.... تابع
بحث موسع للدكتور راجح السباتين عن الحركة الصهيونية
الصهيونية (نشأتها، مشروعها، بروتوكولاتها، علاقتها بالبروتستانتية المحافظة في الولايات المتحدة)
المبحث العاشر
في التأكيد على وثاقة العلاقة بين الصهيونية والبروتستانتية المحافظة ( الاتجاه اليميني المسيحي المحافظ )
قديماً وحديثاً وخطورة ذلك
لقد أحببنا في كتابة هذا المبحث أن نستشهد بأقوال النصارى الشرقيين والغربيين الذين تحدّثوا في هذا الموضوع ، وذلك لا لخطورته على بلاد العرب والمسلمين وإنما لخطورته عليهم كنصارى كاثوليك أو أرثوذكس ، رفضوا أن يجعلوا لأنفسهم مطيّة وحميراً للراكب الصهيوني يسوسهم كيف يشاء ، وقد تعرّض كثير من هؤلاء لمضايقات من حكومات بلادهم ومن الحكومة الاسرائيلية الصهيونية على حد سواء ، وبالذات كل من الصحافية الأمريكية الشهيرة صاحبة كتابي ( النبوءة ، السياسة ) وكتاب ( أسرار جديدة حول علاقة اسرائيل بالصدام العراقي – الأمريكي ) والأستاذ الفرنسي الشهير ( روبيرفوريسون ) صاحب كتاب ( الأكذوبة التاريخية ) الذي يدحض مبالغات اليهود في قتل " هتلر " لستة ملايين منهم فكانت نتيجته أن دفع الثمن وطُرِد من جامعة (السوربون) التي كان يعمل مدرّساً فيها كما مُنِع من العمل في كل الجامعات التابعة لدول الاتحاد الاوروبي([44])، وسأعرض هذا الموضوع على شكل شواهد متتالية :
الشاهد الأول: عرض مختصر لما ذكرته "غريس هاليسل" في الموضوع([45])
من مطالعاتنا في كتب ودراسات عن الصهيونية يتبين أن ( ثيودور هرتزل ) الذي يعرف بأنه أب السياسة الصهيونية لم يختلق حركة تشجيع لليهود للانتقال الى فلسطين ، لقد فعل ذلك المسيحيون البروتستانت الإنجيليون قبل ثلاثة قرون من المؤتمر اليهودي الصهيوني الأول قبل الحركة الاصلاحية وكان جميع المسيحيين الغربيين كاثوليك ، وكانوا يتقبلون بصورة عامة وجهة نظر القديس أوغسطين وغيره والتي تقول : إن مقاطع معينة من الإنجيل يجب أن تفهم معنوياً وليس لفظياً ، وكمثال على ذلك فإن القديس وصهيون مفتوحان لنا جميعاً في السماء وليسا مكاناً محدداً هنا على الأرض حتى يسكنه اليهود بصورة مطلقة .
مع القرنين 16 و 17 بدأ المسيحيون الأوائل شراء الأناجيل وتفسير نصوصها بأنفسهم ومن خلال ذبك بدأوا تعظيم مفهوم اسرائيل واليهود على أنهم المفتاح الأساسي للرؤى الإنجيلية .
قليل من العلماء بحثوا في أسباب التحول المفاجئ في دعم المسيحيين للفكرة التي تقول : بأنه على جميع اليهود أن يتوجهوا الى فلسطين – وهذه فكرة لم ترد في النظريات المسيحية الأرثوذكسية .
كذلك فإن قليلاً من العلماء اهتموا بمعرفة الأسباب التي حملت البروتستانت على كتابة المؤلفات المطولة على الرؤى التوراتية التي تعطي اليهود ، ( والذين ينظر إليهم على أنهم أعداء تقليديون للكنيسة ) ، موقعاً متميزاً في الفكر المسيحي فبعد الاصلاح أصبح المسيحيون الأوروبيون أكثر اهتماماً باليهود ، وغيّروا اتجاههم نحوهم .
يخبرنا بعض العلماء أن ذلك كان نتيجة التطورات في القانون الدولي الأوروبي التي قادت الى مزيد من الليونة ، علماء آخرون يشيرون الى اتساع الدور الاقتصادي لليهود في التجارة العالمية ، بعضهم يرى أن اهتمام حركة النهضة بالدراسات العبرية ، وأن نظريات الاصلاح بتأكيدها على العهد القديم ركّزت الاهتمام على اليهود بدرجة كبيرة حتى إن الطوائف اليهودية ذات النفوذ اليهودي القوي برزت من خلال الكنائس البروتستنتية الانكليزية .
بعض العلماء صنفوا الاصلاح على أنه إحياء لليهودية أو العبرانية ، بحيث تقبل البروتستانتيون الأوائل مظاهر من التقاليد مثل توقع عودة المسيح ، والألفية في حكم السلام لمدة ألف سنة على الأرض ، وذلك أنه خلال الحركة الاصلاحية تقبل المسيحيون البروتستانت الكتاب المقدس على أساس أنه يشكل السلطة العليا للاعتقاد والسلوك .
فبدلاً من كنيسة معصومة كالتي يمثلها البابا في روما وافق البروتستانت على كتاب مقدس معصوم وهو الذي ترجم الآن الى لغات الناس العاديين . مع ترجمة النصوص توجه البروتستانتيون الأوائل الى العهد الذي يعرف على أنه إنجيل اليهود أو الإنجيل العبراني ، وذلك ليتعرفوا على تاريخ وقصص وتقاليد وقوانين العبرانيين وأرض فلسطين . لقد حفظوا على ظهر قلب قصص العهد القديم وبدأ الكثيرون من البروتستانت يفكرون في أن فلسطين أرض يهودية .
توجّه البروتستانت الى العهد القديم ليس فقط على أنه أكثر الكتب شهرة ولكن على أنه المرجع الوحيد لمعرفة التاريخ العام، وبذلك قلّصوا تاريخ فلسطين ما قبل المسيحية الى تلك المراحل التي تتضمن فقط الوجود العبراني ، إن أعداداً ضخمة من المسيحيين وضعوا في إطار الاعتقاد أنه لم يحدث شيء في فلسطين القديمة باستثناء تلك الخرافات غير الموثقة من الروايات التاريخية المسجلة في العهد القديم .
إن محبي الكتاب المقدس من المسيحيين بدأوا ينظرون الى العهد القديم على أنه التاريخ الوحيد الجديد في الشرق الأوسط، وفي منتصف سنة 1600 يدأ البروتستانت كتابة معاهدات تعلن بأن على جميع اليهود مغادرة أوروبا الى فلسطين ، أعلن أوليفر كرمويل بصفته راعي الكومنولث البريطاني الذي أنشئ حديثاً أن الوجود اليهودي في فلسطين هو الذي يمهد للمجئ الثاني للمسيح.
لمدة عاماً كان المسيحيون ( في الدرجة الأولى في بريطانيا وكذلك في مناطق أخرى من أوروبة ، وبعد ذلك وبدرجة كبيرة في أمريكا ) المدافعين الوحيدين عن الصهيونية ، البروتستانتيون عملوا منفردين في اصرارهم على أن فلسطين تخص اليهود ، وعلى حث كل اليهود للتوجه هناك والعيش منفصلين عن العامة ( جنتيل ) ، ولمدة قرن ونصف القرن ، فإن المسيحيين ( قادة الحركة الاستعمارية الغربية ) لم يحصلوا على دعم من اليهود في حركتهم الصهيونية غير اليهودية .
إن المسيحيين الذين كانوا يتصدرون هذه الحركة ، كانوا بدون استثناء ، من البروتستانت المداومين على زيارة الكنائس ، إن عبارة المسيحيين الصهاينة أو الجنتيل الصهاينة يمكن أن يساء تفسيرها ، أو انها قد تعني صهيونية ذات دوافع توراتية أو لاهوتية ، تقول رجينا شريف في كتابها " الصهيونية غير اليهودية " " بالاضافة الى عامل النفوس فإن للمسيحيين الصهاينة أسباباً سياسية " ، وتذكر أن هذه الأسباب كانت منذ البداية أكثر أهمية من الاعتقادات الدينية .
بصرف النظر عن أسباب تأييد الحركة الاصلاحية البروتستانتية ، فكرة انكلترا وأوروبة متحررة من كل اليهود ، فإن العديد من اليهود الصهيونيين اليوم يقولون : إنهم مسرورون لتصرف المسيحيين بهذه الحرارة ، أنهم ينسبون الفضل الى المسيحية الصهيونية في مساعدة الصهيونية اليهودية الحديثة لتحقيق هذفها : خلق دولة يهودية حيث لا يرحب بغير اليهودي مواطناً فيها " .
في السادس من فبراير 1985 ، ألقى سفير اسرئيل لدى الأمم المتحدة بنجامين ناتنياهو خطاباً أمام المسحيين الصهاينة قال فيه : " ... لقد كان هناك شوق قديم في تقاليدنا اليهودية للعودة الى أرض اسرائيل ، وهذا الحلم الذي يراودنا منذ 2000 سنة ، تفجر من خلال المسيحيين الصهيونيين " .
إن كتّاب ورجال دين وصحفيين وفانين ورجال سياسة انكليز وأمريكان ، أصبحوا محركين لعملية تسهيل عودة اليهود الى وطنهم المهجور .
وأضاف السفير ناتنياهو : " إن المسيحية الصهيونية لم تكن مجرد تيار من الأفكار ، إن مخططات عملية وضعت فعلاً من أجل عودة اليهود ، ففي عام 1848 ساعد وردر كريسون القنصل الأمريكي في القدس على إقامة مستوطنة يهودية في " وادي رفيم " بدعم من جمعية مسيحية – يهودية مشتركة في انكلترا ، وتولى كلود كوتدور ، مساعد اللورد كيتشنر ، إجراء مسح شامل عن فلسطين مؤكّداً " أن باستطاعة اليهود إعادة إصلاحها لتسترجع مجدها الغابر " .
وقال ناتنياهو أيضاً : " لقد قدم المسيحيون دعماً طويلاً متواصلاً وناجحاً للصهيونية ، وهو دعم أعرب عن نفسه في الأدب الإنكليزي مثل رواية جورج أيليوت عن الصهيونية والتي تدعى " دانيال ديروندا " ، والتي تنبأت بأن يقيم اليهود كياناً يهودياً جديداً ، يكون كياناً عظيماً ، بسيطاً ، كالكيان القديم ... لأنه ستكون هناك بلاد في الشرق تحمل ثقافة وعطف كل الأمم العظيمة ، في قلبها ".
وقال ناتنياهو كذلك : " المسيحيون ساعدوا على تحول الاسطورة الجميلة الى دولة يهودية " . وأضاف مثالاً على ذلك، القنصل الأمريكي في القدس ادوين شارمن والس الذي كتب في عام 1898 : " إن الأرض بالانتظار ، والشعب على استعداد للمجيء ، سيأتي فور أن تتأمن الحماية للحياة وللممتلكات ... يجب أن نقبل بذلك ، وإلا فإن الرؤى العديدة التي تأكدت بإيجابية يجب أن تعتبر عديمة الجدوى ... ( ومع ذلك ) فإن الحركات الحالية بين اليهود في مناطق متعددة من العالم ، تشير الى ايمانهم بما تؤكده هذه الرؤى ، إن عيونهم تتجه نحو الأرض التي كانت لهم ، وإن قلوبهم تهفو الى اليوم الذي سيستطيعون أن يعيشوا في هذه الأرض كشعب بسلام " .
وقال ناتنياهو : " إن كتابات المسيحيين الصهيونيين من الإنكليز والأمريكان ، أثرت بصورة مباشرة على تفكير قادة تاريخيين مثل لويد جورد أو ارثر بلفور ، وودرو ويلسون ، في مطلع هذا القرن ، إن الكتاب المقدس ذكر هؤلاء الرجال ، إن حلم اللقاء العظيم أضاء شعلة خيال هؤلاء الرجال ، الذين لعبوا دوراً رئيسياً في إرساء القواعد السياسية والدولية لإحياء الدولة اليهودية" .
وهكذا فإن تأثير المسيحيين الصهاينة على الساسة الغربيين هو الذي ساعد اليهودية الصهيونية الحديثة على تحقيق هدفها في إعادة ولادة اسرائيل . كما حث المسيحيون الصهيونيون الأوائل يهود أوروبة على التوجه الى فلسطين لمصادرة كل ما يستطيعون مصادرته ، من الأرض ، كذلك فإن المسيحيين الصهيونيين أمثال جبري فولويل ، يحثون اليهود اليوم على أن يذهبوا الى ما يتعدى فلسطين ن وأن يطالبوا بكل الأراضي العربية التي تمتد من نهر الفرات في الشرق حتى النيل في الغرب .
الشاهد الثاني([46]):
تحت عنوان " للحقيقة والتاريخ " كتب الكاتب أميل الغوري وهو فلسطيني نصارني له باعٌ في الحركة الوطنية مقالاً في صحيفة الرأي الأردنية قال فيه حرفياً : " في شهر شباط 1945 وقع خمسة آلاف قس بروتستاني أمريكي عريضة رفعوها الى الكونغرس الأمريكي والحكومة الأمريكية يطالبون فيها بفتح أبواب فلسطين على مصاريعها للهجرة اليهودية ، وكانت ستة آلاف كنيسة أمريكية قد استجابت في عام 1943 لنداء اللجنة العاملة لإنقاذ يهود أوروبا ، وهي منظمة صهيونية ، فخصصت أسبوعاً خاصاً للصلاة والتماس الرحمة من أجل اليهود .
وقبل اندلاع حرب 1967م بقليل صدرت عن الفاتيكان وثيقة تعلن براءة اليهود من دم السيد المسيح عليه السلام ، وكان للكاردينال " بيا " الذي ينحدر من أسرة يهودية دور كبير في إصدار الوثيقة .
الشاهد الثالث([47]):
في الأول من تشرين الثاني من عام 1977 نشرت صحيفة النيويورك تايمز الأمريكية بياناً غطى صفحة كاملة تحت عنوان "اهتمام الطائفة الانجليكانية المسيحية باسرائيل " ، ووقع البيان خمسة عشر شخصية انجليكانية بارزة تضم رجال دين وأساتذة جامعات . وهذه مقتطفات حرفية من البيان :
" نحن المسيحيين الانجليكان نؤكد إيماننا بحق اسرائيل في إقامة كيان لها مستقل، وبالعيش في حرية تامة ضمن حدود كيانها الطبيعي ".
" إننا كمسيحيين انجليكان نؤكد إيماننا البالغ بأن أرض الميعاد هي للشعب اليهودي منذ أول عهد أعطي لابراهيم كما جاء في الكتاب المقدس (الإنجيل)، وبذلك العهد الذي لن ينكث ، ولذلك فإننا نؤمن ونعترف بإعادة ميلاد دولة اسرئيل ، ونؤمن بعودة أهلها الى أرض الميعاد ".
"لا بد من التذكير بأنه منذ عهد النبي يوشع فإن هذه الأرض جميعها كانت وعلى مر الأزمان وطناً للأمة اليهودية ، وأن القدس لم تكن عاصمة لأي شعب آخر غير الشعب اليهودي منذ زمن النبي داود " .
واختتم البيان بتوجيه النداء التالي :
" أيها المسيحيون الانكليكان ، أرسلوا وسائل الى قادة الحكومة في المناطق التي تقطنونها ، وانشروا هذا البيان في الصحف المحلية في مدنكم معلنين تأييدكم وتضامنكم مع اسرائيل ".
الشاهد الرابع([48]):
تستغل الصهيونية اعتقاد العديد من أتباع الكنائس المسيحية الانجليكانية المعمدانية في أمريكا بصحة نبوءة قيام دولة اسرائيل قبل ظهور المسيح ، لتستدرجهم الى مساعدتها في تحقيق أهدافها في بناء الهيكل المزعوم فوق أنقاض المسجد الأقصى المبارك ، وقد نشرت صحيفة الرأي الأردنية في 15 نيسان 1983م تصريحاً لزعيم حركة كاخ اليهودية المتطرفة الحاخام مائير كاهانا أعلن فيه عن قيامه بجولة في الولايات المتحدة تلبية لدعوة بعض أصدقاء اسرائيل من الطوائف المسيحية التي ستضع تحت تصرفه محطة التلفزيون الخاصة بها ليشنّ حملة جديدة تهدف الى جمع التبرعات لتمويل عملية طرد العرب من " أرض اسرائيل " بحدودها التي وردت في التوراة ، ليتسنى لحركته هدم المسجد الأقصى وإقامة هيكل سليمان فوق أنقاضه.
الشاهد الخامس([49]):
وفيه محطّتان:
أولاً: رؤيا صهيون / الأسطورة الأمريكية " للمدينة على الجبل "
بالقصص الديني يشغل هذا الراحل نفسه في رحلته الشاقة ، بينما يبتسم له الوحي ، لا فرق عنده إن سجد في البساتين الجميلة أم مشى دون هدى في السهول الخضراء فقلبه خافق دوماً لكل نسمة تحل شذى من هواء أدوميا .
( من قصيدة " ألحان من فلسطين "
1816 بقلم جون بيربونت )
شاعر أمريكي مغمور يكتب عام 1816 قصيدة طويلة عنوانها " ألحان من فلسطين " ( Airs of Palestine ) ، هذا الشاعر هو جون بيربونت (Pierpont John ) ، ومع أنه لم يكن قد زار الأراضي المقدّسة فهو يسرد قصّة ملحمية لرحلة خيالية مقلداً بها أسلوب الملاحم الكلاسيكية ، لكنه خلافاً للملاحم التقليدية لا يستقي الوحي من جبل " برناسوس " أو " أوليمبس " بل يلجأ الى آلهة الشعر الأخرى فيقول :
لا ، لا ، سأسلك طريقاً أجمل
سأترك اليونان وسحرها ، وأقصد فلسطين
أعشق السير على ضفاف الأردن ،
أتوق لغرس قدميّ في تربة الحرمون ،
أعشق آلهة الوحي التي ألهمت إشعياء
وفي مغارات الكرمل المقدّس آوي الى السكينة
وأزين مجالس الأصدقاء بوردة شارون الأبدية .
في هذه الفترة المبكرة من التاريخ الأمريكي يذهب شاعر أمريكي في رحلة خيالية الى الأراضي المقدّسة حيث يسرد القصص الدينية للأماكن بتفاصيلها وتداعياتها الثقافية، وبصورة خاصّة تلك المتصلة بما يسميه " آلام صهيون " ( The Woes of Zion ).
هذه القصيدة هي مثال واحد فقط من محاولات أمريكية مبكّرة للتعبير عن ما يمكن اعتباره أولى الأساطير الأساسية في الثقافة الأمريكية وأكثرها رسوخاً واستمراراً – تلك هي أسطورة " المدينة على الجبل " ، وتعبير " المدينة على الجبل " هو تعبير من النصوص المقدّسة يقصد منه مدينة القدس ، وعلى الأخصّ القدس الجديدة على تلة صهيون التي سوف يحكم منها المسيح مملكته الألفية الأرضية . وهي المدينة التي سينتشر منها نور الهداية الذي سيعم البشرية كلها . هذه المدينة أيضاً كانت تسمى في العديد من الكتابات الأمريكية – والغربية بصورة عامة – " بمدينة الملك العظيم " أي مدينة النبي داود ، ومما يبين هذه المزج المبكر بين الفكر المسيحي واليهودي في الثقافة الأمريكية .
ثانياً: المستوطنون الأمريكيون في الأراضي المقدّسة([50])
ولم يكن المبشّرون وحدهم يعملون من أجل صهيون ، فقد حفزت حركات الحماس الديني في أمريكا معظم اليمينيين وحتى المعتدلين للإعداد لنزول مملكة الله في الأراضي المقدّسة ، غادرت جماعات أمريكية في القرن التاسع عشر الى الأراضي المقدّسة لإنشاء مستوطنات هناك انتظاراً للحدث الكبير ، وانطلقت أنشطة كثيرة مبنية على القراءة الحرفية للكتاب المقدّس ولنبوءاته ، وهنالك العديد من الاشارات في كتابات الرحالة الى مستوطنات أمريكية في الأراضي المقدّسة تنتظر مجيء المسيح.
إحدى هذه الاشارات ترد في كتاب الرحالة روبرت بار ( Robert Barr , 1900 ) الذي التقى في القدس بمجموعة من المستوطنين الأمريكيين بقيادة رولر فلويد ، ويعلق بار بسخرية على " عبقرية الأمة الأمريكية التي تخترع أموراً جديدة باستمرار"، فبعد أن فرغت من جميع الاختراعات العلمية ، كما يقول بار ، التفتت الى اختراع جميع الأديان الموجودة في العالم ، فبينما يكتفي الشرق بدين واحد أو دينين ، يوجد في الغرب الأمريكي المئات ، فهنالك مذهب المورون ، والمذهب الروحي ، ومذهب الهزازين ، وعشرات غيرها .
ثم يسرد بار قصة هذه المستوطنة الأمريكية فيقول : " بعد أن تأكدت مجموعة من هؤلاء الأمريكيين أن مجيء المسيح أصبح وشيكاً وسيكون في الأراضي المقدّسة قرروا أن عليهم أن يكونوا في استقباله لكي ينضموا الى مملكته . وهكذا اجتمع عدد من هؤلاء وجمعوا من الأموال ما يكفي لتجهيز سفينة ، وساعدهم في الاجراءات القنصل الأمريكي في فلسطين ، وهو كما يقول بار ، شخص يهودي ، أخذ منهم أموالاً مقابل خدماته .
كما تذكر الرحالة الأمريكية الشابة آني شو ( Annie Shaw 1898 ) زيارة للأراضي المقدسة مع عمها وأختها ، حيث زاروا " المستوطنة الأمريكية التي كان أعضاؤها ينتظرون مجيء المسيح وتحقيق نبوءة إعادة بناء القدس " .
كان الرحالة والدبلوماسيون والمبشرون يعبرون عن إعجابهم بالايمان العميق والالتزام الذين كان المستوطنون يتحلون بهما ، يذكر الدكتور جون باركلي ، مؤلف كتاب " مدينة الملك العظيم " بأن تكريس الستوطنين ونكران الذات في تصرفاتهم هما أمر لاحظه في لقاءاته في عدة مستوطنات أمريكية وأوروبية في الأراضي المقدّسة ، وهو يقول إن سلوك المستوطنين في المستوطنة التي " أنشأتها المرحومة السيدة ماينر يتصف بحماس وتواضع شديدين " . ويضيف باركلي بأن هذه المستوطنة ليست أمراً نادراً في الأراضي المقدّسة .
ولعل تجربة سيدة أمريكية أخرى اسمها ليديا ماريا شولر هي نموذج لهذا السلوك كتبت شولر سلسلة من الرسائل الى أقاربها وأصدقائها ، نشر بعضها في دوريات أمريكية ، خاصة المجلة الدينية ( زائر الكتاب المقدّس ) ( Gospel Visitor ) ، تحدثت فيها عن تجربتها الاستيطانية في القدس ، وشرحت بلغة بسيطة ، لكنها مؤثرة وصادقة ، العناصر الهامة في معتقداتها التي دعتها الى الهجرة من أمريكا والاستيطان في فلسطين ، كما يجد المرء في هذه الرسائل تعبيراً عن المذاهب التي كانت قد ظهرت في أمريكا في تلك الفترة مثل المجيئيين والألفيين وأتباع ميلر ( الميلريين ) وغيرهم ، وخاصة فيما يتعلق بانتظار عودة المسيح الى جبل صهيون المطل على القدس .
لقد استجاب كثير من الرحالة الأمريكيين في الشرق العربي لدعوة دينية لا تقوم لتقفي أثر الاسرائيليين في رحلتهم الى أرض الميعاد . قارن هؤلاء الرحالة ، كما فعل أسلافهم المستوطنون الطهوريون ، تجربتهم الأمريكية التاريخية بتجربة العبرانيين عندما عبروا سيناء والبحرالأحمر الى أرض كنعان . كما قرؤوها في أسفار الكتاب المقدّس . والواقع أن هذه الطريق الى أرض كنعان كانت أكثر مراحل رحلة الحج الأمريكية الى الأراضي المقدّسة أهمية . وكانت هذه الطريق معبراً أخذه الرحالة الغربيون على ظهور الجمال والدواب على ما وصفوه بآثار رحلة الاسرائيليين . وكانت هذه الرحلة – التي تشكل عبئاً حتى على وسائل النقل الحديثة – شاقة جداً ومحفوفة بالأخطار في القرن التاسع عشر . ومع ذلك فقد اعتبرها الكثير من الرحالة الأمريكيين جزءاً أساسياً من رحلتهم وأصروا على القيام بها. ففي شهر شباط عام 1842 كتب تشارلز أدوين بورغ من القدس الى أمه يصف شعوره حيال هذه الرحلة، فعلى الرغم من الأخطار المحيطة بالرحلة من القاهرة الى العقبة قال بورغ إنه ورفقاءه كانوا متشوقين لأن يكونوا الرواد الأمريكيين الذين يعبرون صحراء سيناء وأراضي إدوميا بعد أن انقطع الرحالة عن استعمال تلك الطريق لمدة سنتين . " كنت أدرك أن أحداً لم يسلك هذه الطريق منذ سنتين بسبب الأوضاع السائدة ، لكني قررت أنني قطعت مسافة طويلة جداً للوصول الى هذا الموقع ولم أرد أن أصاب بخيبة الأمل ، ورغم التقارير المخيفة التي جاءتنا قررنا أن الأمريكيين يجب أن يكونوا رواداً مرة ثانية في تتبع خطى بني اسرائيل عبر أراضي إدوميا " .
الشاهد السادس:
مقتطفات من محاضرة للكاتبة والصحفية الأمريكية (غريس هالسل) بعنوان "ما لا يعرفه مسيحيو الولايات المتحدة عن إسرائيل"([51]) .
في سنة 67 / 1968 ، كتبت وكالة الاستخبارات المركزية CIA تقريراً سرياً يفيد بأن الدولة العبرية تمتلك " القنبلة " ، ومن دواعي السخرية ، أنه بعد عشرة أعوام ، عندما قام التقني الاسرائيلي ( موردخاي فانونو ) في مركز ديمونا النووي ، بتأكيد ما تضمنه تقرير CIA ، عمل الاسرائيليون على وضعه في سجن انفرادي متهمة إياه بالخيانة .
كم تمتلك اسرائيل من الأسلحة النووية ؟
مركز المعلومات الدفاعية في ( واشنطن ) يقدّر بأن اسرائيل تمتلك أكثر من 100 رأس نووي ، آخرون يقدّرون بأنها تمتلك حوالي 400 رأس حربي نووي .
اسرائيل ، على عكس ايران ، لم توقع على معاهدة حظر الأسلحة النووية ، وهي تساعد الهند ببرنامجها النووي منذ حوالي 20 سنة ، حسب المقال الذي نشر في ( تايمز ) لندن في 4 حزيران 1998 .
الآن ، الحالة الرابعة والنهائية التي لا يعرفها مسيحيو الولايات المتحدة عن اسرائيل ، فهم لا يعرفون الفرق بين من هو يهودي ؟ ومن هو الصهيوني ؟
إذا عيّن الرئيس كلينتون يهودياً على رأس وزارة ما ، فإن معظم مسيحيي الولايات المتحدة يعتقدون بأن لا ضرر في ذلك، فهم لا يريدون أن يكونوا متكبرين تجاه أي دين .
وإذا عيّن يهودياً ليكون رئيس ( البنتاغون ) وزارة الدفاع ، سيعتقدون مرة ثانية ، بأنه لا يجب أن يكون هناك تمييز بسبب دين الشخص .
وإذا كان لدى الرئيس 7 من 11 من كبار موظفيه في مجلس الأمن القومي ، ومن ضمنهم رئيس المجلس ، لا ينتقدونه لذلك ، وكونهم غير يهود ، فإن مسيحيي الولايات المتحدة يريدون أن يكونوا ذوي عقول منفتحة .
وعندما يعيّن الرئيس يهودياً فقط ، لترؤس فريق التفاوض في النزاع العربي – الاسرائيلي ، لا يعلق مسيحيو الولايات المتحدة على الأمر ، وذلك عائد ، وبشكل واسع ، لعدم علمهم أن الفريق يتألف فقط من اليهود ، بدون أي تمثيل للعرب .
الذي لا يلحظه المسيحيون أن هؤلاء المعيّنين ليسوا يهوداً فقط ، إنهم ، وبحسب كلام الصحافي الاسرائيلي (باريوسف)، " يهود مؤيدون " – يعني أنهم مخلصون – لاسرائيل .
في مقال بعنوان " اليهود الذين يديرون حكم كلينتون " ، ومطبوع في صحيفة اسرائيلية ، ( باريوسف ) يكتب بأنه مع وجود هذا العدد من اليهود في مراكز عالية ، فإن عاصمة الولايات المتحدة أصبحت " مركز الثقافة والسياسة اليهودية " ، ويستشهد بقول حاخام في واشنطن بأنه ، وللمرة الأولى في التاريخ الأمريكي ، فإن يهود أمريكا يقولون : " لم نعد نشعر بأننا نعيش في ( دياسبورا ) كشتات ، الولايات المتحدة لم يعد لديها حكومة من دون اليهود ، ولكن إدارة اليهود هم شركاء كاملون في صنع القرار على كل المستويات " .
( رحيم ايمانويل ) هو مثال ، يكتب ( باريوسف ) ، عن اليهودي المؤيد . المراسل الاسرائيلي زار كبير مستشاري كلينتون في مكاتبه المجاورة لمكتب الرئيس البيضاوي . لقد وجد ( ايمانويل ) – المستشار – من الداعمين الكبار لاسرائيل . والد ( ايمانويل ) كان عضواً في منظمة ( كلاندستاين ) الارهابية ، بأمرة ( ببغن ) ، ومن ثم انتقل الى أمريكا ، حيث لود ( ايمانويل ) . رغم سكنه في أمريكا ، فإن الوالد علّم الابن أن يمضي كل صيف في اسرائيل . عندما اندلعت حرب الخليج ، تطوع هذا المواطن الأمريكي وبسرعة للخدمة لمدة شهر في الجيش الاسرائيلي ، من خلال وحدة المتطوعين عين الخارجية ( ما وراء البحار ) ( كما ذُكر سابقاً ، فإن الولايات المتحدة تسمح للمواطنين الأمريكيين بالخدمة في الجيش الاسرائيلي ) .
بالكتابة عن مفاوض السلام في الشرق الأوسط ( دنيس روس ) يقول ( باريوسف ) عنه بأنه " يهودي محبّ " آخر ، بالاضافة الى ذلك فإن الاسرائيليين يقدّرون "روس" لانه صديق لهم ، "روس" تربّى في بيئة يهودية ، ودخل الى مدرسة يهودية ، ولكن، يقول "باريوسف": " هذه كانت خبرة اجتماعية أكثر منها يهودية " ، ويضيف: "اسرائيل هي التي جعلت منه يهودياً مؤيداً".
عندما بدأ " روس " زيارته لاسرائيل ، درس العبرية وأصبحت جذوره اليهودية أكثر أهمية ، ومهمة لدرجة ( هذا ما قاله لـ " باريوسف " ) أن كونه يهودياً – يهوديته – تؤثر على مواقفه في كل الأمور .
الكاتب الاسرائيلي ينهي مقاله بالقول إنه بينما كان التأثير السياسي اليهودي ظاهراً وواضحاً في أمريكا في عقود سابقة ، اليوم ، وتحت الادارة الحالية الأمريكية و " النفوذ اليهودي يمكن أن يوصف بالقوي " .
نتذكر كلنا القصف على قاعدة " الأمم المتحدة " في ( قانا ) عام 1996 عندما قتل الاسرائيليون أكثر من 100 مدني ، احتموا هناك. صحافي اسرائيلي " آرييه شافيت " يشرح لماذا شعر الاسرائيليون بأنهم يستطيعون قتل المدنيين من دون عقاب : " نحن نؤمن وبكل ثقة بأنه في الوقت الحالي ، وفيما البيت الأبيض في قبضتنا ، والنواب في قبضتنا ، ونيويورك تايمز في قبضتنا ، فإن حياة الآخرين ليست مهمة كحياتنا " .
الإسرائيليون ، اليوم ، كما يشرح اليهودي ( شاحاك ) المعادي للصهيونية : " لا يؤسسون دينهم على أنه دين العدالة ، لا يتقبلون الوصايا القديمة كما هي مكتوبة . في الواقع ، إن اليهود المتدينين يتحولون إلى ( التلمود ) ، بالنسبة لهم ، قوانين اليهودية التلمودية أصبحت " التوراة " ، وتعاليم " التلمود " تسمح لليهودي بقتل غير اليهودي من دون عقاب .
الخطر ، بالطبع ، بالنسبة الى مسيحيي أمريكا ، هو أنهم جعلوا من اسرائيل أيقونة . نحن نقع في فخ الصفح عما تفعله اسرائيل – حتى الجرائم الوحشية – إنهم يبررون ما يفعلون بقولهم إنها إرادة الرب .
أين نجد الجواب ؟؟
في الولايات المتحدة الأمريكية : الذين يعرفون ماذا يجري في الشرق الأوسط هم أقلية . آخرون لا يعرفون لأن الصهاينة اليهود والمسيحيين ... يوجهونهم سياسياً عبر الاعلام ووسائل أخرى ليروا الاسرائيليين على أنهم الأخيار والعرب عامة ، والمسلمون خاصة ، على أنهم الأشرار .
رغم أن مسيحيي أمريكا الذين يعرفون الوجه الحقيقي للصراع العربي – الاسرائيلي هم أقلية في بلادنا ، لدينا نموذج لنتبعه، هذه رسالة المسيح أن نكون شهوداً ونتحمل هذه الرسالة .
لقد استمرينا في الحياة رغم الصعاب الكثيرة لأننا وبكوننا أولاد الله الواحد لدينا الايمان . ( في النهاية ستسود العدالة).
في هذه الأثناء ، من واجبنا أن نتكلم بالنيابة عن أولئك المقهورين ، المعذبين ، المسجونين ، فقط لأنهم فلسطينيون ، لا أن نتكلم بلطف وبكياسة ، وبتقرب خجول ... ولكن لنتكلم بصراحة ، وبجرأة – لا أن نخشى أن ننقد اليهود والدولة اليهودية للرعب ومجازر ( الهولوكوست ) الحديثة التي يقومون بها : لتكن شاهداً على المرء أن ينتقد أمريكا لدورها أو معيارها الثنائي، لأنها تسمح لصهيون بالسيطرة على اعلامنا ، وعلى كنائسنا .
ويجب علينا أن نوبّخ وزراء أمريكا لأنهم غالباً ما يجعلون من أرض اسرائيل أرضاً للعبادة بدل أن يدافعوا عن الناس المعذبين، ومن السهل على أي واحد منا ، أن ينحاز الى القوة ، لكن علينا ، كوننا أطفال الرب الواحد العادل الرحيم ، أن نجنّد أصواتنا ، وشجاعتنا ، لقول الحقيقة ...
..... يتبع