أعياد رأس السنة في أوربا… بين أصلها «الديني» و«الوثني»
شهر قبل رأس السنة من كل عام، تقف أشجار التنوب تتلألأ بأنوار كهربائية وتلف قاماتها الشامخات خيوط تحمل صورا تجسد أجساما ملائكية ونجوما ذهبية، فتحول شوارع أكثر المدن الغربية ولمدة تزيد على شهر قبل نهاية كل سنة ميلادية إلى فضاءات براقة تحن إلى يوم قمة الأعياد المسيحية 25 ديسمبر/كانون الأول، حيث يتم توزيع وتبادل الهدايا بين أفراد الأسر والأحبة والأقارب يوم 24 ديسمبر. فالاعتقاد بأن الخامس والعشرين من ديسمبر هو بداية العام، امتد من عصر الكاروليين وحتى القرن 17. بما في ذلك مكافأة عيد الميلاد. هذه الشعيرة هي الأخرى تعود إلى عادات منح السادة في حفل رأس السنة، حاشيتهم الهدايا والعطاءات كفأل حسن للمستقبل، ومنح أعطيات للسعاة، أو الزبالين كتأكيد للعام الجديد. وحتى الفقراء في هذه الفترة يكون لديهم بعض من المال، فقد كانت تقام أول أسواق عيد الميلاد قبل حلول المساء، فعادة الأطعمة الوفيرة المرتبطة بنهاية العام، تنحدر هي الأخرى من عرف إكرام السادة لمن يخدمهم، بعشاء عيد ميلاد فاخر، فمن العادة أن يستدعي رب الأسرة بقية أعضائها، وهي عادة بقيت مستمرة حتى اليوم.
احتفالات الميلاد
الإعلان عن يوم 25 ديسمبر، جاء نتيجة عدم امتلاك المسيحيين القدامى لمقومات الدقة العلمية، التي تمكنهم من ضبط يوم 21 ديسمبر كيوم لتحول الشمس نحو فصل الشتاء، لاعتقادهم بأن 25 منه هو أطول يوم ممكن، واليوم الذي قبله يكون هو يوم القيام بطقوس احتفالات الميلاد، الذي يطلق عليه المسيحيون اسم «الليلة المقدسة» فمع منحهم هذا اليوم صبغة دينية رسمية، فقد احتفظ برمزيته في تحول شمس الشتاء بطبيعتها الأولى الفارسية. فالإنسان المسيحي القديم لم يكن همه معرفة دقيقة ليوم تحول شمس الشتاء، وأكثر ما كان يحركه هو الابتعاد قدر المستطاع عن التقويمين القديمين اليهودي وأيضا الجرماني، الذي بداية اليوم فيه دائما بليلة سابقة.
لقد انعكس تباين نظرية تقويم تحول الشمس عند الشعوب في اختلاف الطوائف الدينية المسيحية في احتفالات عيد مولد المسيح، لذا يرى بعضهم أن تحول الشمس لا يتم الا في شهر يناير/كانون الثاني. وقد أجمع عدد من الباحثين على أن ميلاد المسيح لم يكن في فصل الشتاء، غير أن هذا المنحى لا يمثل في ذاته بالنسبة للمسيحيين أي أهمية. فكل هم الكنيسة كان العمل من أجل أن يحل العيد المسيحي محل العيد الفارسي، إلى درجة أنهم تجاوزوا عن عمد، أو عن غير قصد ما ورد في الإنجيل نفسه. ففي لوقا 2 و8: «وكان في تلك الناحية رعاة يبيتون في البرية، يتناوبون السهر في الليل على رعيتهم» فالعبارة هنا واضحة أن الرعاة لا يتناوبون الحراسة إلا في فصل الربيع في موسم الخراف وليس في فصل الشتاء، الذي تبقى فيه الخراف حبيسة في الحظائر من غير حراسة.
عادة نصب شجرة التنوب، في غرفة الاستقبال وتزيينها، لم تعرف إلا في القرن 16 في إقليم الإلزاس، ومن هناك انتقلت عبر ألمانيا لتنتشر في بقية العالم المسيحي ابتداء من القرن 19.
في كل شهر ديسمبر من كل سنة تزين واجهات المتاجر دمى جميلة بأشكال وأحجام، تمثل وقائع مولد المسيح.. إنه أكبر سوق سنوي تنشط فيه الحركة التجارية الصغيرة والمتوسطة ببيع الهدايا وقسيمات مسبقة الدفع لتقديمها للأبناء، وللأحفاد، ولذوي القربى والخلان بمناسبة عيد مولد المسيح. فهذه الحمى الاستهلاكية الاحتفالية لا تقتصر على المحلات القارة، بل تتعداها إلى خلق أسواق عابرة في العراء لبيع البضائع والمأكولات والسكريات والألعاب الترفيهية وتستمر لأسابيع، وأخرى لبيع أشجار التنوب على اختلاف أنواعها وأحجامها بضاعة منوطة بهذه المناسبة، ثم يأتي اليوم المشهود، وهو الرابع والعشرين من شهر ديسمبر، الذي تنصب فيه شجرة التنوب في كل بيت مهما صغر حجمه، تؤثث مشهد غرفة الاستقبال وتوزع أنوار شموعها حقيقية أو اصطناعية. وتحتها وضعت علب على شكل مربعات أو مستطيلات مزدانة بورق ملون براق ومربوطة بشرائط زاهية تحوي هدايا معدة للإهداء. بعد تناول العائلة، التي نادرا ما تجتمع هكذا، إلا في هذا اليوم، وجبة فاخرة قوامها وزة أو بطة طهيت في الفرن، تشخص عيون الأطفال وقد نفد صبرها، إلى اللحظة الموعودة، لحظة تسلم الهدايا، من يد (الأب نويل) الذي غالبا ما يقوم بأداء دوره أحد أفراد الأسرة، وأحيانا يتم تأجير شخص للقيام بدوره.
الموروث المتداول
عادة نصب شجرة التنوب، في غرفة الاستقبال وتزيينها، لم تعرف إلا في القرن 16 في إقليم الإلزاس، ومن هناك انتقلت عبر ألمانيا لتنتشر في بقية العالم المسيحي ابتداء من القرن 19. شجرة عيد الميلاد تنحدر في ما يبدو من أغصان شجر البتول، التي كانت تستعمل في قاعات الضيوف من أجل جمالية مداخل البيوت وكفأل حسن يضمن بركة بقية السنة، لها قرابة بالتوسل، وبالخصب وبأرواح فصل الشتاء، حتى لا تقتلع سنابل الذرة، لذا تستعمل بعض المناطق المسيحية باقة الذرة المزينة مكان شجرة المسيح.
كما أن الأضواء التي تعلق على شجرة الميلاد، لها هي الأخرى جذور غير مسيحية، بل تعود إلى الاعتقاد بالأموات، الذين توقد لهم الأنوار حتى يتسنى لهم الاهتداء بها، فيأتون نهاية السنة لزيارة ذويهم. وإلى ذلك تشير الكنيسة حين تضع الشموع لأجل المسيح القادم. واستنادا إلى العصر الحديث توضع الأنوار لأجل بابا نويل. فإيمان الأطفال بقدرة ببابا نويل على تحقيق كل الرغبات في أوروبا الغربية وفي ألمانيا بالتحديد عمره حوالي مئة عام فقط، حين أسندت إليه في المقام الأول مهمة تصعيد تطلعات الأطفال وانتظارهم لروح بابا نويل، الذي عليه أن يكون هو الطفل المسيح الحامل لرسالة الخلاص ثم ليصبح هو نفسه هدية خالصة للعالم. فأصبحت تلك الهدية الدنيوية خاصة بين البالغين لا علاقة لها مباشرة بعيد الميلاد، بل بعادة احتفال قديمة بالسنة الجديدة.
إن أجواء الموائد الفاخرة، الأضواء وتبادل الهدايا وعلى وجه الخصوص تقديم هدايا للأطفال في مناسبة عيد الميلاد، لم توجد في الأصل المسيحي، بل وجدت مبكرا في يوم عيد القديس نيقولا، فقد اتفق تقريبا كل الباحثين الدينيين، على أن أسقفا عُرف بفضائله، التي بقيت مثل أسطورة شهيرة، قد سكن مدينة صغيرة كانت توجد في القرن الرابع الميلادي اسمها ميرا وتبعد حوالي 125 كيلومترا عن مدينة أنتاليا في تركيا الحالية، ومن فضائل هذا الأسقف حكايتان أضفت عليه شعبية واسعة، في إحداها أنه أهدى ثلاث نساء شابات فقيرات، كن يردن العمل في أحد المواخير، ثلاث تفاحات ذهبيات وبهذا العطاء تمكنّ من شراء جهاز أعراسهن والتراجع عن قصدهن. الحكاية الثانية تقول: قتل أحد الجزارين ثلاثة تلاميذ مسافرين وملّح لحومهم ومنها أطعم القديس نيقولا، الذي اكتشف الجريمة وأعاد التلاميذ مجددا إلى الحياة.
جعلت منه الحكاية الأولى مقدم العطايا، مانح الهدايا، والثانية جعلت منه غوث الأطفال، وهكذا تداخلت الحكايتان في الموروث المتداول. والعنصر الثالث، وهو غير مسيحي أضيف إلى نيقولا على شكل مرافقه الفتى روبريشت، هذا الرجل المفزع، الشبح الطالع من أساطيرعبادة الأموات الجرمانية ودول الشمال، ومهمته رمي الأموات في نهاية العام، وحيث إن الإصلاح البروتستانتي لم يعترف بالقديسين الكاثوليكيين، فقد وقع نيقولا في تأخر عن الركب الحضاري وبذلك حوّل «إهداء الطفل الصغير» مثل ما ذكره لوقا، إلى عيد الميلاد، حيث أصبح على الأطفال أن ينتظروا القديس المسيح، ثم الطفل المسيح، حامل الهدايا كذلك، عوض انتظار نيقولا.
إن طقوس الاحتفالات بعيد ميلاد المسيح السنوي، الذي يمثل أهم أعياد الغرب المسيحي إطلاقا، طقوس جرت بها العادة منذ عشرات السنين، لكن في واقع الأمر، إن هي في العمق إلا ظاهرة مغلفة في أثواب موروثات وثنية.
وبذلك حققت الكنيسة الكاثوليكية، هدفين دفعة واحدة. غير أن نيقولا بقي حاضرا أيضا في الأوساط البروتستانتية، لكنه اتخذ شكلا وصورة مغايرة، فتحول إلى الأب نويل (بابا نويل). فهذا الخلط بين نيقولا وبابا نويل من ناحية والطفل المسيح من ناحية أخرى نتجت عنه أسماء متعددة، فهناك سنت كلاوس الهولندي ومعناه نيقولا El Niflo النينو الإسباني (إلياس ـ الطفل المسيح). في الدنمارك هناك علاوة على الأب يولمان (بابا نويل) الأقزام الصغيرة، التي تعتبر حاميات الكنوز. لهذه المخلوقات القديمة الصغيرة، يدين بابا نويل بطاقيته المخروطة. أما معطفه الأحمر فهو من إبداع أحد الرسامين في الولايات المتحدة الأمريكية، الذي كان قام عام 1931 بتصميمات دعائية لشركة كوكا كولا، أما نيقولا الأوروبي فكان رداؤه أسقفيا ابيض، كما ما زال يحتفظ به متحف روتنبورغ في ألمانيا.
ميلاد المسيح
إن طقوس الاحتفالات بعيد ميلاد المسيح السنوي، الذي يمثل أهم أعياد الغرب المسيحي إطلاقا، طقوس جرت بها العادة منذ عشرات السنين، لكن في واقع الأمر، إن هي في العمق إلا ظاهرة مغلفة في أثواب موروثات وثنية، فدون متراس Mitras، إله النور الذي عبده الفارسيون قبل التاريخ المسيحي بألف سنة، ومن غير تزكية القيصر الروماني أورليانوس (270 ـ 275) لما وجد اليوم ما يطلق عليه عيد ميلاد المسيح، الذي أسبغ عليه مسيحيو الغرب كل هذه الهالة والأبهة الحالية. فالسبب في كل هذا يعود إلى هاتين الشخصيتين متراس وأورليانوس. عندما قرر القيصر أورليانوس عام 274 ميلادية عبادة إله النور متراس كدين رسمي للدولة، وقرر أيضا يوم 25 ديسمبر كيوم تقريبي لتحول الشمس، كما مارسه الفارسيون عباد النار المقدسة والشمس القاهرة. وبذلك أصبح هذا اليوم يوم عيد «ميلاد الشمس القاهرة» وعلى المنوال نفسه نهجت سلطة الدولة الرومانية. فوفقا لتبني عبادة إله النور، صارت طقوس ميتراس تجسد منافسا قويا للديانة المسيحية. وحرصا من الكنيسة في وضعها الجديد على عدم الوقوع في صراع، وعملا على تحقيق قدر كبير من التكيف والتوازن بينها وبين الدين المنافس القوي، عبادة متراس، فقد أعلنت يوم 25 ديسمبر، عيد الكريسماس.
وحتى حين نجحت الكنيسة حوالي الألفية الأولى الميلادية في نشر الديانة المسيحية بين شعوب الشمال، فقد عملت على ترسيخ هذا التاريخ مكان أعياد «لول» Jul (عيد الشعوب الجرمانية القديمة وهو كذلك عيد تحول شمس الشتاء) الذي يعني هو عيد الأضاحي في بداية فصل الشتاء عند بعض الشعوب وعند أخرى لا يتم تحول الشمس إلا في شهر يناير. وبذلك تلاقحت المواسم معا في عيد المسيح، الذي ما زال يسمى المنطقة سكندنافية يول، فحتى إن سلمنا جدلا بوجود شجرة للمسيح، كان عليها أن تكون نخلة «فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة» سورة مريم الآية 23.