عقدة نقص العرب و المسلمين مرفرفة في قناة الجزيرة
لدى أكثرية العرب و المسلمين عقدة نقص حادة أمام الغرب و الغربيين. بل، هناك تنافس محموم بين أبناء العرب و المسلمين لتقليد الغرب في طرائق حياتهم. لكن هناك مصدات نفسية كثيرة، تشوش بدرجات متفاوتة هذا التنافس الذي يرمي جوهريا إلى التحول غرباً. يأتي في مقدمة هذه المصدات الدين و التراث و العادات الخ. لكن يبقى الدين المصد الأقوى. إلّا أن الإلتفاف على الدين ليس صعبا، لإماطة الأذى عن طريق التغريب، وبالتالي المضي قدما نحو الذوبان في الغرب و حضارته. كل ما هو ضروري هو الإستمرار في محاولة التغريب على المستوى الفردي و الجماعي، و لكن بإضفاء شرعية دينية و لباس ديني. مثلا تجد أحدهم و هو يقوم و يقعد وفق هوى غربي في حياته، لكنك تجده محافظا على بعض المظاهر التي توحي أنه مازال متمسكا بدينه كاللحية و البنطلون القصير، و الحجاب الضيق المودرن للمرأة، وهكذا قس أمثلة أخرى. هذا يدل على أن تأثير الغرب في نفوس العرب هو تأثير عميق و كبير. وهذا التأثير غائر في العمق، على مستوى العقيدة ثم على مستوى النظام السياسي و القانوني، كأبرز سمتين من سمات أي مجتمع بشري. هذا التأثير وجد أدواته الفاعلة في الحملة الإعلامية الكبيرة التي تُشن ضد الإسلام و العرب، إلى حد تحولهما إلى منبوذَين عالميَّين. وفي هكذا حال، فإن الإنسلاخ من هذا المنبوذ يصبح همّاً وسلوكا يوميا، يمارسه الأفراد إلى أن يتحول إلى روتين طبيعي، لا يشعر معه حامله المقهور بأي حرج نفسي في ممارسة آداء مهامه اليومية المتغربة والمغتربة في آن، في الإنسلاخ المذكور الذي يتحول إلى سلوك لاوعي قائم. هذا الإنسلاخ إذاً مُرفقٌ بالموقف المُـتـشَـكَّـل من المنبوذ العالمي (أي الإسلام) الذي بسببه تجد عموم العرب و المسلمين وقد تحولوا إلى محللين، يبررون كل جزئية إسلامية تم لوي عنقها، أو رسمها بصورةٍ تناسب الغرب و توافق أهوائه. أو بطريقة أخرى، ينبذون ما لا يتوافق مع أهواء الغرب، عبر ختمه بالتقرير النهائي، أنه أمرٌ يخص الماضي الغابر ولم يعد نافذاً اليوم. هذا ما يؤكده مفتي حداثوي، أختير قبل أكثر من عام رئيساً لمشيخة إسلامية، قائلا في مقابلة مع قناة الجزيرة أن فقه الأولين ما عاد صالحا اليوم للمسلمين، وعليه فإن فقه الواقع، يجب أن يُستنبط في ضوء العلوم التجريبية الغربية مثل علم النفس و الإجتماع!
في هذه الحال المضطربة و القلقة، يمسي التمسك بالإسلام حملا ثقيلا لا يُطاق، في وقت يعمُّ جهلٌ مطبق المسلمين عموما و العرب خصوصا في مجال معرفة دينهم و تراثهم. من هنا تنشأ حالٌ لا تتوقف من الإستمرار في البحث عن سيد غربي مشهور أو سيدة غربية مشهورة من البيض الشقر، علّ أحدهما يتحول إلى مسلم، فينتشر الفرح بين المسلمين و يتخلصوا من الإحراج و الثقل الذي يؤذي نفوسهم كونهم متمسكين بالمنبوذ العالمي! إنها عملية إندفاع نفسية مؤلمة، أن تبحث عن القدوة الغربية في حياتك، ليتبع دينك، ومنه قدوة دينية لك، ليريحك من الثقال، و يساهم في خلق الإنسجام بين دينك المنبوذ عالميا، و قيم وأنماط الغرب التي يتنافس عليها الخلائق اليوم، لتجسيدها في حياتهم. وخلاصة القول، فإن العربي يتوسل الخلاص من الحمل النفسي الثقيل، وكأنه يقول للعالم أنظروا إلى هذا الغربي فقد تحول إلى مسلم، إذاً فإن الإسلام لا بأس به. تحوّل الإنسان الغربي إلى الإسلام، يزوّد الإنسان العربي المهزوز بدرجة معينة من الأمن و الطمئنينة والتخلص من الحرج. لأن كُنه العقل الباطن العربي يقول: لو كان الإسلام سيئاً، لما اعتنقه الغربييون أو مشاهير الغرب. لذلك، يحتفلون بالغربي الذي يعتنق الإسلام أيما إحتفال. أما بالنسبة للعربي، فإن اعتناق الإسلام من قبل الملايين من الفقراء السود أو الآسيويين فلا يشكل أي ميزة أو فرق، بل لا يستحق الإهتمام. إهتمام العربي مصبوب عند قدمي الغربي الأشقر، يحدق فيه كعبدٍ آبق، علّه يخطو خطوة نحو الإسلام أو ثقافة العرب، لينفجر العربي صخبا وإحتفالا بالقدوم المبارك. وهذا هو سبب الحرب الكلامية في مواقع التواصل التي اندلعت قبل فترة بين مجموعات عربية، على جنسية "التبولة و الفلافل" بعد رواجهما لدى السيد الغربي! فكل مجموعة من بلاد العرب، كانت تنسب جنسية التبولة والفلافل إليها تأريخيا وإبداعياً.
هذه الثقافة المهزوزة، مُجسَّدة تمام التجسيد في قنوات ومؤسسات العرب، و على الأخص قناة الجزيرة القطرية، مع فارق أن في الجزيرة من هو إعلامي على قدر كبير من الوعي و المسؤولية ويحظى بإحترام واسع. قبل فترة قصيرة، احتفلت قناة الجزيرة بـ"إسلام" مغنية أمريكية مغمورة و غير معروفة في أمريكا. يبدو أن هذه المغنية (جنيفر غراوت) من هواة الموسيقى الشرقية، و من هذا الباب عرجت على أصوات و ألحان، منها تلك المتعلقة بقراءة القرآن الكريم. يبدو أن دخولها في الإسلام يندرج ضمن نزهة هواية. لكن هواية هذه المرأة استهوت قناة الجزيرة التي فجرت إعجابها المدوي، الذي أمسى الخبر الذي ينتشر في العرب، انتشار النار في الهشيم. قبل أربعة أعوام كتبت عن هذا الوباء مقالا بعنوان ‘ظاهرة الإحتفال بإسلام الغربيين الشقر‘ و أمطُّ فيه اللثام عن الوجه الحقيقي لدوافع هذا الإحتفال. الغريب، أن شدة إحتفال العرب بهؤلاء الغربيين، سرعان ما تُحَوِّل الغربيين الجدد في الإسلام إلى نجوم و واعظين و أساتذة للفنون الإسلامية، بمجرد دخولهم الإسلام. مع العلم أن الأفارقة و الآسيوييون الفقراء الذين يدخلون الإسلام لا يثيرون في العرب شهوة التبريك والإحتفال، لأنهم يفتقدون إلى الجمال الذي يثير شهوة الجنس و الإغراء والإعجاب. ولو لاحظنا بدقة تمايل مذيع القناة و تصدحه بـ "الله الله" لصوت غراوت الباهت، لعلمنا أن مصدر الإعجاب هو للجمال و المقام (مقامها الأمريكي: هوية السيد) وليس للصوت. وهذا ما دفع الجزيرة و مذيعة لها أن تطلق على صوتها المتواضع بـ "الصوت الملائكي". مع العلم، لو صدر هذا الصوت من أحد هؤلاء الفقراء الذين يفتقدون إلى الجمال الظاهر، لوضعت هذه القناة و عمّالها أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم!
هذا الوباء له تأثيرات أخرى أكثر خطورة في حياة العرب، لا سيما النساء. فحين تجد المرأة العربية أن للجمال هذا السحر و هذا التأثير، فجلّ إهتمامها ينصب نحو الإهتمام بمظهرها و بدنها ولكن لتبدو بصورة تشبه المرأة الغربية. لذلك، فإن الرواج الأكبر في بلاد العرب والشرقيين هو لبازار المكياج و أدوات التجميل والتشبه بمشاهير الغرب. وهذا إنعكاس لعقدة النقص الحادة والمزمنة بين العرب (وطبعا الإيرانيين و المكونات الشرقية الأخرى أيضا)، وهي العقدة التي تكرّسها قنوات الإعلام العربية وعلى الأخص قناة الجزيرة. وهذه العقدة عويصة و متداخلة. فمن جهة يقتصر تعويض المصاب بالوباء على التشبّه المظهري بالغربي. ومن جهة ثانية، فإن ما يربط المصاب بأصله وذاته يختلف عما يملكه الغربي، أي أن الإنسان العربي يعي أن الفواصل بينه و بين الإنسان الغربي كبيرة و شاسعة، لذلك يهيم على وجهه ليجرّ معشوقه الغربي إلى نفسه وثقافته ليسمو به. فإذن محاولة رفع الصحن الذهبي أمام الغربي، لوضع قلادة الهوية الدينية للعربي حول رقبته، تأتي لتبديد ما يثير القلق الذي يبرز الفواصل والشروخ بين السيد الغربي و العبد الشرقي. والعبد الشرقي يقوم بهذا التعبد في طقوس الإعجاب و الإنبهار بسيده، ويتباهى برفع الصحن الذهبي أمامه، والأمثلة كثيرة، واحدٌ منها هو ما بدا في إبراز المغنية الأمريكية و غنائها العربي و إسلامها وما إلى ذلك. وغير هذا المشهد المخجل، على درب اللحاق بالغرب، ليس هناك مشروع قائم أو خطة لخلق ميدان حيوي للعرب، من أجل الدخول في حلبة المنافسة العالمية.، كأن يقوم العربي بإتخاذ التدابير و الخطط التي توصله مصاف الغربيين، على مستويات أخرى، غير مستوى الجمال الأنثوي، الآخذ بذكور الشرق و إناثه. فنساء الشرق، ومنهم نساء قناة الجزيرة، يتعبّدن للغربيات بتنحيف أردافهن وخصورهن وإبراز صدورهن و لواحق أخرى، في تحويل أطراف من البدن إلى ما يشبه الغربي، أو تحقيقا لمقاس الغربي و وصفه للجمال. أما هامات أحلام الذكور الشرقيين، فتنجرّ فوق الأرض وِجداً، وهم يتلمظون ليل نهار مفاتن الغربيات أو مقلِداتهنّ من الشرقيات. ولولا ذلك، لكان لزاما إتخاذ طرق أخرى غير هذا، للتنافس مع الغربي، بل والتفوق عليه، بدل اختزال هذه الرحلة الطويلة و المتعبة في استنساخ المظهر و التشبه الصوري به. والجميع يعلم أن للعرب أموالا كثيرة وهم أغنى من جميع أمم الأرض من حيث الواردات و الأموال وما إلى ذلك. ولكن الطرق والتدابير الأخرى نحو الإرتقاء و السيادة، تستدعي عقلا كبيرا و إمكانيات علمية عميقة و واسعة، وهو ما تفتقد إليه المؤسسات و الشبكات و القنوات العربية.
الإعجاب بالغرب و تقليده عند العرب لا يتجاوز المستوى الظاهري لكينونة الذوات و الأشياء. منذ عامين، طرحت على هذه القنوات إجراء مقابلات علمية مع مجموعة علماء غربيين، طُردوا من الجامعات و المؤسسات العلمية و الأكاديمية بسبب آرائهم المخالفة للتيار السائد في الغرب. وبدأتُ أول ما بدأت بإقتراح عالم ألماني مرموق، طُرد من عمله و أجبر على ترك الجامعة، فقط لأنه وقف ضد الداروينية الحديثة، التي هي رافد من الروافد الفكرية التي تزود النظام العالمي الجائر بالرؤى والنظريات التي يعاني عقابيلها شعوب العالم، ومنها الشعب العربي. لكن لم تستجب قناة واحدة من هذه القنوات لهذا الطرح الذي يفيد الإنسان العربي، أكثر من تضييع الوقت أمام مغنية أمريكية مغمورة، تريد أن تجد ضالتها الفنية بين العرب. والأكثر من هذا، قمت من جانبي بتسجيل لقاء علمي مع هذا العالم الألماني لمدة ساعة، وقام مفكر و أكاديمي عربي في بريطانيا مشكوراً بعرضه على قناة إعلامية خليجية، لعرضه على المشاهدين، لكنه بدا يائسا بعد عدة أشهر من المحاولة واختصرها بالقول "الوصول إلى مركز القرار في هذه القناة بات أمراً صعبا جدا"! لكن وصول المتسكع الغربي إلى أعلى سدة في هذه المؤسسات العربية، هو أسهل من شربة ماء، بل القنوات العربية تركض ورائه. على أن هذا المفكر و الأكاديمي كان قد طرح مشروعا مهما، قدمه إلى دولة خليجية، لكنه لم يتلق أي جواب منها. والغريب، أن الغربي الذي لا يقدم شيئا لهذه الدول العربية غير تحليبها و نهبها، وليس لديه أي إخلاص نحوها، يتصرف داخل شعوب الخليج وبين حكامه كسيدٍ ذو أبهة وسلطان وآمر ذو إباء و عنفوان. وهذا ما أدى إلى أن تكون ثقافة هذا السيد الأجنبي أكثر بروزا و مكانة داخل الدول العربية، و على الخصوص دول الخليج. في العام الماضي مررت بدولة خليجية، و استوقفتني عبارة تنبيه للركاب على الباصات في المطار. هذه العبارة مكتوبة بخط كبير و واضح باللغة الإنجليزية، وتحتها باللغة العربية. أخذت صورة بالكاميرا و هي مرفقة مع هذا المقال. والغريب، أن قناة فضائية تطبل كثيرا لقضايا العرب، لم تلتفت إلى هذه الجزئية البسيطة (وضع لغة الأجنبي السيد فوق لغة البلد) التي تختزل في ثناياها سقوطا جماعيا في مهاوي عقدة النقص أمام السيد الأجنبي (يُرجى ملاحظة الصورة المرفقة بالمقال). هذا السياق المخجل أجبر المبدعة الراحلة زها حديد أن تصرح أن مشاريعها لقيت الفشل عند العرب لأنها ليست أجنبية، و العرب يحترمون الأجانب (الرجاء مشاهدة الفيديو في أسفل هذا المقال).
قبل أعوام كانت ممثلة أمريكية (ليندسي لوهان) تعاني الإفلاس و مشكلات تتعلق بالمخدرات و الغرامات القانونية و الأزمات المالية، فتظاهرت أنها تهتم بقراءة القرآن. و تم استقبالها من قبل الرئيس التركي أردوغان و من قبل أمراء وحكام خليجيين. نبّهتُ في حينها في عدة مواقع، أن هذه المرأة لم تدخل الإسلام وهي تعاني أزمات ومشاكل قانونية ومالية، ولكن دون جدوى. لم تمض برهة من الوقت حتى أصبحت نجمة القنوات العربية، ومنها الجزيرة، التي قامت تنشر حتى برقية تهنئتها بمناسبة شهر رمضان. وبفضل نجوميتها بين العرب، تخلصت لوهان من مشاكلها المالية، وباتت تتحدث عن تصميم وشراء جزيرة في الخليج.
إن هذه العقلية الإحتفالية و الميّالة إلى الصخب والإثارة في هذه المؤسسات الإعلامية، مثلا الجزيرة، فضلا عن كونها تساهم في رسم سياسات خاطئة في الدول التي تعمل فيها، فإنها تعوض عقدة النقص الملازمة لها على مستوى الهوية و الثقافة بإبراز قضايا معينة (مثلا القضية الفلسطينية) بصخب شديد على طريقة الأفلام الهندية، مع العلم أن الأمة العربية مجتمعة لو قامت قيامة رجل واحد لما استطاعت أن تغير شنب القضية الفلسطينية، مع أن قيامتهم كرجل واحد مازال بعيدا بالقياس إلى عودة المسيح إلى الأرض. هذه العقلية ساهمت في تدمير المنطقة بشكل كبير، ورأينا حجم الدمار في ليبيا حيث تحول الثوار (وأكثرهم كانوا من الإسلاميين) إلى مطايا و مرتزقة لقوات التحالف الغربية التي دمّرت ليبيا، وأهانت زعيمها بشكل مهين ومخجل للعرب والمسلمين، في سابقة غير معهودة. كما أن البث الإعلامي تجاه الدول الخليجية، منذ حصار قطر، يعكس مستوى ضحلاً لا ينتج إلا أزمة جديدة للخروج من القديمة، وطرح المزيد من التفاقم كحل أمثل للهروب نحو الأمام. وهذا الواقع النفسي الهابط يفسر لنا، لماذا لا يحظى مقترح مشروع مفكر و أكاديمي عربي مرموق يقيم في بريطانيا بأي إهتمام عند هذه القناة و الدولة التي تبث منها، علما أنه سلّم المقترح بنفسه إلى سكرتير أمير البلاد. لكن المتسكعين و المتسكعات في الغرب، كلما خبا نجمهم و سقطوا في مهاوي الإفلاس والفشل، فمقعد سيادتهم محجوز و متوفر في أي وقت، في دول النفط و القنوات الفضائية ذات المؤثر الصوتي الكبير والصخب الإعلامي المثير الذي يعكس عقدة نقصها المزمنة والمخجلة.