ام الشهيد كعامود النار وليست امرأة شاذة يا محافظ نابلس
إذا كانت غلطة عابرة قد نحاول مسحها رغم أنها ستبقى بقعة سوداء في ملفك، أما إذا كانت مقصودة فعلى الشعب الفلسطيني محاسبته نعم يجب الاعتذار لجميع أمهات الشهداء والاعتذار لعطر الشهداء الذي تحاول تلويثه.
عبر مقابلة مع محافظ نابلس ” إبراهيم رمضان ” خرج علينا بصوته البائس، المتخاذل، باتهام والدة الشهيد إنها شاذة، لأنها ترسل ابنها للشهادة – يموت من أجل الوطن – يتكلم باستخفاف عن الثوار والمقاومة وعن شخصية تشي جيفارا وغيره من الالفاظ التي لا تمثل صفة مسؤول .
ولا نعرف إذا السلطة ستهتم بالموضوع، وإذا سمعت ..!! عليها مقاضاته على تصريحاته السيئة بحق أنظف وأقدس ما في الوطن الشهيد وأم الشهيد ، لولاهما لما وصلتم إلى السلطة وتربعتم على عرش المال و الحكم ، وتتعاملون اليوم مع هؤلاء الشباب الذين يحمون مؤخراتكم من بطش التاريخ وبطش المخططات الإسرائيلية .
عندما التقي بأم الشهيد اشعر ان قلبي يطل على مساحات جافة تحولت الى تابوت ، الى قبر يتدثر بأزهار وينام على مرمى دمعة وصرخة ، شاهد القبر والعبارات المحفورة تشهد ان العمر قد سرق في لحظة وان مقصلة الكراهية كانت بالمرصاد للعنق الذي حمل الامنيات والمستقبل الموعود .
ضعيفة انا امام ام الشهيد ، اشعر بالخجل ، لان الرصاصات التي اخترقت جسد ابنها وحولته الى ذكرى في خيال مسجون بالانتظار اصبحت رصاصات اصدقاء وعناق وضحكات ، وتحول الابن الى مجرد رقم في سجل مهترىء ، يغيب تحت الغبار الذي يتراكم ليصنعوا منه كرسياً للقائد الذي اصيب بلعنة النسيان والغفران .
الدموع تنتظم انفاسها في كل لحظة فوق الخدود التي تدلت من الهموم وحفرت في القلب غياباً، الام تشتاق الى ضحكة الابن ، قهقهته ، غضبه ، غسل ملابسه ، كي قمصانه ، تنظيف غرفته ، تشميس فرشته ، حتى بقايا سجائره التي كانت تثيرها اصبحت تستحضر دخانها ، والطبخات التي كان يحبها استقرت في برودة الذكرى لا تتسلل الى مجال التسخين لان طعم الحياة مات .
عندما التقي بأم الشهيد اشعر انني اغرق في زمن يهطل دماً ويرقص بأطراف اصطناعية ، لا احد يستطيع الاقتراب من حجم اشتياقها ، انها مشتاقة للاحتضان الغائب رغم انفه ، للمس شعره ، لدس راسه في ثنايا صدرها ، تريده الآن ان يسمع دقات قلبها ، ان يسمع نبضاتها المليئة بالغصات والتنهدات الحارة المحترقة .
لا احد يسمع ، لا احد يشعر ، هي وحدها المرمية على بلاط الحلم ، تنتظره كل ليلة ، لعله يمر ويطرح عليها السلام او يخبرها شيئاً عن اخباره ، عن بعاده .
في العيون سواد ، قهر ، ليل ، عذاب طويل بدون حدود ، في حدقات عينيها كرات نارية ملتهبة ، بقايا شموع ما زالت مضيئة ، القدر ينفذ من بين الشمع ليسجل انتصاره مصحوباً بالكبرياء الذي يضيء قارات الروح .
الوطن شرفة ، من اعلى يراقب ارتطام الاجساد بالأرض وربيع التراب يزدهر ويلتحم بالأجساد التي يطويها ، ودروب الدم ثملة تتعمد بالأرقام التي تزداد ايقاعاً وشراسة ، تضاف الى الارقام التي تتناسل يومياً وتلقي على النوافذ ستائر المهرجانات والشعارات التي تمجد الدم والبقاء والتصدي والعنفوان وتتعهد بمواصلة الكفاح البركاني الذي يتسع ويضيق حسب الحاجة والمواقف الاستغلالية وعدد الميكروفونات والفضائيات والثمن الذي يقبضه الكبار .
كلما تناسلت الخطابات وتكاثرت اعداد المنصات كلما ازداد عدد اسماك الزينة في حوض الانانية الضيقة ، وفي مواسم الذكرى تتسلق اسماك الزينة اشجار الميكروفونات لتتحول الى اسماك قرش تنتفخ بجثث الكلام ، وهناك في مكان ما ، في الظل او بين الناس هي وحدها الام تبكي بصمت دون انتظار المناسبات .
اخجل من دموع الامهات ، هن وحدهن اللواتي يعشن على عتبات القلق والاشتياق ، هن وحدهن يسافرن يومياً فوق نسمات الوجوه والصور التي غابت ومازالت بقاياها فوق الجدران تأكلها الرطوبة والسنوات اليابسة .
هن وحدهن من يتأملن ثياب الذين غابوا لكن رائحة عرقهم لا تغيب ، هن وحدهن من يقطفن عناقيد الذكريات ويعصرن الدموع ، عبق وعرق الابناء رحلة لا تنتهي ، واسطورة الامومة تنطلق وتمد اصابعها الى فراغ ، الى الفضاء لعلها تصطدم بوجه الابن ، لكن لا احد .
ثم يأتي أحدهم وهن يتمرغن بعبق ثياب الأبناء ويطلق عليهن لقب ” الأم الشاذة ” .