الفترة الانتقالية 1908 - 1909
في فلسطين قوبلت المعلومات عن ثورة "تركيا الفتاة"(
بداية بالشكوك. إلا أنه لم يمرّ زمن طويل حتى عمّ الفرح أوساط طبقات واسعة من
الجمهور. ففي القدس أقام مسلمون ومسيحيون ويهود معاً منتدىً أدبياً وسياسياً، دعي "الجمعية الوطنية المقدسية"، وشجع أعيان محليون الفلاحين في
المنطقة على إقامة جمعية تهتم بمصالحهم، وانضم إليها أيضاً مستوطنون يهود. كما أشار دافيد يلين، الى أن الفلاحين كانوا "راضين جداً " عندما
سنحت لهم الفرصة للإفادة من تجربة اليهود. وأكد يلين أيضاً: أن تغييراً كبيراً حصل في الأجواء لكن (للأسف على السطح)، حيث " للمرة الأولى
نرى تلك الجمعيات تضم مسلمين (وأيضاً من الطبقة العليا)، يشاركون مع اليهود والنصارى".
لكن لم يكن كل شيْ سلساً. ففي يافا غضب العرب من سلوك بعض رجال الهجرة الثانية، الذين ساروا في الأعياد تكريماً للثورة، وهم يحملون علماً
صهيونياً، وأعلنوا أن على اليهود أن ينتخبوا ممثلين صهيونيين إلى البرلمان العثماني، لدفع مطالبتهم بملكية البلد. وفي القدس دعي أربعة يهود
للانضمام إلى الفرع الجديد من "جمعية الاتحاد والترقي " الخاصة بـ "تركيا الفتاة"، شريطة ألا يدفعوا، "الشيكل"، ( أي أنهم ليسوا أعضاء في الحركة
الصهيونية). وبحسب كلام ديفيد لفونتين من " الشركة الأنجلو - فلسطينية"، كان هؤلاء العرب من "تركيا الفتاة" يرون بالصهيونية حركة سياسية
فحسب، هدفها إيصال فلسطين إلى حكم ذاتي يهودي حصراً.
هذه التعبيرات التي تصك الأسماع راحت تتصاعد تدريجياً إلى أن أصبحت أكثر علواً. ومع ذلك، وإلى أن أخمدت الثورة المضادة لشهر نيسان/
ابريل1909 في استنبول، يمكن رؤية الأشهر اللاحقة بمثابة مرحلة انتقالية بالنسبة إلى موضوعنا هنا. وتستحق الفترة الانتقالية هذه التوكيد نظراً
لتأسيس صحافة عربية في فلسطين، وبسبب عقد البرلمان العثماني الذي كان فيه كل مندوب خامس عربياً، وكذلك نظراً للهجمات على إحدى
المستوطنات بمبادرة المعارضين العرب للاستيطان اليهودي في البلد .
فقبل 1908 لم تكن في فلسطين صحافة عربية، ماعدا الجريدة الرسمية - التي بصعوبة يمكن تعريفها بأنها صحيفة - والتي صدرت في القدس
بالعربية والتركية. وفوراً بعد الثورة بدأت تظهر صحيفتان صغيرتان: "القدس" في القدس، و"الأصمعي" في يافا . وبعد فترة قصيرة من ذلك تأسست
صحيفة "الكرمل" في حيفا. وكان "للأصمعي" منذ البداية موقفاً نقدياً من المهاجرين اليهود كما يبدو من المقتطف التالي:
" لإلحاقهم الضرر بأبناء البلد والإساءة إليهم، باستنادهم إلى الامتيازات الخاصة بالدول الأجنبية في تركيا، وإفسادهم قيم الحكام المحليين وحملهم على
الخيانة؛ إضافة إلى ذلك أنهم معفون من غالبية الضرائب والخراجات التي تتكدس على سكان الدولة، ومنافستهم لأبناء البلد في العمل، وتضييقهم عليهم
بأسباب معاشهم؛ ولم يستطع السكان الصمود في وجه منافستهم".
واقترحت " الأصمعي " خطوطاً مختلفة للعمل من أجل محاربة هذه المنافسة: وجوب شراء بضائع محلية وتفضيلها على البضائع " الأجنبية" (أي
اليهودية)؛ وعلى أغنياء العرب تطوير التجارة والصناعة المحليتين؛ وعلى الشباب تعلم أساليب الزراعة لدى اليهود، من أجل مساعدة الفلاحين.
وفي خريف 1908 جرت انتخابات عامة؛ وفي سنجق القدس كان سيجري انتخاب ثلاثة مندوبين. ودعا عدد من المرشحين إلى إصلاحات اقتصادية
وإدارية؛ وتكلم آخرون عن مساعدات للفلاحين . إلا أن تلك الأفكار كانت غريبة عن الناخبين الذين شاركوا للمرة الأولى في حياتهم بانتخابات حديثة.
ولأن ولاءاتهم الأولية كانت لعائلاتهم وطوائفهم الدينية، فقد ضمنت الغالبية المسلمة الكاسحة في السنجق انتخاب ثلاثة مسلمين، كلهم من العائلات
البارزة: روحي بك الخالدي، وسعيد بك الحسيني - وحافظ بك السعيد.
كان روحي بك في السابق قنصلاً عثمانياً في بوردو بفرنسا، وكان مقدسياً ذا ميول أدبية، ليبرالياً كما يقال، وعضواً في "جمعية الاتحاد والترقي".
وسعيد بك الحسيني كان معارضاً صريحاً للاستيطان اليهودي في السنجق، وبوصفه رئيس المجلس البلدي للقدس حاول في 1905 منع اليهود من
امتلاك الأراضي في "موتسا". وأما حافظ بك فقد جاء من يافا، وكان سابقاً مفتي غزة؛ ولأنه اعتبر من أصحاب النوايا الحسنة فقد أيد اليهود ترشحه .
في شمال فلسطين انتخب كل من الشيخ أحمد الخماش من نابلس، والشيخ أسعد الشقيري من عكا، كمندوبين للبرلمان . وكان الأول مسلماً محافظاً جداً،
والثاني عالماً مسلماً، شغل أثناء الحرب العالمية الأولى منصب مفتي الجيش التركي الرابع، بقيادة جمال باشا، وهو والد أحمد الشقيري .
وإحدى نتائج النشوة في أعقاب الثورة كانت في انهيار النظام العام في أجزاء مختلفة من السلطنة. وفي الخريف، هاجم فلاحون عرب ملاكي أراض ٍ
عرب في شمال فلسطين. وفي مسار الأحداث اعتدوا في تشرين الثاني /نوفمبر أيضاً على بضع مستوطنات يهودية، وفي كانون الأول /ديسمبر،
حاول فلاحون من "كفركنّا" احتلال أراضٍ بملكية "بيكا" في جوار طبريا.
وفي ربيع 1909 انتشرت في أرجاء السلطنة موجة من الصحوة من الثورة، ومن "جمعية الاتحاد والترقي"؛ وفي أعقاب ذلك ظهرت علامات
الاضطراب والهيجان، خاصة في الأناضول، حيث اغتيل في الهيجان آلاف الأرمن. وعدم الاستقرار هذا كان الخلفية لسلسلة حوادث وقعت حول
المستوطنة ومزرعة التدريب التابعة لـ"بيكا" في "السجرة".
بدايةً، وفي شهر شباط /فبراير، طالب فلاحو قرية "السجرة" المجاورة بجزء صغير من أراضي المستوطنة، وكما يبدو بتشجيع من عناصر
خارجية: وحسب أقوال إلياهو كراوزة، مدير مزرعة التدريب، لم يكن هؤلاء سوى أعضاء مستائين من فرع طبريا من "جمعية الاتحاد والترقي ".
وفي آذار/مارس رد المستوطنون برفض تشغيل قرويين من الشجرة وشراء منتوجاتهم. وفي نيسان /ابريل ألغى الفلاحون مطالبهم بأراضي السجرة،
لأنهم لم يستطيعوا تحمل نفقات المحاكمات، إلا أنهم استمروا في مضايقة اليهود وإلحاق الضرر بهم، كما سرقوا المستوطنة.
وفي ذروة تلك التوترات المحلية، قتل عربي من "كفركنّا" على يد يهودي اسمه حاييم دوفنر . يعمل مصوّراً،وكان في طريقه إلى مؤتمر "عمال
صهيون" الذي أوشك على الانعقاد في عيد الفصح في السجرة. وفي طريقه هوجم من قبل أربعة من العرب، سلبوا أجهزته لدى خروجه من تخوم
كفركنّا. وأطلق دوفنر النار وجرح واحداً من مهاجميه، الذي قبل موته، تمكن من الادعاء بأن يهوديين من السجرة أطلقا عليه النار . وفي 7 نيسان /
ابريل هاجم فلاحون من كفركنّا السجرة مطالبين بـ "الديّة". إلا أن موظفي المستوطنة من قبل " بيكا" رفضوا الاستجابة لهذه المطالبة. وفي 9
نيسان/ابريل نهبت مجموعة كبيرة من القرويين محصول السجرة وبعد يومين جرحوا بشكل بليغ يهوديين كانا عائدين إلى السجرة من طبريا. وفي
الغد اغتيل يهوديان، أحدهما على يد فلاحين من كفر كنّا، والآخر بأيدي فلاحين من الشجرة .
أسهمت الأمطار التي هطلت في هذه الساعة المباركة في تبريد الأجواء. وأوقفت سلطات في الناصرة عددا من الفلاحين، وأعادت أجهزة التصوير
لدوفنر، وثبتت التهمة بأهالي كفركنّا. وطلب الكهنة الذين مثّلوا القرويين عقد صلحة، ولكنهم لم يتوافقوا على شروطها، ووصل الأمر إلى المحكمة في
عكا، وهناك استمرت المحاكمة لأكثر من سنتين.
من شبه المؤكد أنه كان بالإمكان رؤية هذه الأحداث، كما ورد أعلاه، على خلفية أعمال الشغب في شمال البلد، والتي وقعت في خريف 1908 وكذلك
على خلفية خيبة الأمل التي انتشرت في ربيع 1909 من الحكم الجديد. ولكن مع ذلك، هناك أساس للشك بأن بعض الذين وقفوا خلف تلك الخطوات
ضد السجرة أرادوا بالفعل الاحتجاج بصورة هزيلة وغير مبلورة على الاستيطان اليهودي في منطقة طبريا، حيث كانت سبع مستوطنات . والأساس
لهذا الشك هو في أن كراوزة ذكر بشكل خاص نجيب نصار كأحد المحرضين الرئيسيين الذين جاؤوا من الخارج أثناء أحداث السجرة. ونجيب نصّار
كان محرر الصحيفة الحيفاوية " الكرمل"، ومنذ 1909 فما بعد برز بوصفه الصحفي الأشد مناهضة للصهيونية بين عرب فلسطين. ونصّار ولد في
طبريا، وقبل تأسيس " الكرمل" تعرف على كراوزة في إطار مهمته كوكيل أراضي "بيكا". وكما سنرى لاحقاً، فإنه منذ 1909 كانت مقاومة
الاستيطان اليهودي في فلسطين ملموسة بحيث لا يمكن تجاهلها.
المناهضة العربية للصهيونية
ظهرت بصورة لا لبس فيها في السنوات الخمس الفاصلة بين انتزاع السلطة العلني من قبل "جمعية الاتحاد والترقي" بعد الثورة المضادة في
نيسان/ابريل 1909، وبين انفجار الحرب العالمية الأولى في عام 1914. ويمكن تمييز ثلاثة اتجاهات رئيسية في هذه المناهضة للصهيونية: أ)
مقاومة الصهيونية بسبب الولاء للعثمانيين؛ ب) مقاومة نابعة من الوطنية المحلية؛ ج) مقاومة منطلقة من القومية العربية. والاتجاه الثاني فقط كان
مميزاً لفلسطين. وفيما عدا تلك الاتجاهات كانت هناك نزعات فرعية: مقاومة للصهيونية لأسباب اقتصادية، أو أخرى دينية، أو لا سامية .
ويجب التوكيد على أن هذا التقسيم لاتجاهات رئيسية ونزعات فرعية مناسب أساساً لضرورة تحليل نظري لظاهرة مناهضة الصهيونية في أوساط
العرب. وفي الواقع، لم يعمل أي من هذه الاتجاهات بمعزل عن الآخر، وبانفصال عنه، وعمليا كملت تلك الاتجاهات بعضها بعضاً، وكانت متداخلة
فيما بينها.
أ ) الولاء للعثمانيين :
كانت غالبية الأعيان العرب الذين انتموا إلى النخب موالية أساساً للسلطنة العثمانية. فكمسلمين كانوا على صلة وثيقة بالمجتمع الذي على رأسه، على
الأقل نظرياً، السلطان الخليفة،كانوا رجال دين من طبقات السلطة والحكم المحليين، فكانت لهم مصلحة مشروطة باستمرار النظام القائم والممأسس.
ولم تكن براعم القومية العربية قد لامستهم بعد، مالوا لرؤية الصهيونية بنفس الطريقة التي نظرت إليها الحكومة العثمانية منذ سنوات 1880، كحركة
قومية "انفصالية"، والتي إضافة إلى ذلك، كانت ربما متأثرة بروسيا العدوّة الكبيرة للسلطنة العثمانية، والبلد الأصلي لغالبية اليهود الذين قدموا الى
فلسطين. والحركة الصهيونية، إن لم تكبح، فمن شأنها حسب رأيهم أن تسبب فقدان مساحة من السلطنة، شبيهة بخسارة المساحات في البلقان خلال
القرن التاسع عشر. ولذا ففي نظر الزعامة العربية والتركية على حدّ سواء لم تكن الصهيونية سوى خطر محتمل لوحدة السلطنـة وسلامة أراضيها.
وهذا الموقف يسمع من مطالبة العرب، المرة تلو الأخرى، طوال الفترة، بأنه إذا سمح لليهود الأجانب بالإقامة في فلسطين، فمن واجبهم أن يكونوا
رعايا عثمانيين . وقد جرى التعبير عن هذا الموقف بوضوح. فحافظ بك السعيد، ممثل يافا في البرلمان العثماني، على سبيل المثال، طرح استجواباً
في أيار/ مايو 1909 عن أبعاد الصهيونية. وهل تنسجم حركة اليهود القومية مع مصالح السلطنة؟
وكتعبير واضح عن آرائه، طلب حافظ بك إغلاق ميناء يافا أمام المهاجرين اليهود. وكذلك الأمر في 1910، عندما بدأ ممثلون صهيونيون محادثات
لامتلاك الأراضي التي أقيمت عليها لاحقاً مستوطنة "مرحافيا"(9)، فأرسلت برقية من قبل أعيان حيفا، وفيها احتجاج على البيع المقترح. وادّعى
الموقعون (الذين لم تعرف أسماؤهم) بأن صحافة العالم تشهد على جهود الصهيونيين منذ سريان مفعول الدستور( أي،1908)، لاستملاك أراض
واسعة في سوريا وفلسطين، وأنه دخل البلد مؤخراً مائة ألف مهاجر يهودي، أخلّوا بالهدوء، وبذلك عرضوا السلطنة لأخطار سياسية.
ويبدو أن التعبير الأشد عن هذا الموقف صدر في بداية صيف 1911، عندما اكتشف وجود الجمعية الأولى لمناهضة الصهيونية التي أسسها العرب.
وفي شباط/ فبراير وأيار/ مايو من ذلك العام جرى بحث مطولٌ لمسألة الصهيونية في البرلمان العثماني. والمداولة الأولى كانت جزءاً من هجوم
سياسي أكثر اتساعاً على "جمعية الاتحاد والترقي"، ولم يشارك فيه ممثلون عرب. والمداولة الثانية كانت بمبادرة المندوبين العرب، وفي نهايتها
اشتكى احد المندوبين (حافظ ابراهيم أفندي ـ من ألبانيا) من أن وقت البرلمان يهدر في البحث حول "أشباح الموتى": فللسلطنة جيش من مليون رجل،
وليس لديها ما تخشاه من مائة ألف يهودي في فلسطين . وبرقيات "وكالة الأنباء العثمانية" التي أوردت هذه الملاحظة، لم تفهم كما يجب في يافا،
فُهِمت على أنها تنسب إلى حافظ بك السعيد ممثل المدينة، الذي بالفعل لم يشارك أبداً في النقاش . واحتجاجاً أُرْسِل إلى" فلسطين" (الصحيفة التي
تأسست مؤخراً في يافا ) كتابٌ مفتوح، يتضمن مدائح للممثلين الذين تكلموا ضد الصهيونية، وكذلك نقد لحافظ بك، الذي كأنما قال: بأن "الخطر
الصهيوني" خيالي. وعلى العكس: فبحسب دعوى المبادرين إلى الاحتجاج، "الصهيونية خطر يحيق بوطن حافظ بك، وموجة هائلة ومفزعة تضرب
شواطئ البلد. هذا وبعد: فالصهيونية هي إشارة مبشرة للهجرة المعدّة مستقبلاً للسكان المحليين من وطنهم، ومغادرة بيوتهم وممتلكاتهم". وهذه الرسالة
المفتوحة تميزت بأنها كانت موقعة من قبل " الحزب الوطني العثماني"(10).
المقاومة للصهيونية جراء الولاء للعثمانيين كانت، كما يبدو، الاتجاه الرئيسي للمناهضة العربية للصهيونية قبل الحرب العالمية الأولى. والمرشحان
المقدسيان الاثنان، اللذان فازا في انتخابات البرلمان في نيسان /ابريل 1914، عبّرا بوضوح بمصطلحات الولاء للعثمانيين، عندما أجرى معهما
محرر صحيفة "الإقدام " ( القاهرية) مقابلة في آذار/مارس من تلك السنة. وأعلن سعيد بك الحسيني أن الصهيونية هي خطر على السلطنة، سواء من
ناحية سياسية أو اقتصادية. ". . . وأنا أستغرب جدا كيف تسكت الحكومة على هذه الحركة، لأن الصهيونيين يبقون في حماية الرعاية الأجنبية.
ولذلك، فعلى الحكومة أن، تستيقظ وتفيق من غفلتها وتعلم ما الذي يواجهها ".
وفي تفاصيل الأمر،آمن سعيد بك أن مشاكل الأراضي تستوجب المعالجة، ومن حق الفلاح تلقي المساعدة، من أجل "ألا تنتقل البقية الباقية من
الأراضي التي في أيدينا إلى الصهيونية".
من جهته قال راغب بك النشاشيبي: أنه ليس ضد اليهود العثمانيين، وإنما هو ضد اليهود الأجانب فقط.
" وإذا كان اليهودي الأجنبي راغباً في استمالة قلبنا إليه، فعليه أن يرضى بأن يكون من الرعية العثمانية، ويتعلم لغة الدولة من أجل أن يفهمنا ونفهمه،
وكلانا يعمل لصالح الوطن. ولكن إذا كان المواطن الأجنبي آتياً لمحاربتنا بسلاح مواطنته، ومعاداة أبنائنا وإخواننا والخروج على قوانيننا وأحكامنا،
فمن واجبنا ألا نسكت عن ذلك. وإذا انتخبت نائباً فإنني سأكرس كل طاقاتي، ليل نهار، لإبعاد الضرر والخطر المتوقعين لنا من الصهيونية، دون
المساس، كما ذكرت، بصلاحيات إخواننا العثمانيين ( اليهود)".
وقد أوصى أيضاً أن تتبنى الحكومة في موقفها من الصهيونيين "أسلوب حكومة رومانيا" أي: تسلك إزاءهم كما تفعل مع الأجانب وتحجب عنهم حقوقاً
سياسية ومدنية في مجالات محددة.
ب) الوطنية المحلية
يبدو أنه منذ 1910 وما بعد، بدأ يتطور الإحساس بالهوية المحلية في أوساط عرب فلسطين؛ والدليل على ذلك يمكن أن نجده، على سبيل المثال، في
الصحيفة المسماة، وليس عرضا "فلسطين"، والتي بدأت بالصدور في ربيع سنة 1911 في يافا، والتي اعتادت التوجه إلى قرائها كـ"فلسطينيين". وفي
هذه الأجواء المتبدلة، ربما كان بالإمكان التكهن بأن بعض العرب المحليين سيبدأون النظر إلى أهداف الصهيونيين ونشاطاتهم في فلسطين على أنها
تهديد مباشر للسكان المحليين . ويمكن أن يكون موقفهم قد انطلق بداية من مسار فكري، شكلت بحسبه الصهيونية خطراً على السلطنة بشكل عام،
وعلى فلسطين بصورة خاصة. ومن هنا كانت خطوة صغيرة فقط كافية لاستيعاب الصهيونية كخطر خاص على فلسطين، دون علاقة بآثارها على
السلطنة بكليتها . وفي أيار/مايو1910، عندما أرسلت من حيفا البرقية المذكورة أعلاه، وفيها احتجاج على مشروع بيع الأراضي لإقامة مستوطنة "
مرحافيا"، أرسلت أيضاً برقية موازية إلى استنبول من قبل رؤساء كل الطوائف الدينية في الناصرة. ورأى هؤلاء بالاستيطان اليهودي في منطقتهم
تهديداً مباشراً لهم دون علاقة بالخطر على السلطنة بكليتها. " قدوم مهاجرين يهود بعدد كبير من الخارج إلى هذه المنطقة يتسبب بأضرار سياسية
واقتصادية كبيرة. في الماضي، منعوا من الإقامة هنا، والصحافة كلها تتفق في العالم بأن الصهيونيين يُنمّون في قلوبهم النية لمصادرة أملاكنا. هذه
النوايا هي بالنسبة لنا مسألة حياة أو موت. . . ".
وفي أواخر 1910 ظهر تطور مثير للاهتمام في الصحافة العربية المحلية، ينطوي على إظهار كيفية إسهام نشاط الصهيونيين أيضاً في تنمية
الإحساس بهذه الهوية في أرجاء البلد. ففي تشرين ثاني/ نوفمبر نشر أحد أعيان حيفا العرب رسالة مفتوحة في "الكرمل". وفيها دعوة محرر "
النجاح" (منشور صغير وقصير العمر في القدس)، للتأمل في المحيط ورؤية ما يحدث. وبعد شهر شكر محرر "النجاح" " الكرمل" على تلك الدعوة: "
لا مفرّ لنا إلا قبول كلامك والمشاركة بصوت دعوتك والاعتراف بيقظتك والقول للوطنيين في القدس : استيقظوا أيها النيام، استيقظوا !"
الوطنية المحلية التي كانت نقوم على أساس أكثر اتساعاً تحولت إلى ركيزة معروفة ومفهومة في المقاومة للصهيونية. وقد جرى التعبير عن الأمر
بشكل واضح في 1913، عندما أوصى رجل نابلسي في جريدة "فلسطين" بإقامة شركة، يساهم فيها أعيان من جميع المدن الرئيسية في فلسطين:
القدس، يافا، حيفا، غزة، ونابلس. وعلى الشركة شراء الأراضي الحكومية والأراضي المزروعة لإنقاذها من أيدي الصهيونيين. واقترح الكاتب أن
تسمى الشركة باسم جدير بالإشارة: "شركة وطنية فلسطينية" بخلاف صارخ عن " الحزب الوطني العثماني" الذي تأسس في يافا قبل عامين.
هذا الاتجاه المحلي و"الفلسطيني" تعزز في 1914. ففي2 نيسان/ ابريل أُوقف صدور صحيفة " فلسطين " بأمر من السلطات، وكما يبدو في أعقاب
نشر مقال قبل ذلك بأسبوعين، يتضمن هجوماً عنيفاً على الحكومة في مسألة الصهيونية . وكان جواب صحيفة "فلسطين" نشر رسالة دورية إلى
قرائها في نهاية شهر نيسان/ ابريل، تعبر, حسب شهادة نائب القنصل البريطاني في يافا، والقنصل البريطاني في القدس , " بصدق عن العداء
المتصاعد في أوساط العرب للصهيونية".
وبمرور شهرين، وزعت في القدس "دعوة عامة للفلسطينيين، موقعة من قبل "فلسطين"، وفيها نداء لعمل حازم ضد الصهيونية.
في عام 1914 بدأ أعيان عرب مقدسيون، ممن كانوا قبل بضع سنوات أولياء الموالين للعثمانيين، يعارضون الصهيونية على أساس تبريرات وطنية
محلية. وقد ظهر ذلك في سلسلة مقابلات أجرتها صحيفتا "فلسطين" و"الإقدام" قبل انتخابات نيسان /ابريل 1914 وبعدها. وجاء المرشحون من
الزعامة المسلمة حصراً، وجميعهم أولوا اهتماماً خاصاً بمستقبل فلسطين.
حسين الحسيني، رئيس المجلس البلدي في القدس، كان في نظر الاستيطان الجديد متعاطفاً معه. وكان إلى حد ما الأكثر اعتدالاً بين الذين أجريت معهم
المقابلات، كونه قال بأنه لا يرى خطراً في الحركة الصهيونية، لأنها ليست حركة سياسية، وإنما هي حركة تعمل في الاستيطان. ومع ذلك، كانت
لديه تحفظات خاصة، نابعة أيضاً من هموم محلية:
" لست أرى أي خطر من الحركة الصهيونية، لأن هذه الحركة ليست سياسية، وإنما استيطانية. وأنا متأكد أنه ما من صهيوني واحد، عاقل وذي علم،
تخطر في باله فكرة تأسيس حكومة يهودية في فلسطين، كما يقولون عنهم. جاء الصهيونيون إلى هذه الدولة من أجل العيش فيها. وهم أناس متعلمون
وذوو ثقافة، ولا مطامح لديهم، وهم موحدون فيما بينهم . ليس من العدل والإنسانية أن نكره ونعادي هذا الشعب. . . . إلا أنه مع ذلك علينا مراقبتهم
بعيون مفتوحة، وإذا استمرينا في طريقنا وهم في طريقهم فستنتقل كل أراضينا لملكيتهم، وفلاحنا فقير ومعدم، والفقير قد يتنازل عن أملاكه من أجل
عيشه. ولذا فعلى الحكومة أن تصدر قانوناً جديداً في فلسطين فيما يتعلق ببيع الأراضي، وتضع شروطاً معروفة له وتقيده تبعاً لموقعنا في البلد".
أما حافظ بك السعيد /من يافا/ الذي طالب في 1909 في البرلمان بإغلاق يافا في وجه هجرة اليهود، فقد أعلن:
"لولا أن الخطر الصهيوني كبير، لكنت أول من يعلن أننا بحاجة إلى الصهيونية في هذا البلد. ولكن الوضع مختلف، وإذا استمر الحال دون تقييد، وإذا
كان مسموحاً للمهاجر شراء الأراضي في أي مكان يريد... وإذا لم تقم الحكومة بأي عمل ضد خطر هجرة الصهيونيين، فإنه من الممكن قطعاً أن
ينتزع المستوطنون الجدد لأيديهم نصيب الأسد من التجارة والأراضي (في فلسطين)، وأن يفوقوا بعددهم السكان المحليين، الذين تسعة أعشارهم لا
يعرفون ما هو العلم والتعليم. . . وأنا أصلي إلى الله، أن يتخذ الأشخاص القائمون على دفة الحكم الوسائل التي تفيد سكان البلد".
وأخيراً أحمد العارف ( والد عارف العارف) الذي فاز في انتخابات 1912، إلا أنه هزم في 1914، قال لمحرر" الإقدام":
" موضوع أحاديث سكان فلسطين الوحيد حالياً. .. هو مسألة الصهيونية. الجميع يخشاها ويخافها ــ والمسألة الصهيونية، وإن كانت في الظاهر
اقتصادية، إلا أنها، في الحقيقة سياسية هامة . ولو طالعنا تاريخ الشعوب القديمة والأراضي التي فقدتها / فإننا نتأكد من أن جميع الأحداث السياسية
قامت على أسس اقتصادية. والحكومة تنظر إلى الصهيونية على أنها مسألة اقتصادية. إلا أنه ما من شك في أنها عاجلا أم آجلا، ستتأكد أن المسألة
سياسية هامة. وستجري، لامحالة تغيرات وتبدلات في جغرافية فلسطين – إذا استمر الأمر على هذا النحو في المستقبل. ونشاط الصهيونيين للحفاظ
على لغتهم، عاداتهم ومواطنيتهم – يؤكد استنتاجي هذا".
ج) القومية العربية :
مع أن قلة، من الناحية العددية، كانت من القوميين العرب الذين أسسوا "اللامركزية"(11) في القاهرة عام1912، ولجنة الإصلاح"(12) البيروتية في
بداية 1913، إلا أن أهميتهم، سواء من ناحية فكرية، أو بالنظر إلى المستقبل، كانت كبيرة جداً. فمواقفهم إزاء الصهيونية واتصالاتهم بالقادة
الصهيونيين ستبحث بتفصيل معين لاحقاً. ونكتفي إذن هنا بالقول أنه في 1913 بدا وكأن غالبيتهم مالت لتأييد تسوية مع الصهيونيين، بينما في 1914
حصل تغيّر في التوجه، وظهر اتجاه واضح من المقاومة المبدئية للصهيونية، ليس فقط بسبب الدعوى بأنهم عقدوا حلفاً مع "جمعية الاتحاد
والترقي"13) وإنما أيضاً بسبب الإدعاء بأن هجرة يهودية مستمرة إلى فلسطين قد تقطع التواصل الإقليمي العربي. وهذه النقطة الأخيرة قدمت
بصورة مفصلة من قبل خليل السكاكيني ،وهو شاب راديكالي مقدسي، إذ كتب في يومياته في 23 شباط/ فبراير 1914:
" احتلال فلسطين من قبل اليهود يعني احتلال قلب الأمة العربية، إذ أن فلسطين هي الحلقة الواصلة بين شبه الجزيرة العربية ومصر وإفريقيا. وإذا
احتل اليهود فلسطين، فإنهم سيحولون دون توحيد الأمة العربية؛ وفي الحقيقة، فإنهم سيقسمونها إلى جزأين، ليس بينهما صلة. وهذا الأمر يضعف
الشأن العربي، ويحول دون تضامن الأمة ووحدتها" .
د ) اتجاهات فرعية :
إلى جانب الاتجاهات الرئيسية الثلاثة في ظاهرة المقاومة للصهيونية في أوساط العرب، يمكن تمييز ثلاث اتجاهات فرعية أيضاً، هامشية بالنسبة إلى
الاتجاهات الرئيسية: مقاومة للصهيونية بسبب التنافس في المجال الاقتصادي، بسبب اللاسامية، أو لأسباب ودوافع إسلامية.
(1) ومع أن تحفظات لأسباب اقتصادية كمنت في أساس برقية الاحتجاج في 1891، ومع أنها أثيرت في الصحافة من حين لآخر، فإنه فقط في 1911
جرى التعبير المنظم عنها. ففي تلك السنة، التي شهدت تشكيل " الحزب الوطني العثماني" في يافا، شكلت أيضاً مجموعة أسميت " الشركة الاقتصادية
التجارية".
وبناء على شهادة شمعون مويال، الطبيب في يافا، الذي كتب في صحيفة " حيروت " ( القدس)، حظر على اليهود الانضمام إلى تلك الجمعية، التي
كان هدفها مقاومة الصهيونية. وطرحت الجمعية، حسب مويال، إثارة كراهية اليهود في قلب السكان المحليين، وهكذا يجبر اليهود على ترك البلد.
وذكر أيضاً أنه بموازاة ذلك حاول نجيب نصّار تنظيم مقاطعة اقتصادية لليهود في حيفا, وطرح نصار ألا يؤجر العرب المحليون بنايات لليهود ولا
يتاجروا معهم. ومع أن هذا الطرح لم ينجح كثيراً، حيث كما أشار إلى ذلك "العامل الشاب" (هفوعيل هتسعير): "حتى الأشد تعصباً بين المسيحيين"
سرّ لتأجير بيته ليهودي دفع كما يجب تماماً، عاماً بعد عام.
مسألة التنافس الاقتصادي مع الاستيطان اليهودي الجديد، بقيت في أساسها موضوعاً للصحافة العربية حتى منتصف 1914، عندما ذكرت صحيفة
"فلسطين" تشكيل لجنتين جديدتين في القدس. الأولى أسميت "الشركة الوطنية الاقتصادية". ويجوز أن الصفة "وطنية" تشير إلى أن الشركة مالت
للولاء العثماني، وهو ما يمكّن أيضاً تفسير تشكيل اللجنة الأخرى، التي أسميت "شركة الاقتصاد الفلسطيني العربي".
(2) اللاسامية الأوروبية: التي جرى التعبير عنها في المناهضة العربية للصهيونية، الأمر الذي تمكن ملاحظته في الرسوم الكاريكاتورية، التي
نشرت في النشرة الساخرة "الحمارة" البيروتية، خلال فترة قصيرة بعد بيع أراضي الفوله لإقامة مستوطنة مرحافيا في ربيع 1911: صلاح الدين
البطل المسلم الذي طرد الصليبيين من الأرض المقدسة، يوصف في الرسم الكاريكاتوري وكأنه يهدد صورة يهودي، رسمت بخطوط لاسامية فجّة،
وهو يدحرج ذهباً كثيراً إلى يد ممدودة، تخص موظفاً عثمانياً، أو مالك أرض عربياً. وبالفعل، فإن لهجة اللاسامية التي استشعرت في جزء من النقد
العربي كانت شديدة، إلى حد أن روحي بك الخالدي، لدى افتتاحه المداولة حول الصهيونية في البرلمان، في 16 أيار/مايو 1911، أحس أنه مضطر
للإعلان بداية، وبارتباك معين، أنه ليس لاسامياً وإنما مناهض للصهيونية.
ونكتفي هنا بنموذج آخر من تلك الاتجاهات الفرعية، ففي 8 تشرين الثاني / نوفمبر 1913، نشر الشيخ سليمان التاجي الفاروقي في صحيفة "
فلسطين" قصيدة سياسية، تعبر عن ذاتها: "الخطر الصهيوني". كان المؤلف شيخاً ضريراً من الرملة، صاحب أملاك في محيط يافا، ورد ذكره في
1911 كعضو هام، سواء في "الحزب الوطني العثماني" أو في "الجمعية الاقتصادية التجارية" في يافا. وكان مطلع القصيدة في صحيفة "فلسطين": "
أبناء الذهب الرنان، توقفوا عن خداعنا" وفي استكمال القصيدة طور الفاروقي في لهجة لاسامية عتيقة، بحسبها يملك اليهود أموالاً طائلة، وبواسطتها
يستطيعون فرض إرادتهم على شعوب ساذجة وغير واعية.
(3) وأخيراً، ربما كجزء من التمرد الإسلامي بعد حرب البلقان، بدأت المقاومة العربية الضئيلة للاستيطان الجديد، تتنوع بأفكار إسلامية خاصة.
سليمان التاجي على سبيل المثال – الذي كان بعد الحرب العالمية الأولى محرّر "الجمعية الإسلامية" (نشرة إسلامية ذات ميول مناهضة للصهيونية)
توجه بقصيدته "الخطر الصهيوني" إلى الخليفة مع أن الخلافة كانت في حينه لا وجود لها كمؤسسة إسلامية:
" وأنت" أيها الخليفة حامـــي المؤمنين ارحمنا
يا صاحب التاج، هـــل يحلو بـــعينيك أن تـــرى
كيف تشرى أرضنا منّا، وكيف تنزع من أيادينا"
الدعوة العامة للفلسطينيين، التي ورد ذكرها أعلاه، والتي وزعت في القدس، في حزيران/يونيو1914، كانت إسلامية في لهجتها إلى حد كبير. وهذه
الدعوة نشرت باسم عمر بن الخطاب (فاتح فلسطين للإسلام)؛ والدعوة أوردت قول النبي محمد ، كأنما "مغادرة الوطن هي جريمة"، وحذرت من أن
المتنازلين عن ميراثهم ليسوا مسلمين. "الله، ورسوله، وملائكته، وجميع الناس، سيكونون ملزمين بعقابكم... هل تريدون أن تُسْتَعبدوا للصهيونيين،
الذين جاؤوا إليكم لإخراجكم من وطنكم، بقولهم أن هذا البلد هو لهم؟ اسمعوا إني أدعوا الله ورسوله أن يشهدا ضد أقوالهم، إنهم كذابون..."
هـ) مواقف مركبة وتأثيرات خارجية:
كما ذكر أعلاه، هذا التقسيم للاتجاهات يرمي أساساً لتلبية ضرورة التحليل النظري لظاهرة مناهضة الصهيونية في أوساط العرب. إلا أنه في الواقع
استكمل عدد من هذه الاتجاهات بعضه بعضاً، فتداخلت معاً. والعرب الذين عارضوا زيادة الاستيطان، قاموا بذلك عموماً لعدد من الأسباب. كان
الموقف الأكثر انتشاراً في فلسطين يقوم على الولاء للعثمانيين، وانضم إلى الوطنية المحلية. وعلاوة على ذلك، يمكن تمييز أسس أخرى أيضاً ( مثل
اللاسامية، المخاوف الاقتصادية، وما شابه)، والتي تختلف وتتبدل من شخص لآخر حسب ديانته، مهنته، وما شابه.
فنجيب نصّار، محرر "الكرمل"، كان البارز بين الناشرين العرب في فلسطين، والذين عبروا عن هذا الموقف المركب، وحتى الممثل، في مناهضة
الصهيونية. في الجدل الأول حول الصهيونية في البرلمان العثماني في شباط/ فبراير1911، تكلم الصدر الأعظم عن الصهيونيين باستخفاف وكأنهم
"حمقى تماماً". وضد هذا الادعاء خرج نصّار حالاً بملف نشره في حيفا: " الصهيونية، تاريخها، هدفها، وأهميتها"، وفيه أراد إثبات أن خطر
الصهيونية ليس خيالياً، وأن القادة الصهيونيون ليسوا حمقى. والجزء الأكبر والأول من هذا الملف كان في الأساس ترجمة محرّفة لمادة الصهيونية
في "الموسوعة اليهودية" التي كتبها الأستاذ ريتشارد غوتهايل. وفي الجزء الثاني، الأكثر أهمية، سأل نصّار "ماذا نستطيع أن نتعلم من هذا الُمؤلًف
عن الصهيونية؟ وكذلك "ماذا نحتاج"؟ وكعثماني مخلص، اجتهد نصّار في إظهار أن الحركة الصهيونية تنطوي على تهديد لوحدة السلطنة وسلامة
أراضيها. ومع أنه ادعى علاوة على ذلك، بوصفه وطني محليّ، أن من واجب السكان المحليين في فلسطين أن يولوا مصالحهم الاهتمام, خاصة إزاء
ما حدده كتجاهل الحكومة العثمانية لمسؤولياتها. والتوجه الوارد هنا يجسد تركيب موقف نصّار:
" فليقم رجالنا ويبدؤوا بتشكيل اتحادات للحرب من أجل العثمانية، ولتعلّم الاقتصاد وزرع المبادئ، بألا يسمح لأموال العثمانيين أن تجري إلى جيوب
المستوطنين الذين يحاربوننا على الوجود، ولن يردّوا (أموالنا إلينا)". . . . "لماذا لا نكون نحن الذين تحملوا لمئات السنين المآسي والعذابات، رجالاً
ونسلك سبيل الحرية، ونحيا من أجل وطننا، ومن أجل أنفسنا، كي لانجرّ على أنفسنا وعلى أبنائنا لعنة آبائنا بسبب ضياع البلاد التي امتلكوها
بدمائهم!"
وإلى هذه الاتجاهات المتشابكة يجب أيضاً إضافة التأثيرات الخارجية، للأحداث السياسية في ذلك الزمان. وبالفعل، نبعت ردّة فعل العرب على
الصهيونية في الأساس من ازدياد الاستيطان الجديد المستمر في فلسطين. ومع أنه منذ 1909 تأثر العرب كذلك من نواح معينة بالنضال السياسي في
السلطنة العثمانية، وحتى بأنشطة مجموعات يهودية غير صهيونية، سعت على سبيل المثال، للحصول على إذن للاستيطان اليهودي في أجزاء أخرى
من السلطنة، مثل العراق.
والثورة المضادة في نيسان /ابريل1909 نجمت ضمن أسباب أخرى جراء المعارضة للمفاهيم العلمانية لدى أعضاء "جمعية الاتحاد والترقي"،
وجراء القلق من أن "الجمعية" تعرض للخطر موقع "الشريعة" والطابع الإسلامي للسلطنة. وبعد قمع الثورة المضادة، ارتدى هذا القلق صوراً
أخرى،ومنها إلقاء التهمة على "الجمعية" بأنها واقعة تحت سلطة اليهود والماسونية .
وفي موقع آخر، وصفت إثارة تلك الاتهامات بتوسع في الصحافة، وحتى في مداولات البرلمان، وكذلك الضرر الذي لحق بالشأن الصهيوني في
أعقاب ارتداع "الجمعية" عن إظهار الموقف الايجابي إزاءه، وهو حكم قد يفسّر بأنه تأكيد الاتهامات.
والكذب في تلك الاتهامات، حتى ولو كان واهياً جداً، فإنه امتلك أرجلا سريعة، ومنذ أيار /مايو 1909 قدمت للقارئ العربي النظرية بشأن سلطة
اليهود والماسونيين في "جمعية الاتحاد والترقي". وقد وردت في "نهضة العرب"، نشرة " اللجنة المركزية السورية" – تنظيم عربي لا أهمية له (يبدو
أنه كان صغيراً) في باريس:
"وهكذا، فهم (اليهود) يقولون: المسلمون، الأتراك، والعرب،لا يستطيعون بأي حال العيش بسلام واستقرار والتمتع بالحرية والمساواة في دولة قائمة
على نهج خليفة مسلم. وماذا سيحدث عندها؟ سيتمردون على الأحرار (الماسون). وستنفجر الصراعات بينهم، وعندها تتدخل الدول الكبرى وتحمي
شؤون اليهود. وهذا الأمر سيتسبب بنزاعات وعداوات بين العناصر المختلفة من المملكة ويختل النظام ويغيب الحكام ويحصل اليهود أخيراً على
أطماعهم".
وبعد ادعائه بأن اليهود مسئوولون عن عودة "جمعية الاتحاد والترقي" إلى الحكم بعد الثورة المضادة في نيسان/ ابريل 1909، وأن كل أعضاء "
الجمعية" دخلاء على عمانوئيل كراسو، (يهودي ماسوني في سالونيكي)، توجه الكاتب وسأل: "ألا ترون أنهم (اليهود) أخذوا الآن زمام الحكومة في
أيديهم، وبعد قليل سيرفعون العلم اليهودي؟ "ولذلك: " مَن ِمن الحكام لا يتوجب عليه التفكير بالخطر الذي سيحيق به من اليهود؟" .
في البداية لم تجد هذه النظرية مساراً لها في أوساط العرب، وإنما استخدمها أساساً اليونان والأتراك من أعداء "جمعية الاتحاد والترقي" فقط، بهدف
إرباكها. بيد أنه بعد النقاش حول الصهيونية، الذي جرى في شباط / فبراير 1911 في البرلمان العثماني في "استنبول" بدأت الاتهامات بشأن تسلط
اليهود على "الجمعية" تستوعب في أوساط العرب، خاصة في أوساط الصحفيين العرب المعارضين لـ"الجمعية"، وطبعاً في أوساط العرب المناهضين
للصهيونية .
وكما ورد أعلاه، نشر نجيب نصّار بعد تلك المداولة في البرلمان ملفّه "الصهيونية"، وتبنّى تلك الاتهامات. وفي حينه أشار رشيد رضا، الذي انضم
في 1911 إلى معارضي "الجمعية" في أمور كتبها في "المنار" الى أنه لدى إقامته في استنبول قبل ذلك بسنة، انتبه إلى أن تأثير اليهود في "جمعية
الاتحاد والترقي" قد تزايد . ولأسباب مفهومة، أقلقت تلك المعلومة الكاذبة بالذات العرب المناهضين للصهيونية، وبشكل خاص القوميين العرب.
وثمة تأثير خارجي آخر أسهم في معارضة العرب للصهيونية، كان متعلقاً بأنشطة جماعات يهودية غير صهيونية، سعت للحصول على إذن
لاستيطان يهودي في السلطنة. لأنه، فيما عارضت "جمعية الاتحاد والترقي" الصهيونية فعلاً، فإنها لم تعارض من حيث المبدأ هجرة يهود إلى
السلطنة العثمانية بمجملها، وحتى صرح عدد من أعضاء "الجمعية" بدعم استيطان كهذا. أمور بهذا المعنى صدرت عن الدكتور ناظم، أمين سر "
الجمعية" في نهاية 1908، وبمرور عدد من الأشهر.، كررها أحمد رضا بك، من قادة " اللجنة" على مسامع الحاخام باشي (الحاخام الرئيسي) في
استنبول. وكانت هناك جهات يهودية تمسكت بأقوالهما: "بيكا" حصلت على إذن بمسح أراض في مناطق معينة من العراق وآسيا الصغرى، وفي عام
1909و1910 قدم من برلين إلى استنبول الدكتور ألفرد نوسيغ، وتحدث مع قادة عثمانيين حول "التنظيم اليهودي العام للهجرة"، الذي أنشأه هو وتطلع
لتوطين يهود مطاردين في العراق.
لم ينتج شيء من كل هؤلاء، ماعدا الإرباك الذي حصل لدى شخصيات عثمانية عديدة بدأت تتسأل ما إذا كانت "بيكا " والمنظمات اليهودية الأخرى
ليست سوى هيئات صهيونية خفيّة. وكان الأشد خطورة أنه في أذهان العديدين ارتبطت مشاريع الصهيونيين بمشاريع الاستيطان في العراق والأمكنة
الأخرى، وانضوت في مشروع شامل، وكما ادعى مقال في منشور تركي، "روملي" صدر في سالونيكي في نيسان/ ابريل1911: "من وراء تلك
المشاريع يتخفى حلم تأسيس مملكة يهودية ومركزها القدس، والتي تشمل بلاد بابل ونينوى القديمة".
سارع العرب المناهضون للصهيونية للتشبث بتلك الدعوى. وفي ملف "الصهيونية" جهد نصّار، ومن خلال مقاطع من التوراة، لإثبات أن رؤية "
عودة صهيون لليهود تشمل لبنان والعراق أيضاً. ولذلك، "يضم (الصهيونيون) "سوريا" إلى فلسطين، وأحياناً "المناطق الآسيوية والشرقية من
تركيا". وفي النقاش الثاني حول الصهيونية في البرلمان في استنبول، أيار/ مايو 1911، أعلن المتكلمون العرب الثلاثة كلهم هذا الادعاء.