ووسائل الاعلام تبحث عن معلقين من كبار الضباط المتقاعدين.
ومن ضمن مناهج التعليم يتم تدريس تاريخ الحروب العربية الإسرائيلية، الى جانب دراسة السير الذاتية لكبار القادة العسكريين الذين حققوا " انجازات " خلال هذه الحروب، حيث يطلب من الطلاب عادة كتابة مواضيع انشاء حول هؤلاء القادة.
وضمن برامج الإذاعة المدرسية، يقوم الطلاب باستضافة جنرلات وكبار الضباط في الجيش والمخابرات وإجراء مقابلات معهم، ويترك لبقية الطلاب توجيه أسئلة لهم
اللافت للنظر، والمثير للإستهجان هو أن القائمين على جهاز التعليم في اسرائيل يعلنون أنهم لا يستعينون بخدمات الضباط في التدريس لإغراض تربوية وتعليمية، بل لتكريس قيم العسكرة لدى الطلاب.
في دراسة أجرتها أسماء بيومي شلبي، المعيدة بقسم تربية الطفل في جامعة عين شمس، أشارت فيها إلى حجم تغلغل الدين اليهودي في مجموعة قصص الأطفال اليهود في فلسطين المحتلة التي قامت بدراستها، حيث يأخذ حيزاً مقداره 93 و95% في حين يشغل "اللادين" حيزاً مقداره 07 و4%، وذلك يؤكد على عمق تغلغل الثقافة الدينية الرجعية في ثقافة الطفل الإسرائيلي،
كما بين الباحث الإسرائيلي ايلي بوديا المحاضر في جامعة حيفا في بحث اعده حول هذا وقال فيه: إن كتب التعليم في إسرائيل ساهمت طيلة نصف القرن الماضي اشعال جذوة الصراع الفلسطيني العربي، وكرست حالة الحرب، وحالت دون التوصل للسلام بين العرب واليهود. ووصف بوديا مناهج التدريس اليهودية ب " المنحرفة "،
واكد الباحث أن كتب التاريخ الإسرائيلية التي اخضعها للبحث انشغلت بتعميق القيم الصهيونية ورعاية الأساطير والتمجيد بأبطالها ضمن صهر المهاجرين في بوتقة وذاكرة جماعية واحدة.
ولفت إلى أن تلك الكتب وصفت الصراع بطريقة تبسيطية أحادية الأبعاد ومشبعة بعدم الدقة إلى حد التشويه.
وأوضح الكاتب أن هذه الكتب سعت لشيطنة العرب وتجريدهم من إنسانيتهم،
وحول تناول هذه الكتب لأول مواجهة مع المسلمين التي حدثت في المدينة المنورة، فان هذه الكتب تصف القبائل اليهودية في تلك الفترة بأنها " شريفة ومحترمة وشجاعة، بينما وصف العرب بأنهم ماكرون وخونة وبأنهم هزموا اليهود بالخدعة والمؤامرة ".
وأشار بوديا، إلى أن ردة فعل غريبة جاءت في اسرائيل على زيارة الرئيس المصري الراحل أنور السادات، حيث حرص كبار المسؤولين في الدولة على الدعوة الى تعميق القيم الصهيونية على حساب ثقافة السلام.
واقتبس من كلام الوزير التعليم السابق زبولون هامر قوله: "هناك زعماء عرب يظنون انهم ان لم يكونوا قادرين على القضاء علينا في ميدان المعركة، فإنهم سينجحون في فعل ذلك عن طريق عملية " السلام ".
ويؤكد البحث انه عندما حاول وزير التعليم السابق اسحاق نافون احداث تقارب بين التلاميذ العرب واليهود داخل اسرائيل، لم يشارك في هذه الأنشطة الا 2% من المربين اليهود، منوهاً للموقف الصارم للمؤسسة الدينية اليهودية الرافض لعقد مثل هذه اللقاءات بحيث ان ذلك يثبت ان الذاكرة الجماعية لليهود كضحايا لمخططات الاضطهاد والابادة جعلتهم "سجناء ماضيهم الخاص"..
تعد العقيدة أو الأيديولوجية الصهيونية هي المحرك للمناهج التربوية لأطفال اليهود، وهي تكرس مواصفات محددة للشخصية اليهودية، فمثلاً يتم إبراز تلك الشخصية على أنها أذكى عقلاً، وأقوى بدناً من سائر الأمم غير اليهودية، وأن التيه (الشتات) لم يكن عقاباً لليهود، بل كان بزعمهم قدر من الرب للقضاء على ضعفاء اليهود حتى لا يدخل أرض كنعان سوى الأصحاء الأقوياء فقط!
وأحيراً، فالقصص الديني يحتل الصدارة من الناحية العددية من قصص الأطفال في "إسرائيل"، ويستند إلى فقرات من العهد القديم وقصص التوراة كما استخدمت فيها الرموز الدينية كالشمعدان ودرع داود وغيرهما، لتعميق القيم التوراتية والتلمودية في نفوس الصغار.