«الخط الأخضر»: صحوة المقاومة وذعر الاحتلال
كان التزامن كبير الدلالة بين ما سُمّي «قمة النقب» التي جمعت وزراء خارجية الاحتلال والولايات المتحدة ومصر والإمارات والمغرب والبحرين، والعمليات المسلحة ضدّ الاحتلال داخل ما يُعرف بـ«الخط الأخضر» في النقب والخضيرة وبني براك ورمات غان. وإذا كان التفصيل الذي حرص الاحتلال على إبرازه هو مسؤولية «تنظيم الدولة» عن بعض هذه العمليات، فإن المعطى الأهم والأبرز كان المعادلة المتوازية بين صحوة المقاومة وذعر الاحتلال، وما يمكن أن تسفر عنه السياقات من حراك متعدد الأوجه في عودة الالتفاف الفلسطيني الشعبي حول معنى المقاومة، وحرج السلطة الوطنية الفلسطينية، والمسؤوليات التي يتوجب أن تلقى على عاتق الفصائل والقوى الفلسطينية المختلفة.
العمليات الفدائية داخل فلسطين المحتلة: عنوان واحد واختلاف في الدوافع
: في الثامن من كانون الثاني/يناير عام 2016 تمكنت قوات خاصة إسرائيلية من قتل الفلسطيني نشأت ملحم، ابن بلدة وادي عارة، الذي نفّذ عملية تل أبيب التي قتل فيها إسرائيليان وجرح سبعة آخرون.
استشهد ملحم في مدينة أم الفحم وذلك بعد ثمانية أيام من التخفي. حيث تمكنت القوات الخاصة «اليمام» من محاصرة مسجد بين أم الفحم وعرعرة، وهناك دار اشتباك مسلح نتج عنه استشهاد منفذ العملية التي صنفتها التقييمات الاحتلالية بأنها عملية ذات خلفية «قومية» وهو الوصف الإسرائيلي الذي يستخدم للتعبير عن عمليات فدائية يقوم بها فلسطينيون.
بعد ست سنوات من هذه العملية تعود العمليات الفدائية إلى مناطق فلسطين المحتلة عام 1948 عبر ثلاث منها نوعية خلال الأسبوع الماضي هزت بدورها الكيان الإسرائيلي، حيث جاءت بعد فترة طويلة من الهدوء وتوقف العمليات داخل أراضي فلسطين المحتلة عام 1948 سواء تلك التي ينفذها فلسطينيون من مناطق الضفة الغربية أو من داخل فلسطين المحتلة عام 1948.
ترافقت العمليات الثلاث التي وقعت في أسبوع واحد ونتج عنها 11 قتيلا إسرائيليا وأربعة شهداء فلسطينيين رغم سيل جارف من التحذيرات الإسرائيلية من احتمالية التصعيد الأمني، حيث عقدت اللقاءات الرسمية المعلنة وغير المعلنة تحسبا لمحاولات التصعيد في رمضان في القدس والضفة الغربية.
لكن التصعيد هذه المرة لم ينتظر شهر رمضان وجاء مخالفا للتوقعات الإسرائيلية حول جغرافيا التصعيد، وهو ما خلق حالة من القلق انعكس على الحالة الأمنية في داخل مدن الكيان وعلى الحدود على جانبي الخط الأخضر، وتلك الحملة العسكرية التي تضمنت هجمة شرسة على مدن الضفة، وعملية اعتقالات مكثفة وفتح المجال بشكل أوسع أمام الجيش الإسرائيلي للاقتحامات اليومية.
جل العمليات خلال السنوات الماضية كانت في مناطق الضفة الغربية وعلى الطرق بين المدن حيث المستوطنات الإسرائيلية التي تنتشر بكثرة وكذلك في مدينة القدس التي تشهد تنامي سياسات التهويد، وهو ما جعل من العمليات الثلاث علامة فارقة.
المحلل السياسي والإعلامي وائل عواد يقول حتى لو كانت العمليات متقاربة من ناحية الزمن فإنه لا يجب ان توضع في نفس العنوان لاختلاف المنفذين واختلاف دوافعهم.
ويشير لا يجب التعامل مع عملية بني براك في تل أبيب التي نفذها فلسطيني قادم من الضفة الغربية على أنها تشبه عملية الخضيرة أو بئر السبع حيث نفذ العملية الثانية شاب محسوب على «داعش» فيما هناك شكوك حول نسب عملية الخضيرة التي نفذها شابان من أم الفحم على أنهم من نفس الخلفية الفكرية.
وتابع: «قد يكون نجاح العملية الأولى ضاعف حماس منفذي العملية الثانية وهو أمر دفع بمنفذ العملية الثالثة إلى تنفيذ العملية في ظل الخسائر التي نتجت عن العمليتين الأولى والثانية، إذا هناك علاقة ما لكن الدوافع مختلفة بين العمليات الثلاث وهذا مؤكد».
ويشدد عواد على أهمية التوقف على الواقع الذي يدفع بهذا الشكل من العمليات وأهمها حالة القهر العامة التي تحولت إلى نمط عادي جدا، فأي اعتداء إسرائيلي لا يتم مقابلته بموقف مستحق حتى على مستوى التصريحات السياسية وأكبر مثال مقتل الشبان الثلاثة في نابلس قبل شهرين. حيث تعمق شعور المواطن العادي بغياب العدالة.
في ظل هذه الحالة، والحديث لعواد، وأمام عدم وجود قرار فصائلي يدفع بانفجار منظم فإن الطبيعي أن نشهد انفجارات فردية، بعضها ينجح الاحتلال في منعها فيما قسم منها لا تنجح أجهزة الأمن الاحتلالية في إيقافها أو تحييد منفذيها مثل العمليات الثلاث الأخيرة.
ويطرح عواد سؤالا: لماذا قبل رمضان؟ لماذا لم يتم تأخير العمليتين اللتين نفذهما فلسطينيون محسوبون على داعش إلى شهر رمضان؟ هذان سؤالان قد يكونان مدخلا للتوقع أن هناك من يقف خلف المنفذين.
ويضيف: «عملية الخضيرة بدت للمراقبين أنها مدروسة حيث جاء المنفذان ولبسا لباسا إسرائيليا كما انتظرا قدوم حافلة تقل عناصر الشرطة الإسرائيلية ولم يطلقا النار على مواطنين عاديين، هذا دليل أن الفعل مدروس ومنظم، وأخلاقية ما في لحظة الاشتباك مسلح».
وهو نفس الأمر تكرر مع عملية ضياء حمارشة الذي لم يطلق النار على أم وأطفالها.
ويعتبر عواد أن الأهم من مسألة موقفنا من منفذي العمليات هو ما هو لب المسألة التي تدفع بهؤلاء الشبان لتنفيذ عمليات مسلحة والحقيقة إنه الاحتلال، «هؤلاء أدركوا أن هذا مسارهم في مقاومة الاحتلال والإعلان عن رفضه».
ويرى عواد أن هناك خصوصية كبيرة في العمليات التي نفذها فلسطينيون من داخل مناطق 48 والسبب في ذلك ان من نفذ العمليات امتلك سلاحا سمحت به دولة الاحتلال، «صحيح أنه سلاح أريد له أن يوجه إلى صدور الفلسطينيين لكن الحقيقة أن العرب في دولة الاحتلال لم يسلحوا أحدا، بل فعل الاحتلال ذلك».
وعن طبيعة المواقف السياسية العربية أكد عواد أن الاحتلال يصاب بحالة جنون مع كل عملية، في وقت الحرب والأزمات تصبح إسرائيل أكثر حساسية، وبالتالي هناك ضريبة ندفعها في تواجدنا في هذا الوسط، كما أن العمليات التي تقوم بها داعش لن تحظى بأي تعاطف، كما أنها عمليات لا تعبر عن أي موقف سياسي ولا تأتي في سياق مواجهة مفتوحة مثل الحرب على غزة أو معركة البوابات في القدس، إنها عمليات لا تتجه إلى أي مكان ولا تحمل رؤية محددة. إنها تعبير عن «فش غل.. وغضب» وبالتالي طبيعي أن تواجه بموقف مستنكر ومدين من كثيرين.
بدوره قال الكاتب الفلسطيني عوض عبد الفتاح أن إسرائيل ليست بحاجةٍ لذرائع لتُصعّد تحريضها ومخططاتها العدوانية ضد الفلسطينيين داخل الخط الأخضر، لا عملية «داعشية» أو غيرها؛ فمشروعها الاستيطاني الإحلالي يجري على قدم وساق، ومن دون توقف، وغير آبهٍ بما يتركه من معاناة وحرمان لأهل الوطن.
وأكد في مقال نشره على موقع عرب 48 حمل عنوان «داعش وفلسطين ونظام الاستعمار» أن الفلسطينيين داخل الخط الأخضر لا يحملون أي تعاطف مع تنظيم «داعش» الذي اكتسب سمعةً وحشية في الثورات العربية.
وتابع: «على مدار العقود السبعة الماضية اعتمد الفلسطينيون داخل الخط الأخضر نضالا سلميًا وشعبيًا وقانونيًا وثقافيًا، بما يتفق مع ظروفهم، وضمن إجماع جميع الأحزاب والحركات السياسية العربية، ومع ذلك لم ينجُ هذا الجزء من شعبنا من مخططات السرقة والتدمير والتحريض، وفرض القيود على عملهم السياسي، واعتماد الملاحقة ضدهم.
وشدد أن نظام الاستعمار الصهيوني، الذي يتحالف مع أنظمة الاستبداد العربي المتوحشة، هو الذي يتحمل المسؤولية عن هذا العنف المستمر الذي يولد عنفًا مضادًا.
انتفاضات فلسطين الجديدة
أما المحلل السياسي زكريا محمد فركز في حديثه على أهمية عدم الخطأ بافتراض أن الانتفاضات الفلسطينية الجديدة ستكون مثل الانتفاضات السابقة، وعلى الأخص الانتفاضة الأولى عام 1987 أو الانتفاضة الثانية عام 2000. فقد جرت مياه كثيرة في النهر منذ هاتين الانتفاضتين، وحولت مجرى النهر بشكل واضح وجلي.
وتابع: «لقد دخل السلاح، سلاح غزة، كي يصبح جزءا لا يتجزأ من الانتفاضات، كما حصل في أيار/مايو الماضي. الصواريخ ستكون جزءا من مشهد الانتفاضات».
وأضاف: «دخول السلاح يجعل من الانتفاضات قصيرة المدد زمنيا. لا يمكن الآن تخيل انتفاضة تدوم لسنوات مع وجود السلاح. هذا لم يعد ممكنا. فالسلاح سيتدخل بالإرادة أو بتدافع الأحداث، ويصير جزءا من الانتفاضة. وهذا يحول الانتفاضات عند نقطة محددة إلى حروب».
في ضوء ذلك يرى محمد أن الشكل الأكثر شيوعا للانتفاضات سيكون الانتفاضة-الاشتباك العسكري. أي سيكون خليطا من مواجهات الناس ومن مواجهة (الجيش) إذا استطعنا تسمية البنية العسكرية في غزة باسم الجيش. وفي الغالب ستبدأ الأحداث بمظاهرات جماهيرية ثم تنتهي باشتباك عسكري. أو قد تتوقف قبل أن تتحول إلى اشتباك عسكري.
ويشدد محمد أن التطور في الصراع سيكون في الغالب في الضفة، عبر عملية ذئب منفرد، أو عبر مظاهرة غاضبة، أو عبر عملية استفزاز إسرائيلية في القدس، لكي تتحول إلى اشتباك عسكري في غزة، أو الوصول إلى تهدئة تمنع وصولها حد الاشتباك المسلح. هذا هو السيناريو الأكثر احتمالا للفترة المقبلة.
وبرأي محمد فإن إسرائيل لا تريد انهيار السلطة ومن أجل هذا قررت ألا ترد على عمليات «الذئاب الوحيدة» بالإغلاق العام كما كانت تفعل من قبل. ذلك أن الإغلاق سيزيد الغضب، ويزيد الأوضاع الاقتصادية سوءا، وهو ما سيؤدي إلى جعل السلطة أضعف، ويضاعف احتمالات انهيارها.
لكن ما يؤكد عليه زكريا محمد هو المتغير الجديد والمتمثل بالمستوطنين الذين تزداد قوتهم، ويزداد إصراراهم على السيطرة على المسجد الأقصى، فالحكومة الإسرائيلية لا تستطيع أن تواجههم، لأنها لا تقدر على ذلك الآن، ولأن أغلب عناصر هذه الحكومة تؤيد وجهة نظر المستوطنين مبدئيا.
أربع مفاجآت
المحلل السياسي الفلسطيني عدنان أبو عامر يرى أن العمليات الثلاث في أسبوع واحد حملت مجموعة من المفاجآت وأولها انتقال ثقل العمليات إلى الداخل المحتل وهو أمر لا يمكن التقليل منه في ضوء أن أجهزة المخابرات الإسرائيلية ركزت أنشطتها على الضفة والقدس. أما المفاجأة الثانية فتتمثل في أنها استهدفت جغرافيا فلسطين المحتلة كلها، في أسبوع واحد، بئر السبع جنوباً، ثم مدينة الخضيرة شمالاً، وتل أبيب.
أما المفاجأة الثالثة بحسب أبو عامر فتتمثل في أنها أوقعت قتلى وجرحى إسرائيليين من دون أن يتمكن الاحتلال من إلقاء القبض على المنفذين، الذين استشهدوا عقب تنفيذهم عملياتهم، أما المفاجأة الرابعة فمصدرها أنها جاءت بعد قرابة العام على حملات أمنية واسعة النطاق لـ«تطهير» الداخل المحتل