الاستيطان والهجرة في الفكر الصهيوني 1864-1939
سميح شبيب:-
يُشكل الاستيطان، حجر الزاوية في الفكر الصهيوني، وأساسا من أسس بناء الدولة العبرية. ويختلف الاستيطان الصهيوني، اختلافا جوهريا عن غيره من الأنماط الاستيطانية الأخرى التي شهدها العالم. ذلك أنه يرتكز على أبعاد عدة، يأتي في مقدمتها الدين والأسطورة. وبالتالي محاولة خلق حقائق كيانية داخل التجمعات الفلسطينية العربية، بغية مضايقتها ومن ثم طردها.
لعله من المفيد، محاولة إعادة قراءة الفكر الاستيطاني الصهيوني منذ بداياته، ذلك أن تلك البدايات لا تزال قائمة في شكل أو آخر، داخل الأطر والمناهج السياسية الإسرائيلية المعاصرة.
البدايات
من الممكن اعتبار مرحلة طرد اليهود من إسبانيا سنة 1492، نتيجة من نتائج الصراع الديني القائم هنا بين اليهودية والمسيحية، فاليهود الذين طردوا من إسبانيا (وهم الذين عرفوا فيما بعد باسم اليهود السفارديم – نسبة إلى سفارد- (إسبانيا بالعبرية) ويطلق عليهم عامة اسم اليهود الشرقيين، الذين توجهوا إلى المناطق التي كانت خاضعة للحكم العثماني في أوروبا وآسيا، بينما وصل بعضهم إلى فلسطين.(1)
كان اليهود في فلسطين، حتى منتصف القرن التاسع عشر، وقبل وصول طلائع المهاجرين الصهيونيين من روسيا ورومانيا إليها، أقلية ضئيلة بين السكان العرب، تعيش في نحو عشرة أماكن مختلفة من فلسطين. ويعود وجود اليهود في فلسطين في العصور الحديثة، إلى نهاية القرن الخامس عشر، أي بعد وصول السفارديم إليها.
ووفقا لما ورد في الكتاب السنوي الإسرائيلي، فإنه كان في فلسطين سنة 1822 ما يقارب 24 ألف يهودي.(2)
ويبدو أن هذا الرقم قريب من التقدير العثماني، ذلك أن السلطات العثمانية، لم تقم بإحصاءات رسمية للسكان يمكن الاعتماد على نتائجها، لكن ومع ذلك، فقد بلغ عدد سكان فلسطين، وفقا للإحصاءات التقديرية في منتصف القرن التاسع عشر نحو نصف مليون نسمة، 80% عرب مسلمون، و10% عرب مسيحيون، وربما 5%-7% يهود.(3)
ونظراً لقلة عدد اليهود في فلسطين، فقد أخذت الأفكار الصهيونية تتبلور خارج فلسطين والمنطقة العربية عموماً، منذ نهايات القرن الثامن عشر، وبدأت الدعوات لاستيطان فلسطين وتشجيع الهجرة اليهودية إليها، تظهر بوضوح. وفي هذا السياق، وضع زفي هيرش كاليشرKalisher H.Z (1795-1874) كتاب “السعي لصهيون”. وجاء فيه: إن خلاص اليهود لا يكون على يد مسيح منتظر، وإنما عن طريق الجهد البشري اليهودي، لتخليص أنفسهم بالمبادرة إلى بناء مجتمع يعتمد على ارتباط اليهودي بأرض يزرعها تكون بمثابة وطن قومي له، ولا يتم ذلك إلا في فلسطين”.(4)
ولتحقيق فكرته، قام كاليشر بخطوات عملية، فطلب من الممولين اليهود المساهمة في تكوين جمعية هدفها استثمار فلسطين، وبالتالي تشجيع يهود شرقي أوروبا وألمانيا على الهجرة إليها. وقد استطاع كاليشر، من خلال جهده الدؤوب، تأسيس “جمعية استثمار أرض إسرائيل” سنة 1864. وكانت متعاونة مع الأليانس الإسرائيلي العالمي، وأقامت أول مدرسة زراعية يهودية في فلسطين عند مدخل مدينة يافا سنة 1870، وعرفت باسم مدرسة نِتر “Netter”. ومنذ إقامتها، قام الفلاحون الفلسطينيون بمعارضة إنشائها، وحدثت مشاكل حول حدودها، ذلك أن الفلاحين الفلسطينيين لم يرحبوا بوجود مؤسسة أجنبية تتوسط قراهم. (5)
وفي سنة 1882، وضع د.ليو بنسكر (1812-1891) –واسمه الحقيقي يهوذا لايب، كتاب التحرر الذاتي “Auto Emancipation” طالب فيه بحل المشكلة اليهودية، وقال: “أن اليهود أينما وجدوا ينظر إليهم على أنهم غرباء، ومن أجل ذلك كانوا يحتقرون، وأن التحرر الحقيقي هو في خلق قومية يهودية للشعب اليهودي، ليعيش هذا الشعب على أرض موحدة ومحددة”.
وطالب بنسكر بعقد مؤتمر يهودي عالمي، هدفه شراء أرض تستوعب استيطان ملايين عدة من اليهود، دون أن يحدد فلسطين مكانا لها.(6)
ونظراً لأهمية كراس “التحرر الذاتي”، فقد اعترف ثيودور هرتزل بقيمته ودوره، وذكر بأنه لم يطلع عليه، إلا بعد نشر دعوته لقيام الدولة اليهودية عام 1896 وأضاف، أنه لو اطلع عليه من قبل لما وجد هناك مبرراً لنشر آرائه المشابهة في كراس “الدولة اليهودية”.(7)
وعملياً، فقد بدأت الهجرة اليهودية من روسيا إلى فلسطين، سنة 1881، وكانت شديدة العنصرية وضعيفة التنظيم، وجاءت، تلك الهجرة، بعد اغتيال قيصر روسيا اسكندر الثاني في آذار (مارس) 1881، وكنتيجة لاشتراك يهود فيها تبعتها هجرات، اتجهت في غالبيتها العظمى إلى غرب أوروبا والولايات المتحدة، وهاجر بعضها إلى فلسطين، وأطلق اسم “هواة صهيون” أو “أحباء صهيون” حوفيفي تسيون Lovers of Zion على حركة المهاجرين اليهود من روسيا وبولونيا ورومانيا إلى فلسطين، وهم الذين أنشأوا المستوطنات اليهودية الأولى في البلد، وفق أسلوبهم السياسي، وذلك عبر الهجرة الأولى 1881-1904. (
وفي بريطانيا، تأسس اليانس إسرائيل Anglo Jewish Association سنة 1870. وفي العام 1873، تأسس اليانس إسرائيلي في ألمانيا. وتمكن يهود من الأليانس المذكور، بالتعاون مع يهود من القدس، من شراء مساحة من الأرض، أقاموا عليها مستعمرة بيتح تكفا Peta Tekivah (أي بوابة الرجاء) في اللغة العبرية، وذلك في العام 1878.
في السياق ذاته، نجح رئيس الأليانس، أدولف كريميه –النائب اليهودي في مجلس النواب الفرنسي سنة 1868، في الحصول على ميثاق من السلطان العثماني عبد العزيز، يمنح الأليانس أرضاً مساحتها 2600 دونم بالقرب من يافا، وذلك بموجب عقد إيجار مدته 19 عاماً لإنشاء مدرسة زراعية، وقد تم بناء المدرسة عام 1870، بالتعاون مع البارون إدموند روتشيلد، وعرفت باسم مدرسة مكفيه إسرائيل “أمل إسرائيل”.
في سنة 1871، أسس الحاخام يهودا شيلوم حاي القلعي جمعية لاستعمار الأراضي في القدس، وكان يهدف من وراء ذلك إلى تخليص اليهود من الشتات، باعتبار أن فلسطين هي السبيل الوحيد أمام اليهود، ذلك أن الهجرة إليها تعني التوبة، والتوبة لا تعني فقط العودة إلى الله، وإنما العودة إلى الأرض أيضاً، والبحث عن صهيون.
إلى هذا قام روتشيلد، بتمويل عمليات الاستيطان، وساعد اليهود منذ العام 1877، بواسطة الزعيم الروسي واينبرغ، الأمر الذي أسهم في بناء المستعمرات الخمس الأولى، ومدها بالأموال.
في رومانيا، أسست أول جمعية لهجرة اليهود في بوخارست، سنة 1880، وتمكنت سنة 1882 من شراء 270 دونماً في الجاعونة، وأسّسوا مستوطنة روش بينا (رأس الزاوية). وفي 2 تشرين الثاني (نوفمبر) 1882، أقام مهاجرون من رومانيا مستوطنة زماين (زخرون يعقوب). وفي خلال السنوات 1882-1884 وصل عدد المستوطنات التي أسستها طلائع الهجرة الأولى في فلسطين إلى ثمانية. وهكذا بدأ التسلل الاستيطاني الصهيوني إلى فلسطين، وبذلك يمكن اعتبار عام 1882، نقطة تحول هامة في تاريخ فلسطين خلال القرن التاسع عشر، حيث سجلت الهجرة اليهودية إلى فلسطين، أولى خطاها المنظمة، ذات الأغراض السياسية من أوروبا إلى فلسطين.
وفقاً للمصادر البريطانية، فقد تمكن اليهود منذ سنة 1882، وحتى سنة 1914، من شراء ما مجموعه 420,600 دونماً من أراضي فلسطين. وكانت وسائط الشراء الأساسية، المؤسسات والأفراد الذين حصلوا على 404,200 دونماً منذ الهجرة الأولى وحتى الحرب العالمية الأولى، والصندوق القومي اليهودي (الكيرن كايمت)، الذي حصل سنة 1914 على 16,400 دونماً كما يوضحها الجدول رقم 1.(9) الاستيطان الزراعي اليهودي 1882-1914 (10).
جدول رقم (1)
العام الأراضي المشتراة بواسطة الصندوق القومي اليهودي (بالدونم) المستوطنات الزراعية بواسطة الآيكا والأفراد (بالدونم) المجموع (بالدونم) عدد المستوطنات السكان
1882 — 25.000 25.000 5 500
1890 — 107.100 107.100 14 2.770
1900 — 220.70 220.700 22 4.950
1914 16.400 404.200 420.600 47 11.580
المستوطنات اليهودية في فلسطين قبل انعقاد المؤتمر الصهيوني الأول 19-21/8/1897 بازل –سويسرا كما يوضحها الجدول رقم (2)
جدول رقم (2)
الرقم الاسم سنة التأسيس
1 مكفيه يسرائيل 1870
2 بيتح تكفا 1878
3 روش بينا 1882
4 ريشون ليتسيون 1882
5 زخرون يعقوب 1882
6 يسودها هامعليه 1883
7 نس تسيونه 1883
8 عقرون (مزكيرت باتيه) 1883
9 غديره 1884
10 بيتر طوفيا 1887
11 بات شلومو 1889
12 ميئر شافيه 1889
13 مشمار هايردن 1890
14 رحوفوت 1890
15 الخضيرة 1890
الموقف العثماني
تنبهت السلطة العثمانية لمخاطر الهجرة اليهودية إلى فلسطين وإقامة مستوطنات فيها منذ بدايات الحركة الاستيطانية. وعليه أصدر الباب العالي سنة 1855 قانوناً يمنع الأجانب بموجبه من الاحتفاظ أو شراء الأراضي في فلسطين. وفي سنة 1869، أصدر الباب العالي قانوناً آخر عرف باسم نظام استملاك التابعية الأجنبية للأملاك. وفي شباط (فبراير) 1887، صدرت أوامر جديدة في شأن الهجرة اليهودية وجهت إلى متصرفي القدس ويافا، تعلمهما بأنه سيسمح لليهود بدخول البلاد كحجاج أو زوار فقط، وعلى كل يهودي يصل إلى يافا أن يدفع 50 ليرة تركية لقاء تعهده بمغادرة البلاد خلال 31 يوماً.(11)
وفي سنة 1882، أصدر الباب العالي قوانين عديدة خاصة بالهجرة اليهودية إلى الدولة العثمانية، ومع ذلك استمرت جهود اليهود، بغية إقناع السلطان عبد الحميد بضرورة العدول عن هذه القوانين. وفي هذا السياق، حاول الزعيم الصهيوني هرتزل، إقناع السلطان عبد الحميد، بفوائد الهجرة اليهودية إلى فلسطين عبر وسائل شتى، لكن جهوده لم تثن السلطات العثمانية عن التمسك بقانون منع اليهود من الإقامة في فلسطين.(12)
لكن تلك القوانين والتشريعات، لم تَحل دون استمرار الهجرة وتأسيس المستوطنات، ذلك إن جمعيات الاستثمار اليهودية، كانت تواصل أنشطتها في فلسطين، عبر الأساليب غير القانونية، معتمدة على شراء الأراضي من الإقطاعيين، منتهجة أسلوب الرشوات مع الإدارة التركية الفاسدة، كي تتغاضى عن عمليات الشراء. وكانت أسرة سرسق تملك وحدها مساحات شاسعة في فلسطين تتاجر بها وتستثمرها. يقول هرتزل في يومياته “جمعية الاستمثار اليهودي تتفاوض مع عائلة رومية اسمها سرسق، من أجل شراء سبعة وتسعين قرية في فلسطين ويعيش هؤلاء الروم في باريس، وقد خسروا أموالهم في القمار وهم يريدون بيع ممتلكاتهم وهي 3% من مساحة فلسطين”.(13)
ومنذ بدء الاستيطان. لاقت الجهود الصهيونية معارضة رسمية وشعبية واضحة، وفي هذا السياق أرسل سيلاميرل، القنصل الأميركي في القدس، في العام 1891، تقارير إلى حكومته، يشرح فيها الوضع السياسي وموقف الحكومة العثمانية من المهاجرين اليهود، ورد فيها: “أن تركيا المسلمة لن ترضى بإقامة مملكة لليهود في فلسطين، وأن فلسطين بلد فقير، وإذا ظلت الهجرة اليهودية في تدفقها الحاضر، فإن النتيجة ستكون وبالاً على اليهود وعلى سكان البلاد الأصليين معاً، وأن المسلمين لن يسمحوا لليهود بإنشاء دولة في فلسطين”.(14)
وإزاء ذلك، كانت الحركة الصهيونية، تلجأ إلى الأساليب الملتوية وغير الشرعية لإقامة المستوطنات، ومن الأمثلة على ذلك، أن الحكومة التركية، سبق لها وأن عزمت على بيع قطعة أرض تابعة لقرية عيون قارة، جنوب مدينة يافا (12 كلم). وذلك بسبب عجز أصحابها عن دفع الضرائب المستحقة عليهم. وحينذاك، حاولت “كتيبة طلائعي يسودها معليه” وهي كتيبة تنظيم روسية تعمل على شراء الأرض، لكن والي القدس رفض بيعها لليهود، فتدخل نائب قنصل بريطانيا في يافا، وتمكن من شراء المساحة المعروضة للبيع، وكانت مساحتها زهاء 3.340 دونماً، وقام بتحويلها إلى المهاجرين اليهود، وفي آب (أغسطس) 1882، وصلت عائلات روسية إلى فلسطين، ووضعت الأسس لقيام مستوطنة، أطلق عليها اسم ريشون ليتسيون (الأولى لصهيون)(15)، ويذكر في هذا السياق، إدراك الباب العالي، ومنذ البدايات، لأبعاد المخاطر السياسية الكامنة وراء الاستيطان. ولعل ما كتبه السلطان عبد الحميد في مذكراته(16)، من شأنه الكشف عن ذلك، يقول السلطان عبد الحميد: “إن الصهيونية لا تريد أراض زراعية في فلسطين لممارسة الزراعة فحسب، ولكنها تريد أن تقيم حكومة ويصبح لها ممثلون في الخارج. إنني أعلم أطماعهم جيداً، وإنني أعرف هذه السفالة لأنهم يظنون أنني لا أعرف نواياهم، ولن أقبل بمحاولاتهم، وليعلموا كم فرداً في إمبراطوريتنا يكنّ لليهود من الكراهية، طالما هذه نواياهم، وأن الباب العالي ينظر إليهم مثل هذه النظرة، وأنني أخبرهم أن عليهم أن يستبعدوا فكرة إنشاء دولة في فلسطين، لأنني لا زلت أكبر أعدائهم”.
ولعل في ذلك ما يفسر دور اليهود وحركاتهم في ثورة 1908، وخلع السلطان عبد الحميد الثاني سنة 1909.(17)
وعلى الصعيد الشعبي قام الفلاحون الفلسطينيون من أبناء قرية (الجاعونة) قضاء صفد، بالهجوم على مستعمرة روش بينا سنة 1883، وفي السياق ذاته، شن الفلاحون المطرودون من أرضهم في الخضيرة وملبِّس، هجوماً على مستوطنة “بيتح تكفا”، وذلك في آذار 1886. وفي أواخر تشرين أول (أكتوبر) 1888 شهدت مستوطنة غديرة هجوماً عليها، كما شهدت مستوطنة رحبوت في آذار (مارس) 1893 هجوماً مماثلاً، وكذلك مستوطنة بيئر طوفيا، سنة 1896، وفي سنة 1901 ضد الخضيرة.
وعلى الصعيد السياسي، أبرق وجهاء القدس في العقد الأخير من القرن التاسع عشر إلى الصدر الأعظم، يعبرون عن تخوفهم من دخول أعداد كبيرة من المهاجرين اليهود، يطالبون بمنعهم من دخول فلسطين، نظراً لعدم مقدرة المسلمين من السكان على منافسة المهاجرين اليهود لهم، في النواحي الاقتصادية، مما ينجم عنه سوء الحالة الاقتصادية للسكان.(18)
وعقب إقرار برنامج بال سنة 1897، تركزت الجهود الفلسطينية على الحيلولة دون تسرب أراضِ أخرى للصهيونية، ومن أجل هذا ترأس مفتي القدس، محمد طاهر الحسيني، هيئة محلية ذات صلاحيات حكومية مهمتها التدقيق في طلبات نقل الملكية في متصرفية القدس، الأمر الذي أسهم في الحيلولة دون حصول اليهود على أراضِ زراعية جديدة لسنوات عديدة، كما أسس الفلسطينيون في يافا سنة 1897 الحزب الوطني لمحاربة الصهيونية، وعدّ الحزب التعامل مع الصهيونية جريمة قومية.(19)