يتجاوز الخمر في الثقافة العربية دوره كسائل ذي متعة مادية وروحيّة، إذ إن التراث العربي شعراً وأدباً، يزخر بالخمر وأحواله، بعدما تنوعت حالات حضوره شعرياً. فهو إما جزء من المطالع، أو وصف هدفه المفاخرة والجاه، أو وصف لأحواله وأحوال شاربه. ليتحول لاحقاً إلى حقيقة شعريّة، تحمل خصائص مرتبطة بالخمر كمشروب له قدرة تتجاوز تلك المحسوسة أو الاعتياديّة (أي الخصائص الطبيعيّة)، ليكون الفاعل والمؤثر عوضاً عن الفعل البشري أو الإلهي. وكأنه محرّك للكون متجاوزاً سلطة المقدس والتحريم المرتبط به. هذه المفاهيم المتربطة بحقيقة الخمر الجديدة، مرتبطة بالشعر وفي ما يلي بعضها.الآخرة، بَعث جديد (أبو محجن الثقفي - أبو الهندي)يتعامل التراث الإسلامي مع أبي محجن الثقفي بوصفه الفارس المسلم، الذي ترك الخمر وشارك في الجهاد، في معركة القادسيّة. وتروى قصته كعبرة لمن يأخذ الخمر لبّه ويلهيه عن الشهادة. لكن هالة التقديس والاختلافات حوله تجعل الروايات متضاربة. إنما المعروف أن عمر بن الخطاب جلده لمعاقرته الخمر، لكن أبا محجن يثبت في شعره مقاربة جديدة للخمر، فقبل حادثة القادسيّة الشهيرة، يقول إن نهايته مرتبطة بالخمر، لا كشراب فقط بل كتماه معه، ليعود بصفاته مخالفاً للنهاية التي يفترضها النص المقدس (الآخرة، جنة/ نار)، فيقول:إذا مت فادفني إلى جنب كرمة .. تروى عظامي بعد موتي عروقهاولا تدفنني بالفلاة فإنني... أخاف إذا ما مت أن لا أذوقهاإلى جانب الثقفي نرى أبا الهندي، الذي أدرك الدولتين الأموية والعباسية، ويراه البعض أول من قال الشعر في الخمر في الدولة الإسلامية، بوصف الخمر مقصده الوحيد. وكأبي محجن، رأى أبو الهندي أن نهايته مرتبطة بالخمر وطقوسه، إذ إن الصبيان كانوا يأتون لقبره للشرب تيمناً بقوله المكتوب على قبره:[rtl]
اجعلوا إن متّ يوماً كفني... ورق الكرم وقبري معصره[/rtl]
وادفنوني وادفنوا الراح معي... واجعلوا الأقداح حول المقبرة
إنَّني أَرجو من الله غداً... بعد شرب الراح حسن المغفره
لكن الاختلاف يكمن في أن أبا الهندي ما زال يطمح بالآخرة إلى النهاية الموعودة في النص المقدس.
الخمر خزّان الذاكرة (ديك الجن الحمصي)
تعتبر قصة ديك الجن الحمصي، الشاعر العباسي، من المآسي التي لا يمكن تجاهلها في التاريخ الإسلامي. فديك الجن، الشاعر والعاشق ابتلي بالغيرة، وأدى به الأمر إلى قتل زوجته ورد، وغلامه بكر لاشتباهه بأنهما عل علاقة سريّة. إلا أن الخمر يحضر هنا بوصفه حاضناً للذاكرة، إذ عمد ديك الجنّ بعد دفنهما إلى قبرهما، وأخذ حفنة من تراب قبر ورد وحفنة من تراب قبر بكر، وصنع بهما قدحين، لترتبط الخمرة لديه بالمأساة، متحولةً إلى لذة ترتبط بتعذيب الذات والذاكرة، وكان في مجالسه يردد هذه الأبيات التي ارتجلها فوق قبري ورد وبكر:يا سيف إن ترم الزمان بغدره... فلأنت أبدلت الوصال بهجـره