الفيلم الأمريكي «تحرير»: قدرة الصورة على استثارة العواطف الإنسانية
في كانون الثاني (يناير) 1861 أعلنت سبع من بين 34 ولاية انفصالها عن الولايات المتحدة الأمريكية وتشكيل الولايات الكونفدرالية، ومن بعدها اندلعت الحرب في 12 نيسان (ابريل) 1861 بين جيشي الشمال والجنوب انتهت بانتصار الولايات الشمالية، وفي خضم تلك الظروف أعلن الرئيس الأمريكي ابراهام لنكولن قانون إلغاء العبودية.
الشريط السينمائي الأمريكي «تحرير» إنتاج 2022 إخراج انطوان فوكوا، يعود إلى تلك السنين، ليسرد لنا حكاية جرت أحداثها من وحي تلك الفترة الزمنية، بكل مآسيها التي كان للأفارقة من أصول أمريكية الحصة الأكبر في تجرع آلامها، بعد أن كانوا يعاملون باعتبارهم عبيدا يباعون ويشترون من قبل التجار والملاكين من ذوي البشرة البيضاء في الولايات الجنوبية حتى يعملوا في حقول جمع القطن وشق الطرق ومد خطوط السكك الحديدية تحت ظروف تفتقد إلى أبسط الشروط الإنسانية.
المسألة المهمة في هذا الفيلم تكمن في أنه يعيد إلى الأذهان ما تمتلكه الصورة من قوة في خطابها وفي وضوح رسالتها وفي قدرتها على تحفيز قدرات الإنسان على الخروج من حالة اللامبالاة، إزاء قضايا تستوجب اتخاذ موقف حاسم منها، فليست الصورة مجرد حالة إمساك للحظة عابرة من الزمن، بل بإمكانها أن تُحدث هزَّة في الضمير الجمعي، ومن الممكن أن تأخذ التاريخ إلى أن ينعطف في مجراه ليُعاد طرح السؤال بقوة عاصفة ترتج لها أركان المجتمع بقوانينه العنصرية، وهذا ما تمخضت عنه تلك اللحظة من العام 1863 عندما التقط اثنان من المصورين البيض كانا من ضمن المنخرطين في صفوف جيش اتحاد الولايات المتحدة الشمالية، صورة لبيتر الأمريكي من أصول أفريقية (مثل شخصيته ويلي سميث) بعد أن نجح في الهرب من معسكر لأعمال السخرة، يقع في جنوب البلاد بمقاطعة لويزيانا التي كانت خاضعة للانفصاليين، وكان جميع المستعبدين فيه من السود الأمريكان. فأجلسه المصوران على كرسي داخل خيمة في المعسكر وطلبا منه أن ينزع قميصه ويدير ظهره باتجاه عدسة الكاميرا، وأن يستدير بوجهه إلى الجانب، وبعد أن نزع قميصه بدا المشهد المأساوي للعبودية مرسوما بشكل مرعب بفعل ما خلفته السياط على ظهره، عندها تيقن المصوران أن آثار التعذيب التي التقطتها الصورة ستكون كافية لأن تفعل فعلها المؤثر في المجتمع الأمريكي. وبعد أن انتشرت صورته دق ناقوس اليقظة في الوجدان المتبلد، وشاء كاتب السيناريو أن يختار من هذه الصورة نقطة انطلاق في بناء موضوعه.
تبدأ أحداث الفيلم في أعقاب توقيع الرئيس الأمريكي أبراهام لنكولن على إعلان تحرير العبيد، واختار السيناريو نقطة انطلاق حكايته بسلسلة لقطات تم التقاطها عبر طائرة الدرون، لتكشف لنا عن غابات كثيفة وسط مستنقعات يعمل فيها العشرات من ذوي البشرة السوداء لبناء سكة حديدية في ظروف قاسية جدا، كما تستعرض لنا لقطات أخرى مزرعة شاسعة يبدو فيها عشرات الأشخاص من النساء والرجال من ذوي البشرة السوداء وهم يكدحون لجمع القطن تحت حراسة مشددة من قبل رجال من ذوي البشرة البيضاء، ثم ينتقل بنا السيناريو إلى كوخ خشبي متهالك حيث يجلس بيتر على الأرض وهو يردد عبارات من وحي الكتاب المقدس «أحمدوا الرب لأنه صالح، وطالما الرَّب لي، فلا أخاف أبدا، مهما يصنع بي الإنسان، لأن الرب معيني» يردد هذه العبارات وهو ينظر إلى زوجته التي تجلس على كرسي أمامه وهي تمد قدميها ناحيته فيما هو يغرف بيده حفنة ماء من جردل صغير بينهما ويغسل قدميها وحولهما يتحلق أطفالهما.
من خلال تفاصيل هذا المشهد يرسم لنا المخرج صورة مقربة عن عمق الايمان الذي يحمله بيتر في داخله ومدى ما يتجوهر في تركيبته النفسية من اطمئنان إلى ضعف الإنسان أمام قوة الله مهما كان متغطرسا، إلاّ أن هذه السكينة التي كانت تخيم على أفراد العائلة وخشوعهم الواضح أمام قوة المعاني التي كانت تفيض بها كلمات الأب فيما هو يغسل قدمي زوجته، ليزيح عنها آلام التعب بسبب العمل طيلة النهار في حقول القطن، تتبدد فجأة ويحل الذعر على الزوجة والأطفال بعد أن يقتحم اثنان من أزلام تاجر العبيد الذي اشترى بيتر من سيده، ليضمه إلى مجموعة العبيد الذين يستخدمهم في مد خطوط سكة قطار تقطع الغابات الكثيفة التي ظهرت في اللقطات الأولى من الفيلم.
ولكي يمهد لنا السيناريو إلى المنحى الدرامي الذي سيصاحب مسار الشخصية بما يحمله من قوة ليست في إيمانه الروحي فقط، بل في شجاعته، نجد بيتر ينتزع جزءا من ضلفتي باب بيته الخشبي بينما هو متشبث بهما أثناء ما كان الرجلين يحاولان سحبه إلى خارجه، ثم يدخل معهما في اشتباك عنيف بالأيدي، لكنه يتوقف عن القتال ما أن وجد رجلا آخر من أزلام تاجر العبيد يوجه المسدس نحو رأس زوجته تهديدا بقتلها إذا لم يرضخ ويصعد إلى العربة مع بقية العبيد الذين تم شراؤهم.
السرد السينمائي لهذه التفاصيل منحنا ما يكفي من المعلومات عن طبيعة شخصية بيتر وما يحمله من قيم روحية يقدس فيها الأسرة، وأن لديه ما يكفي من الشجاعة لكي يضحي بنفسه من أجلها.
نحن إذن أمام شخصية تخشى الله ولا تخشى أية قوة بشرية مهما بدت متغطرسة، ولديها من الايمان بأن الله سيقف معها ضد وحشية البيض الذين ينظرون إلى الأمريكان من أصول أفريقية على أنهم مجرد متاع وعبيد.
ومن بعد هذا المشهد الاستهلالي يتهيأ المتلقي لمراقبة إيمان بيتر ويتساءل مع نفسه عن مدى قدرة إيمانه في مواجهة العبودية وتحطيم أغلالها.
وفي لويزيانا التي تقع في جنوب البلاد التي سيق إليها بيتر كان هناك أكثر من 350 ألفا من ذوي البشرة السوداء يرزحون تحت نير العبودية، ومن يحاول منهم الهرب لن يجد مفرا في الخلاص سوى الموت الذي ينتظره لا محالة، إمَّا من قبل التماسيح التي ترقد في المستنقعات وهي تنتظر فريستها أو بطلقات حراس المعسكر الذين لا يتوقفون عن ملاحقة الهاربين إلى أن يقبضوا عليهم، ومن ثم يقطعون رؤوسهم ويعلقونها على رؤوس الأشجار التي تمتد على طول الطريق المؤدي إلى معسكر السخرة، وإلى جانبها يرتفع علم الولايات الجنوبية المتمردة، فكان هذا المنظر أول ما التقطته عينا بيتر وهو قابع في العربة. وعندما تصل العربة إلى داخل المعسكر وينزلونهم منها مقيدي الأيدي والأقدام، يصرخ بهم الحراس وهم يقودونهم إلى مهجعهم بأن يخفضوا رؤوسهم وهم يرددون عليهم جملة «اطيعوا أسيادكم أيها العبيد» وهنا لابد أن يصاب المتلقي بصدمة في مشاعره لأن الجملة التي يراد بها كسر آدمية السود، ليست إلا عبارة تم اجتزاؤها من الكتاب المقدس من قبل الحراس لتبرير العبودية، التي كانت تجارتها منتعشة في الولايات الجنوبية.
تنميط هوليودي للحكاية
بقية تفاصيل حكاية الفيلم ليس فيها شيء جديد من حيث البناء، ويمكن اعتبارها تكرارا لما معمول به في حبكة الأفلام الأمريكية، وذلك باعتماد عنصر المطاردة طيلة زمن أحداث الفيلم بعد رحلة هروب بيتر من المعسكر، وما يواجه من تحديات أثناء هذه الرحلة، ليتمكن في النهاية من الوصول إلى مبتغاه حيث المنطقة التي تتواجد فيها القوات الشمالية ومن ثم انضمامه إليها والقتال بين صفوفها ضد القوات الجنوبية حتى يصل إلى اللحظة التي يلتقي فيها بزوجته وأبنائه.
ما يحسب للسيناريو أن حبكته جاءت في قصدياتها تعرية الازدواجية في التعامل مع النصوص الدينية من قبل البيض في الولايات الجنوبية وتوظيفهم لها بما يخدم تكريس العبودية، وايهام السود على أن عبوديتهم وخضوعهم لسلطة الرجل الأبيض هي واجب يفرضه عليهم الكتاب المقدس. هذه الفكرة اكتمل بنائها عندما ركز السيناريو على عمق ما تحمله شخصية بيتر من ايمان بالكتاب المقدس، وثقته المطلقة بأن الله مع الإنسان الصالح، ولن يتخلى عنه مهما بدت الحياة أمامه قاسية ووحشية فكانت الصورتان المتناقضتان اللتان عرضهما الفيلم في فهم وتفسير الدين ما بين الرجل الأبيض والأسود، من الملامح المعبرة والمؤثرة التي تحسب لصالح سيناريو الفيلم، وهي إشارة إلى أن الدين كان دائما الجدار الذي تستند إليه السلطات المستغلة للبشر لتبرير انتهاكاتها بحق الإنسان.
من الناحية الجمالية فإن الفيلم كان موفقا بتخليه عن الألوان واعتماد صيغة قريبة من الأسود والأبيض، وجاء ذلك متوافقا من الناحية الفكرية مع طبيعة الصراع القائم على التضاد شبه الحاد ما بين عالمين.
من المهم ان تعود السينما في أمريكا إلى تناول موضوعات ذات أهمية مثل العنصرية، في ظل كم هائل من الأفلام التي تعتمد الفانتازيا والحركة وتبتعد عن الواقع بما يحفل من قضايا تواجه الإنسان والمجتمعات، ومثل هذا الفيلم يعيد لأذهان المتلقين قيمة الفن السينمائي وما يمتلكه من تقنيات في السرد تجعله أكثر الفنون قدرة على التأثير في المتلقين مثلما كان لصورة بيتر الفوتوغرافية قدرتها على إحداث تغيير في قناعة الأمريكان حول بشاعة العبودية.