كيف بدأت النهضة الأوروبية ولماذا؟
قراءة تأريخية لسياق النهضة التي بدأت في إيطاليا.
أصل البحث باللغة الإنجليزية من ترجمة الكاتب نفسه.
ملاحظة مهمة. يعتمد كتّاب العرب في تعريف فترة الرينيسانس الأوروبي، على ترجمات غير دقيقة وغير أمينة، في وصف هذه الفترة بالنهضة. مصطلح الرينيسانس الذي استعمله أول مرة جيورجيو فاساري باللغة الإيطالية، وهو (رينيشيتا)، لا يعني النهضة على الإطلاق. ومن ثم فإن ترجمة الهيومانيزم بالإنساني، والقول إن الإنساني جاء للتعبير عن الدنيوي مقابل الديني، ليس قولًا خاطئًا فحسب، بل وخيانة مقصودة لمبادئ العلم، يراد من خلف ذلك تمرير مفاهيم معينة لا أساس لها ضد دين معظم الناس في بلاد المشرق وتحديدًا الإسلام. الهيومانيستيون كانوا متدينين، ويدينون بالولاء للمسيحية. والإصلاح البروتستانتي ليس سوى حركة أصولية سلفية، كان هدفها العودة إلى الأصول. لذلك فإنني أستعمل مصطلح الهيومانيزم كما في اللغة الإنجليزية، ومصطلح الرينيسانس الذي يعني (الولادة من جديد) كما هو أيضًا في الإنجليزية، لأن المعنى العربي يوحي بالمبهم وبما يُظن في غير محله. أضفت على النص العربي إضافات تلائم السياق المراد إيصاله للقارئ العربي. يونيو (حزيران) 2012.
تمهيد
تشكل فترة عصر الرينيسانس أهم مرحلة في التاريخ الأوروبي. وتعتبر هذه الفترة من الزمن، نقطة انطلاق تغيير كبير في الخارطة السياسية والثقافية لأوروبا. بدأ عصر الرينيسانس في إيطاليا وخاصة في فلورنسا في القرن الرابع عشر. ليس هناك شك في أن القرن الخامس عشر هو بداية تتويج عصر الرينيسانس بتشابكاته وتقاطعاته عبر ظروفه وعوامله. وتزامن صعود عصر الرينيسانس مع ظهور جانبين مهمين. الجانب الأول، هو السلطة الجديدة التي ظهرت في جمهوريات المدن في شمال ووسط إيطاليا، والتي كانت تحكمها أسر متنافسة من التجار المصرفيين والتجار البحّارة. والجانب الثاني هو الثقافة الجديدة التي سميت بالهيومانيزم التي تشكلت تدريجيًا عبر مراحل. ثقافة الهيومانيزم متداخلة مع تطور مجتمع الرينيسانس، عبر علائق بالنظام السياسي الذي مر بمخاض عسير. وتزامنت هذه الجوانب مع مشاركة وتورط المؤسسة الدينية المسيحية الكاثوليكية، وشؤونها الدينية والمدنية السلطوية، مع قضايا البابوية وهيمنتها على السياسة.
الرينيسانس باختصار، تعني ولادة جديدة أو الولادة من جديد. ويعني هذا أساسًا، إحياء الآثار الكلاسيكية للإمبراطورية الرومانية وإعادتها إلى المسيحيين الأوروبيين، باعتبارهم ورثة هذا التراث. تأثر الهيومانيزم الديني بطريقة إحياء تراث العصور الكلاسيكية القديمة، وبدأ بمراجعة العلاقة مع المؤسسة الدينية ولا سيما نصوصها، العهدين القديم والجديد. وقد تجلى هذا في الحركة الهيومانيزمية في جميع أنحاء المدن الإيطالية في القرن السادس عشر، راسخًا بعمق في المجتمع الإيطالي. وعلاوة على ذلك، ظهر الفن بتأثير العوامل السياسية والدينية المتشابكة. يمكن أن تعزى فكرة الرينيسانس إلى فرانتشيسكو بيترارك (1304 – 1374)، الشاعر الإيطالي الذي يمثل نقطة تحول هامة من خلال زيارته لروما في 1337م .
شعر بيترارك بحزن بالغ، بسبب انهيار الحضارة الرومانية. وكانت بقايا هذه الحضارة لا تزال هناك؛ حيث كان الناس يرونها بأعينهم. وهكذا، كانت إمكانية إعادة ربط الناس بها ممكنة في ذهن بيترارك وآخرين.
كان حلم إعادة هذا التراث، أو عودة الحكم الروماني موجودًا لدى الناس الأوروبيين، منذ اختفاء الإمبراطورية الرومانية، لأن الشعوب الأوروبية حلمت بعودة الإمبراطورية الرومانية لإعادة توحيد أوروبا. لذلك، تبلورت هذه الفكرة من قبل الناس الأوروبيين، وترسخت في معتقداتهم. كان من المهم للشعب الأوروبي أن تعود الحضارة الرومانية من جديد. وقد خلقَ هذا الحلم والمصالح الخاصة أيضًا (كالتقرب من أصحاب السلطة والمال)، جوًّا، أغرى العديد من المثقفين مثل بيترارك وفلافيو بيوندو (1388 – 1463)، للحديث عن إمكانية إحياء هذا التراث من خلال ربط الناس بالماضي: بالحضارة الرومانية. وكانت هذه نقطة تحول رئيسية في هذا الحلم، لمناقشته ودراسة إمكانيات جعله حقيقة في الواقع.
إذن الحلم تحول إلى مفردة يتداولها نفر من الناس في إيطاليا سرعان ما تحول الحلم من مفردة إلى أدوات تستمد جذورها من التراث. ومن المفيد هنا أن نعلم، أن الكلاسيكيات الرومانية تشكل أحد بعدي الهوية الغربية التي تتكون في وجودها القانوني على أسس الكلاسيكيات الرومانية. البعد الآخر هو بعد ثقافي تبلور وتكوّن من التراث المسيحي اليهودي. أي أن للغرب جناحين، جناحًا قانونيًا رومانيًا، وجناحًا ثقافيًا مسيحيًا يهوديًا مع التزاوج الحاصل بين الجناحين عبر قرون.
مصطلح الرينيسانس وبداية ظهوره مع خلفيات تأريخية
أول من استعمل مصطلح الرينيسانس هو جورجيو فاساري (1511-1574)، باللغة الإيطالية. كان فاساري
واحدًا من الهيومانيستيين البارزين في إيطاليا، حيث استعمل كلمة (رينيشيتا أو ريناشيتا: أي الولادة أو البعث من جديد) كتعريف لجهود ونتاج ما سبقه من المثقفين المهتمين بدراسة الكلاسيكيات. ومع ذلك، فإن ولادة جديدة لم تكن متاحة بشكل متكافئ وبمنهجية واضحة وموحدة، بين جميع المدن وكذلك بين المفكرين والمثقفين. ولكن الأهم أنه تم العثور على قضية رئيسية في عصر الرينيسانس، وهي تطوير شروط الحرية والحداثة والعقلانية، عبر مراحل زمنية طويلة أخذت جهودًا كبيرة، لم تكن منضوية تحت تخطيط واتفاق مسبقين نحو هدف أو أهداف معينة.
كما أن هذه المفاهيم (كالحرية والحداثة والعقلانية) لم تكن مشاعة، كما نحن نظن اليوم بالنسبة لتلك المراحل. لكنها نمت في أوقات متأخرة في عصر النهضة بأشكالها البدائية، ومن ثم تطورت في القرون اللاحقة في عصر التنوير وما بعد. وعلاوة على ذلك، أصبح في عصر الرينيسانس جوانب أكثر ابتداعًا، بدلًا من العلاقة المجردة مع الماضي الروماني. لكن هذا الأمر حدث بعفوية عبر العمل والخبرة التي تطورت بمرور الأيام، كمنطق طبيعي لجوهر الأشياء في حركتها. ويمكن ملاحظة هذا التطور في القرنين الخامس عشر والسادس عشر. واستغرق الأمر وقتًا طويلًا، أي أنه لم يأت بيوم وليلة، بل وإن تلك الشروط تجسدت في مراحل ما بعد الرينيسانس، في عصري التنوير والحداثة.
حدث الرينيسانس في إيطاليا لأسباب. وترتبط هذه الأسباب، بطريقة أو كيفية تطور القوة السياسية في إيطاليا في العصور الوسطى.
كما ذكرنا سابقًا، ترتبط فكرة الرينيسانس بمفهوم إعادة توحيد أوروبا تحت حكم واحد وقانون واحد (مثل إمبراطورية روما). وضعت هذه الفكرة على أرض الواقع من قبل شارلمان الإمبراطور الروماني المقدس (حكم بين 768-814)، الذي كان الإمبراطور الأول منذ انهيار الإمبراطورية الرومانية الغربية. على الرغم من أن إمبراطورية شارلمان
لم تدم فترة طويلة، ولكن إيطاليا أصبحت منذ ذلك الوقت خاضعة للـ«إمبراطورية» الكارولنجية التي بدأت بتتويج شارلمان (كان نابليون بونابارت، يشبه نفسه بشارلمان، في ما يخص فكرة توحيد أوروبا التي كانت مركز اهتمام أدولف هتلر أيضًا) .وفكرة الوحدة الأوروبية اليوم قائمة على قدم وساق، رغم التحديات الكثيرة، لكن الحلم الطويل للأوروبيين لم يتحول يومًا إلى سخرية في أحاديثهم بشأن ذلك (كسخرية أوساط مثقفة من الحديث عن توحيد بلاد المشرق أو الإسلام)، بل وانعكس في الأعمال الأدبية والفنية مثل فيلم (Lord of the Ring)، الذي يتحدث عن عودة الملك الذي يوحد أوروبا (مضمون الفيلم). والأهم من ذلك أن فكرة أوروبا موحدة، ظلت نقطة رئيسية في جميع مراحل التاريخ الأوروبي، على الرغم من اختلاف طبيعة الحكم والسياسات والأنظمة، منذ شارلمان وإلى يومنا الحاضر، مرورًا بالقرون الوسطى وعصر الرينيسانس ونابليون بونابارت والثورة الفرنسية، وإلى العصر الحديث وظهور النازية والفاشية، وإلى الوقت الحاضر حيث تسود الديمقراطية بلاد أوروبا.
البداية في إيطاليا وحرب وصراع أدّى إلى تكوين نواة النهضة
بدأ القتال من أجل استقلال المدن في وقت لاحق، وللحصول على شرعية الحكم كنقطة تحول مهمة وخطيرة في آن. بدأت الحرب مع الإمبراطورية الكارولنجية، تلك السلالة التي تعتبر مؤسِسة لمملكة فرنسا وألمانيا.
في إيطاليا، كانت سلطة الحكومة المدنية في أيدي الأساقفة الكنسيين، تحت إمرة الإمبراطور أو الملك الألماني. نسبيًا كانت إيطاليا أكثر تمدنًا وعمرانًا من باقي أوروبا، وكان هناك تحرك كبير من الريف نحو المدن، من قبل اللوردات الإقطاعية، من الخلفية الزراعية. في غمرة اكتظاظ المدن بالوافدين بدأت الصراعات بين الأساقفة واللوردات على السلطة من أجل: من الذي يحكم المدينة. هذا السياق أدى إلى التطور الكبير في السياسة والحكومات، والحكومات البلدية (أعضاء طبقة النبلاء اتحدت بسبب وجود مصالح مشتركة، ولم تكن رتبة النبل التي اكتسبوها مستمدة عن طريق الوراثة والدم، وإنما عن طريق التجارة). بدأت الشرعية في الظهور في شمال ووسط إيطاليا، بمعزل عن سلطة الملك الألماني (استمرار الإمبراطورية الرومانية المقدسة).
اتحاد لومباردي ومعركة لينانو كمفصل تأريخي
لذلك، حدثت الحرب بين المملكة الألمانية وحكومات البلدية الإيطالية (اتحاد لومباردي) في معركة لينانو (Legnano) في 1176. أسفرت هذه المعركة في اعتراف الإمبراطورية الرومانية المقدسة بالحكومات الكوميونية (أي حكومات جماعات معينة، لها اهتمامات ومصالح مشتركة: تجار، تجار بحريين والإقطاع). وهناك تطور آخر حدث بعد فترة، بين Popolo (الناس)، وطبقة النبلاء، على أساس السلطة والكيفية التي ينبغي أن تخضع لها السياسة، وكذلك في ما يخص سن القوانين أيضًا. حكومة بوبولو في نهاية المطاف (التجار البحريين والمصرفيين والتجار الذين لم تكن لديهم شرعية عن طريق الدم والنسب، كما الحال في أوروبا كلها)، سادت المدن الإيطالية بشكل غير قانوني (لأن السلطات لم تكن بيد من لهم الحق في الحكم، عن طريق الوراثة الشرعية أي النبلاء).