بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
ليس الثوار الجزائريين فقط..
إليك قصص القائد الإفريقي المسلم والزوجة الذين تحتفظ فرنسا برفاتهما
كان صادماً خبر احتفاظ فرنسا بجماجم الثوار الجزائريين وقادة المقاومة الوطنية ضد الاستعمار الفرنسي، وذلك بعد انكشاف الأمر عام 2011، وما تبع الخبر من سعيٍ جزائريّ لاستعادة رؤوس رموزهم لدفنها وتكريمها بشكل لائقٍ بعد مضيّ أكثر من 170 عاماً من الاحتفاظ فيها بالمتاحف الفرنسية.
لكن وثائق جديدة تحصّلت عليها صحيفة نيويورك تايمز من "متحف البشرية" كشفت وجود رفاتٍ وعظام لشخصيات أخرى قد تكون "مثيرة للنزاع"، بما في ذلك قائد مسلم إفريقي وزوجة قائد إفريقي مسلم آخر وابنة إمبراطور إفريقي مسلم.
بحثنا في "عربي بوست" عن حكاية هذه الشخصيات، والطرق التي استحوذت فيها القوات الفرنسية على جماجم ورفات هذه الشخصيات التاريخية.
القائد رابح بن الزبير
وفقاً لما أوردته صحيفة نيويورك تايمز عن التقرير السري يعود لعام 2018 الذي تحصّلت عليه الصحيفة من المتحف نفسه، فإن "متحف البشرية" الفرنسي يمتلك رفات "أمير حرب سوداني حكم جزءاً من تشاد في تسعينات القرن التاسع عشر".
عند العودة إلى تاريخ تشاد، يتبين أن رابح الزبير بن فضل (1842-أبريل/نيسان 1900) هو الزعيم السوداني والقائد العسكري المسلم الذي أسس إمبراطورية في محيط بحيرة تشاد، وكانت عاصمتها مدينة "ديكوا" آنذاك، وقد كان القائد الذي تصدّى للغزو الفرنسي وقُتِل على أيديهم، لذا فإن الرفات المذكور يعود له كما تُظهِر التواريخ.
تعرض رابح بن الزبير للاستعباد في طفولته، ثم التحق بالخدمة العسكرية تحت إمرة الأمير السوداني زبير باشا. وقد أبرز من صفات الإخلاص والتميز والموهبة الحربية ما جعل القائد ينتبه لقدراته الاستثنائية، وترقّى لاحقاً إلى منصب قياديّ رغم أنه لا يزال في بداية العشرينات.
بعد العديد من المعارك والتطورات المتعلقة بالصراع مع الإنجليز في السودان، انفصل رابح بن الزبير مع جزء من الأتباع وتوجه نحو وسط إفريقيا.
ووفقاً لما تورده موسوعة بريتانيكا البريطانية، طوّر رابح بن الزبير أساساً متيناً للقوة العسكرية، وبلغ أتباعه 5000 رجل بحلول أوائل تسعينيات القرن التاسع عشر، فضلاً عن 44 قطعة من المدافع الخفيفة، وتوجه خطوة بخطوة نحو الاستحواذ على منطقة بورنو شرق بحيرة تشاد قرابة 1893م، ومن ثم أسس عاصمته في ديكوا جنوب بحيرة تشاد تحت إدارته المركزية.
لكن قبل فترة وجيزة من توطيد رابح بن الزبير حكمه ونيّته التوجه للتوسّع نحو مناطق جديدة، وتحديداً في سنة 1884، اجتمعت 13 دولة أوروبية في مؤتمر برلين، من أجل تنظيم التوجه نحو إفريقيا، بمعنى تقاسم القارة الإفريقية بطريقةٍ تحمي القوى الاستعمارية من التصادم مع بعضها هناك.
وهكذا، سعت فرنسا إلى فرض نفوذها على المناطق الداخلية لغرب إفريقيا بالكامل، ومن ضمن مخططها ذاك تحرّك رتل فرنسي عام 1898 باتجاه الشمال من الكونغو.
تلاقت قوات الرابح مع الفرنسيين في معركة كوسيري الشهيرة على نهر لوغون في 22 نيسان/أبريل 1900، والتي قُتل فيها القائد رابح بن الزبير بعد اقتتالٍ شديد وجُلب فيها رأسه مقطوعاً ينزف دماً إلى أحد قادة القوات الفرنسية.
زوجة الحاج المحارب عمر
ذكر تقرير نيويورك تايمز امتلاك متحف البشرية الفرنسي لعظامٍ تعود لزوجة مؤسس إمبراطورية توكولور- أو تكرور- الإفريقية التاريخية، وفقاً للوثائق التي تحصّلت عليها الصحيفة من المتحف.
ووفقاً لهذا الكلام، يستحوذ المتحف الفرنسي على عظام زوجة الحاج عمر (حوالي 1795-1864)، وهو الحاج عمر بن سعيد التل الذي أعلن الجهاد عام 1854، وأسس مملكة إسلامية عُرفت باسم إمبراطورية توكولور، بين نهريّ السنغال والنيجر (في ما يعرف الآن بغينيا العليا وشرق السنغال وغرب ووسط مالي)، وقد استمرت هذه الإمبراطورية حتى تسعينيات القرن التاسع عشر تحت حكم ابنه أحمد سيكو.
وكانت إمبراطورية الحاج عمر من بين أكبر مثيلاتها في غرب إفريقيا على مدار التاريخ، واصطدم في تاريخه مع القوات الفرنسية في مواقع عدّة، ولا يُعرف تماماً إلى ما آل مصيره في النهاية، إذ يقول بعض المؤرخين بأنه قضى ضمن إحدى ثورات القبائل المحلية ضده عام 1864، فيما تقول روايات أخرى إن الطوارق هاجموا مدينة تمبكتو ودمروا جيشه، ما اضطره إلى الانسحاب واللجوء إلى كهفٍ قُتل فيه عندما فُجّر بالبارود.
لم يتبقّ من آثار إمبراطورية توكولور للحاج عمر، سوى المسجد الذي بناه بمدينة دينغويراي الغينية، وسيفه الذي كان معروضاً كل تلك السنين بمتحف الجيش الفرنسي في باريس، إلى أن أعادته فرنسا في نوفمبر/تشرين الثاني 2019 إلى دولة السنغال، وكانت الأخيرة تسعى إلى استعادته لضمّه لمتحف الحضارات السمراء بمثابة تذكار يعود لواحدٍ من أبرز القادة الأفارقة الذين قاوموا الاستعمار الفرنسي في القرن التاسع عشر الميلادي.
فمن هي زوجة الحاج عمر التي قد يمتلك المتحف الفرنسي عظامها؟
وفقاً للموسوعة البريطانية، انطلق الحاج عمر لأداء فريضة الحج إلى مكة في سنّ الثالثة والعشرين، ومرّ ببلدانٍ عدّة اُستقبل فيها بحفاوة قبل أن يصل إلى مكة حوالي عام 1827.
وفقاً للموسوعة البريطانية، تضمّنت مجريات رحلة الحج استضافة السلطان محمد بيلو له في إمبراطورية سوكوتو- تُعرف أيضاً باسم صُكُتُو أو سوقتو- في نيجيريا، وعرض ابنته مريم عليه للزواج، وقد أضاف عقد القران الأميريّ هذا لأهمية ومكانة الحاج عمر مُبكراً.
فيما يرد في مقال "الحاج عمر التل: سيرة قائد مثير للجدل" المنشور في مجلة الدراسات الثقافية، أن المؤرخ ديفيد روبنسون زعم أن السلطان محمد بيلو أعطى ابنته مريم للحاج عمر، لكنها توفيت في فترة صغيرة، ما دفع السلطان لإعطائه ابنته الثانية.
بينما تتناقل إحدى القصص المتداولة في التراث الشفوي في مالي، أن زوجة الحاج عمر هي ابنة السلطان محمد بيلو "هوسا بينتو"، ومن الواضح وفقاً للكتب التاريخية التي تتناول حياة الحاج عمر أن هويّة زوجته كانت موضع جدلٍ عبر التاريخ.
لم يتمكن التأكد ما إذا كانت ابنة السلطان محمد بيلو هي المرأة المقصودة في التقرير التابع للمتحف، لكن مجرد وجود رفاتها لدى المتحف الفرنسي قد يعني وجود فرصة لحلّ بعضٍ من الغموض المحيط بهذه الشخصية التاريخية، الذي يبدأ من هويّتها وينتهي بطريقة موتها وكيفية وصول عظامها إلى أروقة "متحف البشرية" الفرنسي.
شخصيات أخرى "مثيرة للجدل" بيد المتحف
أورد التقرير الصادر عن المتحف الفرنسي وجود عظامٍ تابعة لعائلة من الإنويت الكنديين- وهم من شعوب كندا الأصليين، ويعود موضع النزاع إلى أن هذه العائلة كانت تُعرض في "حدائق الحيوانات البشرية" الأوروبية عام 1881، ولهذه "الحدائق" سمعة مشينة باعتبار أن الإمبراطوريات الاستعمارية كانت تجلب بشراً من "الأعراق الأخرى" لعرضها، إلى جانب النباتات والحيوانات في ظاهرة وُصمت بأنها من أسوأ مظاهر التاريخ الأوروبي عنصريةً.
وكانت سارة بارتمان واحدة من أشهر الشخصيات التي جرى استعادة رفاتها من المتاحف الفرنسية، وهي سيدة إفريقية أُخذت وعرضت في مختلف أنواع عروض الغرائب و"المسوخ" الأوروبية، وظلّ جسدها يُستخدم للعرض حتى بعد وفاتها عام 1815.
أقدم عالم الطبيعة جورج كوفييه على صنع قالب جبس من جسدها قبل تشريحه، وحفظ هيكلها العظمي ودماغها وأعضائها التناسلية، ومن ثم وضعها في جرار لتُعرض في "متحف باريس للإنسان"، ومن حينها ظلت أعضاء السيدة الإفريقية معروضة للفرجة حتى عام 1974.
لم تنتهِ حكاية سارة بارتمان إلى أن جاء نيلسون مانديلا وطالب الحكومة الفرنسية بجثة سارة ورفاتها، وقد قابلت الحكومة الفرنسية الأمر بالرفض بالبداية إلى أن سُلّم رفاتها في النهاية لموطن قبيلتها في جنوب إفريقيا عام 2002.
وكذلك الحال مع رؤوس محاربي قبائل الماوري في نيوزيلندا، التي كان البحارة وهواة جمع القطع الفنيّة يتقصدون تصيّدها لتتويج ممتلكاتهم بهذه الرؤوس الموشومة والمحنطة والمميزة بمكانتها، وقد أعادت فرنسا العديد منها، وذلك بعد مطالبات نيوزيلندا المستمرة بهم منذ ثمانينات القرن الماضي، وبقي الأمر معلّقاً إلى 2010 مع تمرير قانونٍ فرنسي يسمح بذلك.