ابن طفيل
ولد حي بن يقظان في جزيرة تابعة للهند تحت خط الاستواء، وهناك فرضيتان في ولادته يقول ابن طفيل: الأولى أنه ولد طبيعيا من أم هي شقيقة ملك إحدى الجزر الهندية، ومن أب هو قريب لها اسمه يقظان، كانت شقيقة الملك قد تزوجته خفية عن شقيقها الذي منعها من الزواج به، وعندما وضعت المرأة طفلها خشيت من نقمة شقيقها الملك، فوضعت الطفل في تابوت وألقته في البحر.
حملت الأمواج التابوت حتى ألقته على ساحل جزيرة مجاورة هي جزيرة الواق واق.
أما الفرضية الثانية، فهي أن حي توالد من الطين مباشرة، حيث تخمرت طينة في بطن تلك الأرض على مر السنين، إلى الدرجة التي مكنتها من اكتساب مقومات وصفات جعلت منها مادة مستعدة لتقبل الصورة التي تناسبها من العقل الفعال، وفعلا فاضت عن تلك المادة صورة كائن بشري، وبفعل التطور التدريجي والنمو الذاتي أخذت تلك الطينة الحية شكل الكائن البشري.
هكذا تم خلق حي، وصادف أن مرت في المكان الذي استقر فيه التابوت، ظبية كانت تبحث عن ابنها الذي فقدته، فسمعت صوت بكاء الطفل، فاتجهت نحوه، وكان أن عثرت على حي الوليد فأرضعته وحضنته.
وعند موت الظبية، بدأ حي بالبحث عن أسباب وفاتها بتشريحها، وكانت هذه هي الخطوة الأولى التي مرت بها حياته الفلسفية.
ومن خلال التشريح تكونت عند حي المعرفة عن طريق الحواس والتجربة، فتبين له أن كل الحيوانات مبدؤها واحد هو الروح.
ثم قام بعد ذلك بتصفح سائر الأحياء، فأدرك أن حقيقة وجود كل واحد منها مركبة من الجسمية ومعنى آخر زائد على الجسمية، فلاحت له صور الأجسام على اختلافها، وهو أول ما لاح له من العالم الروحاني، إذ هي صور لا تدرك بالحس، وإنما بالنظر العقلي.
ونظر في ارتباط الموجودات، فعلم أن كل حادث لا بد له من مُحدث، ثم تتبع الصور فرأى أنها حادثة أيضا ولا بد لها من فاعل.
بعد ذلك، انتقل حي وهو في الثامنة والعشرين من عمره، إلى معاينة الأجسام السماوية، فتبين له أن الفلك واحد متصل بعضه ببعض، وأن هذا الفلك محتاج إلى فاعل، فوجد أنه إما أن يكون محدث بفعل فاعل، أو أن يكون قديم وأن العدم لم يسبقه.
وانتهى حي عند سن الخامسة والثلاثين إلى أن هذين الطريقين صحيحين، وفي الحالتين ثمة فاعل غير مجسم، وبدأ ينشغل بهذا الفاعل، وهنا خطى خطوة الاستنتاج بعد التفكير، فتوصل إلى أن النّفس منفصلة عن الجسد وفي التوق إلى الموجد واجب الوجود، وفي هذه المرحلة، تكمن سعادة حي بن يقظان في ديمومة المشاهدة لهذا الموجود الواجب الوجود.
في سن الخمسين، عاد حي إلى العالم المحسوس، فإلى جانب جزيرته التي ولد فيها، ثمة جزيرة انتقلت إليها ملة من الملل الصحيحة المأخوذة عن بعض الأنبياء.
نشأ في تلك الجزيرة فتيان، أحدهما أبسال والثاني سلامان، كان أبسال مهتما بأمور الباطن والعثور على المعاني الروحية، فيما كان سلامان متمسكا بالظاهر، وينفر من الأمور الباطنية.
وعندما فشل أبسال في إقناع جماعته بأن للنص الديني ظاهر وباطن، وأن الظاهر وسيلة للباطن، قرر ترك الجزيرة والتوجه إلى جزيرة أخرى، يوجد بها حي بن يقظان.
أثناء مسيره بالجزيرة التقى أبسال بحي، فتعجب كل واحد منهما مما رآه، فهرب أبسال ولحق به حي، إلى أن اقترب منه فسمع أبسال يتكلم بلغات كثيرة، فطلب حي من أبسال أن يعلمه الكلام والعلم والدين.
وبعد تعلم حي الكلام، سأله أبسال عن شأنه، فرد حي، بأنه لا يعلم كيف ولد، وأن ظبية ربته، وبدأ يقص على أبسال كيف ارتقى بالمعرفة حتى انتهى إلى درجة الوصول، فلما سمع أبسال وصف حي لتلك الحقائق والذوات المفارقة لعالم الحس ووصف ذات الله، تفاجأ بأن هذه الأوصاف هي عينها الموجودة في شريعته، فأدرك أن المعقول الذي جاء به حي لا يختلف عن المنقول، أي الشريعة التي عنده.
بعد ذلك، جاء دور حي ليسأل أبسال عن شأنه، فحدثه عن شريعته من وصف العالمي الإلهي والجنة والنار، فعلم حي أن هذا الوصف ناجم من مصدر صادق.
في هذه الأثناء، ضلت سفينة ووصلت إلى الجزيرة التي نشأ بها حي، فركبها هو وأبسال، وكان على رأس السفينة سلامان صديق أبسال، وبدأ حي بتعليم قاطني هذه السفينة، لكنهم فروا منه، فيئس حي من إصلاحهم، فأدرك أن أكثر الناس هم بمنزلة الحيوان غير الناطق.
الأهداف الأيديولوجية
لم يخف ابن طفيل 1105ـ 1185 تأثره بالحكمة المشرقية لـ ابن سينا، فقد أعلن ذلك بشكل صريح "سألت أيها الأخ أن أبث إليك ما أمكنني من أسرار الحكمة المشرقية الذي ذكرها الشيخ الرئيس أبو علي ابن سينا".
في هذه النقطة، يتفق كثير من الباحثين على تأثر ابن طفيل بـ ابن سينا، لكنهم يختلفون في تفسير قصة "حي بن يقظان" لابن طفيل:
اعتبر كرادوفو أن ابن طفيل لم يقم في رسالته سوى بعرض ماهر لفلسفة ابن سينا المشرقية، وأنها امتدادا للأفلاطونية المحدثة، ومع أن محمد عابد الجابري يتفق مع ما قاله كرادوفو، إلا أنه يضيف أن ابن طفيل انطلق من إشكالية مختلفة عن إشكالية ابن سينا، وبحسب الجابري، ما يريده ابن طفيل هو الوصول إلى الحقائق التي توصل لها ابن سينا، لكن من خلال طريقة أخرى، لا الطريقة التي اتبعها ابن سينا (التصوف العقلي)، فهذه الطريقة ليست فلسفية بالكامل، وإنما هي نوع من الانتحال الفلسفي.
الإشكالية الفكرية عند ابن سينا كانت تتمحور حول التوفيق بين الفلسفة والدين، في حين أن الإشكالية الفكرية عند ابن طفيل كما ابن رشد هي الفصل بين الفلسفة والدين، فلكل منهما طريقه الخاص المؤدية إلى الحقيقة.
وإذا كان ابن سينا (ولد في قرية أفشنة بالقرب من بخارى) والسهروردي (ولد في سهرورد شمال غربي إيران) ينتميان إلى فضاء معرفي متشابه، جوهره الحكمة المشرقية التي تعكس ثقافة قومية بعينها، فإن ابن طفيل (ولد بوادي آش قرب غرناطة في الأندلس) ينتمي إلى فضاء معرفي آخر يعتمد البرهان، كمنهج فلسفي، يقول الجابري.
وفي هذا، يقترب عبد الرحمن بدوي من هذا الرأي، فيقول إن الغاية الرئيسية التي استهدفها ابن طفيل هي بيان اتفاق العقل والنقل، الدين والفلسفة، وحي بن يقظان هو رمز العقل الإنساني المتحرر من كل معرفة سابقة، ومع ذلك يهتدي إلى نفس الحقائق التي أتى بها الدين الإسلامي.
ويرى أحمد أمين أن حي بن يقظان عند ابن طفيل هو العقل ولكن على نمط آخر، هو رسالة بناها على نظرية له، وهي أن في وسع الإنسان أن يرتقي بنفسه من المحسوس إلى المعقول إلى الله بحيث يستطيع بعقله أن يصل إلى معرفة العالم ومعرفة الله.
وعنده أن المعرفة تنقسم إلى قسمين معرفة حدسية ومعرفة نظرية، أو بعبارة أخرى معرفة مبنية على الكشف والإلهام كالتي عند الصوفية، ومعرفة مبنية على المنطق كالتي عند العلماء.
أما الأولى فيمكن الوصول إليها برياضة النفس فتنكشف لها الحقائق كأنها نور واضح لذيذ يومض إليه حينا، ثم يخبو حينا وكلما أمعن الإنسان في الرياضة تجلت له المعارف.
وأما النوع الثاني من المعرفة فهو مؤسس على الحواس والمعرفة بالحواس تتألف وتتركب وتستنتج منها نتائج علمية هي أيضا نوع من المعرفة التي يسميها المعرفة النظرية.
غير أن إبراهيم بورشاشن يرفض هذه الآراء، اعتمادا على فقرة ذكرها ابن طفيل "من أراد الحق الذي لا مجمجة فيه فعليه بطلبها (أي الحكمة المشرقية) والجد في اقتنائها".
ويجادل بورشاشن، بأن المفاهيم الواردة في القصة (الخاطر، المشاهدة، الذوق، الطرب، الذات المدركة، الإرادة، الرياضة، الخلسات، نور الحق، السر، اللذات العلى، الوصول، السعادة القصوى، الكشف)، إنما هي مفاهيم تنتنمي إلى المعجم الفلسفي الأفلاطوني المحدث.
ويذهب بورشاشن إلى أن ابن طفيل انتقد الطريق النظري الذي انتهجه ابن باجة في الوصول إلى هذا الكمال انتقاد لكل هذه الطريق المشائي وانتصار للطريق الأفلوطيني المحدث كما تجلى في الفلسفة المشرقية السينوية.
من الصعوبة بمكان، تقبل رأي بورشاشن في أن ابن طفيل كان امتدادا للفلسفة المشرقية السينوية، لقد كان هدف ابن طفيل أن يستعرض قصة ابن سينا ويكشف ما هو مستتر فيها، ثم يقدم قراءة مختلفة عنها، قراءة ليس هدفها دمج الدين بالفلسفة أو الفلسفة بالدين، وإنما قراءة تهدف إلى الفصل بينهما على الرغم من أنهما يقودان إلى نفس الحقيقة.
وهذان الطريقان، لا يستطيع من كان أن يقوم بهما، فهما للخاصة، وليس للعامة، وعندما حاول حي تعليم سكان السفينة وعجز في تحقيق ذلك، فإنما كان يعبر عن حال وتجربة ابن طفيل نفسه، حين اعتزل الحياة بعيدا عن العوام.
إن مسألة العزلة عند ابن طفيل هي مسألة جذرية وذات دلالة مهمة من ناحيتين: أولا، إن العزلة سمحت لحي بن يقظان بالتأمل وخوض التجربة العلمية، وثانيا، إن العزلة تعبر عن موقف ابن طفيل اليائس من تعليم العامة.
ابن طفيل في أوروبا
في عام 1671 نشرت مجلة المعاملات الفلسفية التابعة للجمعية الملكية الإنجليزية ملخص عن قصة حي بن يقظان لـ ابن طفيل، وذكرت المجلة أن غاية ابن طفيل كانت إثبات كيف أن الإنسان قادر من تأمل الأشياء الدنيا ومن خلال الاستخدام الصحيح لعقله، أن يصل بنفسه إلى معرفة الأشياء الأسمى.
إن هذه العبارة كانت في غاية الأهمية بالنسبة لفلاسفة الطبيعة في أوروبا خلال القرن السابع عشر، من أجل دعم وجهة نظرهم في أنه لا توجد أفكار فطرية سابقة في العقل الإنسان، وأن الإنسان يصل إلى معارفه عبر التجربة الحسية.
وهذا الرأي بلغ ذروته في أوروبا مع الفيلسوف الإنكليزي جون لوك الذي اعتبر أن العقل الإنساني عبارة عن صفحة بيضاء تمتلئ بالتجربة.
وليس معروفا إن كان لوك قد قرأ قصة حي بن يقظان وتأثر بها، أم أن أفكاره تقاطعت مع أفكار ابن طفيل، لكن أغلب المتابعين يعتقدون أن لوك قد أطلع على القصة، إذ نُشرت القصة في أوكسفورد حينما كان لوك ما يزال يدرس ويتعلم.