لماذا جاءت سورة الرحمن على نسق وبناء مختلف؟
ما الذي جعل الشاعر محمود درويش يطلب في "جداريته" أن يدفن على إيقاع سورة "الرحمن"؟!
ولماذا جاءت هذه السورة على نسق وبناء بياني مختلف تماما عن باقي سور القرآن الكريم، وتكررت فيها آية "فبأي آلاء ربكما تكذبان" 31 مرة؟
يقول العارفون بالله، وفيما يروى أن النبي صل الله عليه وسلم قرأ سورة "الرحمن" على أصحابه فسكتوا، فقال: لقد كان الجن أحسن ردًّا منكم، كلما قرأتُ عليهم "فبأي آلاء ربكما تكذبان"، قالوا: لا بشيء من آلائك ربنا نكذب، فلك الحمد.
وتقول الروايات إن رسول الله صل الله عليه وسلم لم يقرأ على الجن، ولا رآهم، ولكنه انطلق في طائفة من أصحابه إلى سوق عكاظ. وقد حيل بين الجن وبين خبر السماء فرجعوا إلى قومهم فقالوا ما هذا إلا لشيء قد حدث على الأرض، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها فانظروا هذا الذي حدث، فانطلقوا وتوجه بعض الجن نحو تهامة إلى رسول الله وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر فلما سمعوا القرآن أنصتوا له، فقالوا: هذا والله الذي حال بينكم وبين خبر السماء، ورجعوا إلى قومهم فقالوا: إنا سمعنا قرآنًا عجبًا"/ مطلع سورة الجن.
ولا يُعرف على وجه الدقة ما هو القرآن الذي استمع إليه الجن خفية كما في سورة الجن (قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا).
لكن معظم الروايات تقول إن الرسول الكريم كان يقرأ سورة "الرحمن"، فاتفقت غالبية الروايات على أنها سورة "الرحمن".
ويسميها بعض الرواة "عروس القرآن" وهي رواية ضعيفة، وهذا لا يعدو أن يكون ثناءً على هذه السورة، وليس من التسمية في شيء.
السورة ذات نسق خاص ملحوظ في إيقاع فواصلها وأسلوبها البديع، بدأت بمبتدأ مفرد هو "الرحمن"، وهي كلمة واحدة في معناها الرحمة، وفي رنتها الإعلان، والسورة بعد ذلك بيان للمسات الرحمة ومعرض لآلاء الرحمن.
ويبدأ معرض الآلاء بتعليم القرآن بوصفة المنة الكبرى على الإنسان، وتسبق في الذكر خلق الإنسان ذاته وتعليمه البيان وهي المنة الكبرى الأخرى .
وبدا أن الشاعر محمود درويش الذي لم يكن ضمن بناء قصائده أي محتوى ديني، قد شغف بهذه السورة، وهو الشاعر الذي يعرف معنى الكلام ووزنه وموسيقاه، متأثرا بهذه السورة في قصيدة:
كالنون في سورة الرحمن
جدّي هَبَّ من نومِهِ
كي يجمَعَ الأعشابَ من كرمِهِ
المطمور تحت الشارع الأَسودْ ...
عَلَّمني القرآنَ في دوحة الريحانِ
شَرْقَ البئر،
من آدمٍ جئنا ومن حوَّاءَ
في جنة النسيانِ.
يا جدِّي! أَنا آخر الأحياء
في الصحراء، فلنصعدْ!
البحرُ والصحراءُ حول اسمِهِ
العاري من الحُرَّاسِ
لم يعرفا جدّي ولا أَبناءَهُ
الواقفين الآن حول "النون"
في سورة "الرحمن"،
اللهم ... فلتشهَدْ!
وفي "جداريته" يقول الشاعر محمود درويش: "ستأخذك سورة الرحمن إلى الإيمان المصحوب بالطرب".
فيا موت انتظرني ريثما أنهي
تدابير الجنازة في الربيع الهش
حيث ولدت حيث سأمنع الخطباء
من تكرار ما قالوا عن البلد الحزين
وعن صمود التين والزيتون في وجه
الزمان وجيشه سأقول صبّوني
بحرف النون حيث تعبُّ روحي
سورة الرحمن في القرآن وامشوا
صامتين معي على خطوات أجدادي
ووقع الناي في أزلي
وبدا جمال سورة "الرحمن" جليا في تناسق كلماتها وتناغم صياغتها، وقد ذكر الإمام القرطبي في "الجامع لأحكام القرآن" ما روي من أن قيس بن ثابت أسلم متأثرا بجميل آياتها وجلال وقعها على النفس.
وتعتمد كل آية على تفكيك الصورة التي قبلها والتي بعدها، وهي وسيلة فنية متجددة لم تفقد السورة قوتها ووحدتها مع التكرار، بالعكس فهي أعطته نموذجا هندسيا فريدا لبناء آياته.
وهي سورة تنتهي جميع آياتها بحرف النون لذلك أشغلت هذه النون شاعرا عربيا كبيرا