في "واد عقربا".. الثورة تصطاد كبار جيش الاحتلال
في التاسع من شهر آذار/مارس لعام 1969، نعت جمهورية مصر العربية، الفريق أول عبد المنعم رياض، رئيس أركان حرب القوات المسلحة المصرية، الذي أشرف على تنفيذ الخطة المصرية لتدمير خط بارليف الصهيوني. قُتل رياض أثناء تفقده لسير عمليات الجيش لمصري في الخطوط الأمامية، بعد هجوم من الطائرات الإسرائيلية، وقد خرج آلاف المصريين في تشييعه، وأذاع صوت العرب بعض الهتافات، وكان منها: "يلاّ يا فتح .. ردي يا فتح".
إثر ذلك، تقرر أن تنفذ حركة فتح عدة عمليات فدائية في العمق الفلسطيني المحتل، وذلك بأمر من ياسر عرفات.
shareبعد اغتيال إسرائيل، رئيس أركان القوات المسلحة المصرية عبد المنعم رياض، قرر أبو عمار أن تنفذ فتح عمليات فدائية في العمق الفلسطيني المحتل
بتاريخ 11 آذار/ مارس 1969، عبرت خليّة فدائية فتحاوية تحمل اسم المشير عبد المنعم رياض نهر الأردن لتنفيذ مهمات قتالية، وقد ضمت المجموعة ثمانية فدائيين هم: محمد الأزعر، يوسف عبد الحق، ياسر (اسم حركي)، يوسف العملة، عيسى رمضان، مصطفى الدنبق "الفسفوري"، الغضبان، أبو علي.
اجتاز الفدائيون نهر الأردن ليلاً وعبروا حقل الألغام باتجاه أراضي عقربا غرب النهر، ثم نحو الواد الأحمر، قبل أن تبدأ عملية ملاحقتهم من قبل الجيش، فعند الساعة العاشرة صباحًا؛ كانت دوريات الاحتلال قد بدأت تنشط في محيط السياج، بالقرب من الطريق الرملي الذي ظهرت عليه آثار عبور الفدائيين عبر النهر، وكانت قوات الاحتلال تتفقد هذا الطريق الرملي الناعم مرتين يوميًا للتأكد من أن أحدًا لم يمر عبره آتيًا من شرق النهر، بينما تجر سيارة عسكرية كُتلة ثقيلة من الأسلاك الشائكة فوق الطريق بشكل يومي لإعادة تنعيم التراب، حتى يبقى دقيقًا وتظهر عليه بوضوح أقدام المارين.
كان على الفدائيين الابتعاد قدر الإمكان عن الحدود، وأن يمضوا في عُمق الواد الأحمر، حَيثُ تُساعدهم الجغرافيا الوعرة على السير دون أن ينتبه لهم جيش الاحتلال.
اجتاز الفدائيون منطقة الواد الأحمر وتحركوا بسرعة نحو السفوح الشرقية، وقرروا الاختباء في منطقة تُسمى لِصْيَر، وهي تلة صغيرة ترتقع قليلاً عما يحيطها، وذلك لوجود طوق من الحجارة كان يُستخدم قديما كزرائب للحيوانات، وفي هذه المنطقة عدد من المغر التي تساعد على الاختفاء عن الأنظار، ذلك أن الوقت لم يعد في صالحهم فالتحرك في وضح النهار سيتسبب بانكشافهم بسهولة.
shareخليّة عبد المنعم رياض تسللت عبر نهر الأردن من ضفته الشرقية إلى الضفة الغربية، باتجاه عقربا في نابلس، ثم اتخذت من مغارة هناك ملاذًا حتى حلول الليل
توزعت المجموعة في محيط المنطقة، فاستحكم أربعة منهم بين الصخور الكبيرة بحيث لا يمكن رؤيتهم، ودخل أربعة إلى المغارة والتزموا الصمت، وهم في حالة تأهب كامل.
في تلك الأثناء، كان جيش الاحتلال يواصل بحثه عن الفدائيين، ويتحرك غربًا حيث القرى التي تقع على مشارف الغور "عقربا - مجدل بني فاضل - دوما"، فيما كانت سرايا الاستطلاع تسير بشكل عرضي في المنطقة بحثًا عن الفدائيين. عندما اقتربت دورية الاستطلاع الإسرائيلية من منطقة لِصير، كان الفلاحون يقودون أبقارهم شَرقًا إلى نبع الجهير لسقيها، وبعض النسوة ترعى بأغنامها على مقربة من الطريق المؤدية لمكان الفدائيين.
تقدمت السرية الإسرائيلية المُلاحقة بثقة وأخذت تتفقد المكان، معتمدة على أن المنطقة لا تسمح بإجراء اشتباك لأنها مكشوفة للطيران الحربي ومفتوحة من كل الجهات، ولوجود الرعاة والأغنام في محيط المكان. أصدر قائد الخلية تعليماته بعدم إطلاق الرصاص إلا عند لحظة الالتحام المباشر، وفي اللحظة التي تقدم الجنود صوب المغارة على طرف الموقع فتح الفدائيون عليهم أبواب جهنم.
كان الميجر يوسي كابلان، قائد السرية، أول قتلى المعركة برصاصات أصابته في رأسه، ثم اندلع اشتباك مسلح استمر 6 ساعات، بحسب بلاغ الثورة الفلسطينية. كان ستة من الفدائيين يطلقون النار من رشاشات الكلاشنكوف مباشرة صوب الجنود، فيما تولى فدائيان إلقاء القنابل اليدوية.
دفع جيش الاحتلال بقوة مدرعة وأخرى راجلة، تدعمهما طائرة حربية، بينما واصل الفدائيون القتال حتى نفدت ذخيرتهم بالكامل.
ما إن توقفت المعركة، وهدأ صوت إطلاق النار، حتى سارع أصحاب الأغنام لجمع قطعانهم التي تفرقت مذعورة في مُحيط الموقع بسبب صوت القنابل، بينما بدأ جيش الاحتلال بتطويق المكان وتجميع قتلاه ومصابيه، والتأكد إن كان بين الفدائيين أحد على قيد الحياة. كان يوسف عبد الحق لا يزال ممددًا على الأرض في وضعية الرماية وسلاحه أمامه، لكنه بلا ذخيرة، فتقدم منه أحد الجنود ووضع قدمه على ظهره وقال له بعربية مكسّرة: "ضع البندقية، انتهت المعركة".
أسفرت معركة الغور عن استشهاد ستة فدائين، وأسر سابع، وانسحاب الثامن، فيما لقي ثلاثة ضباط إسرائيليين مصرعهم
في ذلك الحين، لاحظت فتاة من قرية مجدل بني فاضل أن فدائيًا ينزف بشدة في المنطقة، وعندما رآها أخرج من جيبه بطاقة و10 دنانير طالبًا منها أن تسلمها لوالده مصطفى الأزعر من قبلان، ثم فارق الحياة.
قيّد جيش الاحتلال يوسف عبد الحق ووضعه في شاحنة عسكرية لنقله إلى مراكز التحقيق، ثم جمع جثامين ستة شهداء هم كل من عثر عليهم في محيط الموقع، وبعد تمشيط المكان وانتهاء المعركة، غادر الجيش الموقع بأسير وستة شهداء، فيما أعلنت مصادر إسرائيلية سقوط ثلاثة قتلى من الجيش.
كان الفدائي الثامن الذي لم يعثر عليه جيش الاحتلال هو الغضبان، أصيب في المعركة، غير أنه تمكن من الزحف بعيدًا، ثم انسل بين الأغنام التي يتم تجميعها مُستغلاً حقل الفول المزروع في المنطقة، ليتمكن بمساعدة الفتاة صاحبة الأغنام من النجاة، وقد تم اعتقال الفتاة لاحقًا.
أخذ الغضبان يحبو مع قطيع الفتاة متحاملاً على جُرحه حتى وصل قرية مجدل بني فاضل، ومن هناك نُقل لقرية دوما، حيث تولى بعض الأهالي علاجه وتقديم المساعدة له حتى استعاد عافيته، وانطلق بعدها إلى قريته، ومنها إلى طوباس عائدًا عبر النهر إلى قاعدته العسكرية في الأردن.
اعتقل الاحتلال فتاة ساعدت الفدائي الناجي من من معركة "واد عقربا" في الانسحاب بأمان، وعذبت الرعاة حتى لا يساعدوا الثوار لاحقًا
حكم قضاء الاحتلال على الأسير يوسف عبد الحق بالسجن 17 سنة، لكنه استعاد حريته في صفقة الجليل التي أبرمتها الجبهة الشعبية – القيادة العامة، قبل أن يفارق الحياة في عام 2004، فيما لا تزال جثامين رفاقه الستة محتجزة في مقابر الأرقام.
لاحقًا، أقام جيش الاحتلال نصبًا تذكاريًا لقتلاه في هذه المعركة، حمل اسم نصب "معركة الكهف"، ودُوّنت عليه أسماء قتلاه الثلاثة الذين أعلن عنهم: الميجر يوسي كابلان، واللواء حنان شمشون، والرقيب بوعز ساسون، إلا أن النصب تم تحطيمه لاحقًا، قبل أن يعيد الاحتلال تشييده في الموقع ذاته سنة 2011.
اعتبرت هذه المعركة مرحلة فاصلة في آلية تتبع العمل الفدائي في الأغوار الفلسطينية، فقصف جيش الاحتلال المواقع التي تحصّن فيها الفدائيون، وأخضع الرعاة الذين صدف وجودهم في محيط موقع العملية لتعذيب شديد، لمنعهم من تقديم أي مساعدة مستقبلاً للفدائيين.
قالت حركة فتح حينها: "تمكنت مجموعة من الفدائيين من معسكر لجيش الاحتلال في واد عقربا بالقرب من قرية مجدل بني فاضل في معركة استمرت 6 ساعات يوم 11/3/1969".