العرق الأبيض و المسيحية و المجازر ضد المسلمين
منذ سنين طويلة، هناك عمل دؤوب في الدوائر العالمية لتأليب المسيحيين ضد المسلمين و المسلمين ضد المسيحيين، فضلا عن تشويه متعمد للأكثرية المسيحية في بلاد الغرب، و تشويه للأكثرية المسلمة في بلاد الشرق. و الأكثر، هناك رسائل متواصلة تبث إلى العالم الشرقي، فحواها أن الحملات العسكرية الغربية ضد بلاد المشرق يقوم بها مسيحييون (تسمى الحملة الصليبية الجديدة). الإعلام العالمي السائد يطبل لهذه الدعاية ليل نهار و يقدم الدعاية السلبية خدمة للهدف المنشود. وتقوم الجماعات الإسلامية (أي البروتستانتية الإسلامية و الإحيائية الإسلامية)** بتوكيد و تصديق هذه الدعاية و هي بدورها تشحن أتباعها وتشحذ هممهم بهذه المفاهيم من أجل التصدي لهذه الحملة "الصليبية". و نفس هذا الإعلام العالمي السائد (الدوائر التي تسيطر عليه معروفة)، يخوّف الأوروبيين و الغربيين عموما و يرعبهم بالمسلمين اللاجئين، أنهم قادمون إلى الغرب كغزاة و كمحتلين. و هناك تهويل يومي و بإستمرار، لترسيخ هذه الفكرة في باطن عقل الإنسان الغربي الأبيض المسيحي. و هذا الأمر يحدث في العالم الغربي كله من أستراليا إلى أمريكا و كندا مرورا بأوروبا.
و لكن هل حقا يغزو المسلمون بلاد الغرب بأعداد هائلة، قد تغير الديموغرافية الغربية و وجود الإنسان الأبيض؟
لنأخذ أستراليا كمثال. تعتبر أستراليا دولة غربية بخلفية ثقافية مسيحية أنكلوساكسونية. يشكل البيض الأوروبيين أغلبية السكان، و يغلب على هذا التشكيل العنصر البريطاني ذي الإثنيات المتعددة (إنجليزية، سكوتلندية، إيرلندية، ويلزية...). العناصر الأوروبية الأخرى ذابت بالتدريج في الثقافة السائدة المنتشرة و الراسخة باللغة الإنجليزية. منذ عام 2000 و إلى عام 2018 دخل أستراليا حوالي ثلاث مليون إنسان. يشكل اللاجئون حوالي 10% من حالات الهجرة إلى أستراليا. فالحالات الأخرى، كهجرة المهارة و هجرة لم شمل العائلة و الزواج، تشكل معظم أنواع الهجرة. هذا النوع من الهجرة تتقاسم بلدان عدة الحصص الكبيرة فيها و هي بريطانيا، دول أوروبا، الصين، فيتنام، كمبوديا، الهند و الدول الأخرى. أما بالنسبة لهجرة اللجوء السياسي و الإنساني فهي أيضا تتوزع على عدة دول، منها آسيوية غير مسلمة و منها شرق أوسطية. و لكن حتى في دول الشرق الأوسط فإن حصة الجماعات غير المسلمة هي الأكبر و تحديدا من بلاد كسوريا، العراق، جنوب السودان...الخ. لذلك فإن نسبة سكان المسلمين في أستراليا و نيوزيلند هي أقل من 1% من إجمالي عدد السكان.
للبيض، و هم أكثرية السكان، عدة شكاوي محقة تتعلق بهوية و ثقافة البلد، فضلا عن الوضع الإقتصادي و الوظيفي لأبنائهم. فالوظائف في أستراليا أمست تجري نحو الأجانب الوافدين و الأجانب في البلدان الآخرى، بينما يُحرم أبناؤهم من الوظائف، رغم الشهادات الأكاديمية التي يحصلون عليها. و السبب في هذا يعود إلى الأسعار الزهيدة للعمالة الأجنبية. فالشركات الكبرى في أستراليا، أصبحت تدار من قبل موظفين يعيشون في دول آسيوية، يرتبطون بأستراليا عبر التلفون و الإنترنيت، و يديرون العمل حيث يعيشون في دولهم. و ما يهم أصحاب هذه الشركات هو الأرباح و ليس تحقيق الإنتصارات الوطنية و العرقية. أما الطلاب الوافدون من الدول الآسيوية، مثل الصين و الهند و فيتنام و كوريا...الخ، فيحرصون على إيجاد أعمال لهم إلى جانب دراستهم. و من هنا فإنهم يعملون بأسعار زهيدة لا يرضى بها أبناء البلد. و هؤلاء الطلاب أذكياء، في عملهم بسعر زهيد حيث يهدفون إلى تحقيق مكاسب أكبر، حيث يحصلون على شهادات جامعية، و في نفس الوقت يثبتون أنفسهم في البلد، عبر تقديم المعاملات للحصول على الإقامات و الوثائق التي تمنحهم التأشيرات الطويلة أو الدائمة.
هناك مشكلة آخرى خطيرة أيضا و هي التي تتعلق بالعقارات في أستراليا. ففي الصين هناك العدد الأكبر للأغنياء في العالم، من أصحاب الملايين، قياسا إلى نسبة السكان. تأريخيا تشكل الصين إلى جانب دول أخرى مثل روسيا الخطر المحدق بأستراليا، من جهة الأطماع في هذه الجزيرة الأكبر في العالم. الصينييون الأغنياء هم الأكثر شراءا للعقارات في أستراليا و الجالبات الآسيوية تعتبر من أغنى الجاليات في أستراليا لأسباب عدة. و في وقت تراجع فيه نمط الحياة العائلية (هناك شخص وحيد من بين كل ثلاثة أشخاص في أستراليا) فأن الكثير من الرجال العزاب الأستراليين، و بعد بلوغهم سنا متقدمة (50 و ما فوق) يذهبون إلى الدول الآسيوية، للإقتران بشابات صغار في السن. و بعد موتهم تنتقل الأملاك إلى أولاء النساء الآسيويات اللواتي بدروهن يقترنن برجال آسيويين في أستراليا، مع ثروة لم يتعبوا في الحصول عليها. و تتعاظم الجاليات الآسيوية بشكل ملحوظ و بغنى ملفت للإنتباه، حتى أن محللين يقولون أن الآسيويين قد يتحولون إلى نصف السكان أو الأكثرية بعد عام 2050. و تعمل الصين بشكل دقيق و مدروس لهذا الهدف بهدوء تام و برودة أعصاب عجيبة. و ما يسهل هذا الأمر، هو وجود آسيويين كثر في الدوائر الحكومية، يسهلون المعاملات لأبناء جلدتهم. و بما أن الجامعات الأسترالية (التي هي أيضا شركات تجارية للأرباح) تعطي فرص الدراسة بكثرة للطلاب الاسيويين، فإن هذا الربح يؤدي سلبا إلى تمهيد الأجواء أمام هؤلاء الطلاب لإيجاد السبل التي تمكنهم من البقاء في أستراليا و الحصول على جنسيتها.
لكن التركيز الإعلامي ليس إلا على المسلمين، رغم أنهم الرقم الأضعف و الجالية الأقل قدرة و تأثيرا في المجتمع الأسترالي. لذلك ليس بمستغرب أن تجد في إعلان مرتكب جريمة مسجدي كرايست-تشيرتش، الإشارة إلى المسلمين، كبعبع يهدد التغير الديموغرافي في الغرب. و على الرغم أن مرتكب الجريمة (بريندون تارانت) ليس مسيحيا متدينا و غير متعلم في الجامعة، بل يعتبر نفسه من العرق الأوروبي الأبيض و يفتخر بفاشيته، إلا أنه لم يتردد في الإحالة إلى رموز تأريخية تشير إلى الصراع بين المسلمين و المسيحيين في القرون السابقة. وهذا يشير إلى أن جهات معنية قد تقف وراء هذه الجريمة، و جرائم أخرى ترتكب بإسم المسيحية أو الإسلام في العالم. الملفت في هذا الوضع العالمي هو، تحول الأكثريات في الغرب و في الشرق إلى جماعات منبوذة متقهقرة إلى زوايا الدفاع عن نفسها، أمام سيل جارف من التهم تستهدف هويتها و جوهرها. مثلا يعاني البيض في أستراليا نوعا من ممارسة الإرهاب تجاههم، إلى حد بدا و كأنّ كون الإنسان أبيضا أو منتميا إلى العرق الأبيض إتهاما و شتيمة. فالعنصرية تجاههم أصبحت واضحة و لكن بذكاء. هذه العنصرية تمارس ضد البيض بإسم "مكافحة العنصرية"، حتى أمسى حقهم في التعبير عن شعورهم و رؤيتهم للأمور يوصفان بأوصاف من قبيل "خطاب الكراهية" و "العنصرية" و "التحريض على العنف"... الخ. و يجري نفس التعامل مع الأكثريات في بلدان أخرى، مثلا الأكثرية السنية المسلمة في سوريا تحولت إلى أشتات ضعيفة و مدمرة و منبوذة، أمام أقليات لم يكن لها شأن يُذكر قبل خمسين عاما. و كأن الإتجاه العالمي السائد في السياسة هو، تمكين الأقليات و تسييرها في فلك النظام السياسي العالمي الذي يتحكم في السياسة و الإقتصاد و الإعلام، و يتعامل مع الأنظمة السياسية العالمية وفق مصالح معينة لها مفردات و وإفرازات تستدعي التأمل و التفكير الطويلين.
في أستراليا يعيش المسيحييون إرهابا مسكوتا عنه، لا يوصف بوصفه الصحيح، لكنه يمارس بدقة و إستمرار أثر في الأجيال الجديدة من البيض التي تبتعد عن الدين بشكل كبير. و هذا ما يفسر بعض الأسباب التي تؤدي إلى خلو الكنائس، و تحولها إلى دور مهجورة. فقبل أسابيع تم الحكم على أكبر رمز مسيحي كاثوليكي (الكاردينال جورج بيل) بالسجن لأكثر من ست سنين، بعد إحياء قصة اغتصاب ضده حدثت قبل عشرين عاما. تزامنا مع هذا، كان هناك في سيدني مهرجان للمثليين جنسيا، يعتبر الأضخم بين هذا النوع من المهرجانات. مهرجان المثليين، يتمتع بالبهرجة و الألوان و فاعليات متنوعة لجلب أنظار جيل الشباب. كما أن المدارس و المكتبات العامة بدأت تعرض الثقافة المتعلقة بالمثليين، إلى حد اعتبار العلاقات المثلية جزءا راسخا في المجتمع، وطبيعيا و مسلّما من الناحية العلمية. و على هذا الأساس، أصبح أمر الإقرار بتبني الأولاد لدى المثليين مسألة طبيعية، موجودة في مطبوعات و كتيبات متوفرة في المكتبات المدرسية و العامة أيضا. و على هذا الأساس، تحولت مسألة المثلية الجنسية إلى نقطة لترهيب كل من يقف ضدها، مهما كانت مكانته. و مثال ذلك هو أشهر لاعبة تنس في العالم، مارغريت كورت، التي مازالت تحتفظ بالرقم القياسي العالمي في التنس. هذه اللاعبة، هي عضوة ناشطة في إحدى الكنائس بغرب أستراليا. وهناك ملاعب و أماكن رياضية أطلق عليها إسم مارغريت كورت، إحتفالا بمكانتها الكبيرة في عالم التنس. هذه السيدة وقفت ضد زواج المثليين فقامت القيامة فوق رأسها. و منذ ذلك الوقت يهاجمها الإعلام بشدة و يشوه صورتها دون حساب لتأريخها.
للبيض في أستراليا قضية و حقوق و ومخاوف. قلّما أجادوا حسن التمثيل و الرعاية، أو لنقل أن يحظوا بمن يستطيع أن يتصدى للدفاع عن قضية البيض و حقوقهم. الهجوم الإعلامي عليهم يربكهم، و قلّة خبرتهم و معرفتهم بوضع أستراليا، و بتأريخ و ثقافة مكوناتها الإثنية، تفاقم المشهد كثيرا إلى حد تصويرهم و كأنهم يساندون الجرائم ضد المسلمين مع أن ذلك ليس صحيحا. و الأنكى، أن فتى يافعا تجرأ قبل أيام أن يضرب بيضة على مؤخرة رأس أحد ساسة البيض فرايزر آنينغ (و هو بعمر جد الفتى)، و هو ما دفع الآلاف من المسلمين أن يصطفوا مع الآخرين الذين صفقوا للمشهد بإبتهاج. ويتناسى المسلمون هنا أمر الرسول محمد (ص) أن يحترم الصغار الكبار "ليس منا من لم يوقر كبيرنا"! هذا النسيان يتشارك فيه المسلمون و المسيحييون تجاه مبادئهم و جوهر دينهم الذي يحثهم على التروي في أوقات الفتنة التي تصيبهم. وهم بذلك، أي المسيحييون و المسلمون، يحققون ما يريده المُستحكِم بالنظام العالمي الذي يدفع كليهما نحو العداوة و الأحقاد و المواجهة.