إسرائيل تقف أمام مرآتها لتصف المقاومة الفلسطينية
-
ليس جديدًا على الرواية الإسرائيلية نسجها للأكاذيب الدرامية في خطابات ساستها، في محاولة منها لطرح خطاب تضليلي ومخادع، تحاول من خلاله خلق تفسيرات لبشاعة حروبها، وأخذ الضوء الأخضر من المجتمع الدولي، بينما تلعب دور الضحية الذي أتقنته لسنوات طوال، وليس جديدًا أيضًا على المجتمع الدولي تصديقه لهذه الرواية، فهذا تماما ما فعله عام 1948، وواصل لعب دور المؤيد الحامي للاحتلال الإسرائيلي، طوال مسيرة حروبه التي مرّت على فلسطين، وسرقت منها ومن أبنائها حريّتهم، عائلاتهم، بيوتهم، ذكرياتهم، أحلامهم وحتى أرواحهم، فيما كانت تعطي المحتل دائما شرعية سياسية ودينية وقومية تُبرّر انتهاكاته.
"طوفان الأقصى" الذي شكّل ردة فعل صادمة على سنوات من الظلم والاحتلال والحصار، وسلسلة حروب لا يمكن لمقال واحد أن يصف بشاعتها، وقفزة في مسيرة النضال الفلسطينية في سبيل نيله لحريته على يد المقاومة، وبذات اللغة التي يعرفها العدو وهي "السلاح"، لاقى هجومًا من الإعلام الغربي والمجتمع الدولي الذي حوّل بدوره الضحية إلى قاتل والمُحتَل إلى احتلال، وألبس الفلسطيني الذي يحاول التحرّر كُل الجرائم التي ارتكبها سجانه الإسرائيلي منذ ما يزيد عن 75 عامًا.
مساء الأربعاء، خرج رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو، خلال مؤتمر صحافي مشترك مع رئيس حزب "همحانيه همملختي" (المعسكر الرسمي) بني غانتس، ووزير الأمن الإسرائيلي يوآف غالانت، ليعلن تشكيل حكومة طوارئ، مشيراً إلى أن "مصير الدولة على المحك"، وبدأ بسرد خطاب دراميٍّ تبلّله الدموع بينما يقف أمام مرآة ذاته، إذ قال "نحن نحارب عدوًّا قاسيا أسوأ من داعش، رأينا أطفالا مكبلة أيديهم أطلقت النيران على رأسهم، نساء أحرقن وهن على قيد الحياة، شابات اغتصبن وذبحن، مقاتلين قطعت رؤوسهم، في مكان واحد جلبوا إطارات السيارات وأحرقوها على أجسادهم"، حتى بات الفلسطيني يتساءل وهو يستمع إلى الخطاب من خلف الشاشات، ما إن كان نتنياهو يتحدّث عنّا أو عن حكومته!
أما غالانت الذي وضع أصابعه العشرة ليبصم على ما قاله نتنياهو، استكمل قائلًا: "أعمال بربرية لم يعرفها الشعب اليهودي منذ عام 1945"، لربما لأن شعبه الذي يتحدّث عنه يعاني من ذاكرة السمكة، إذ ينسى جرائمه بسرعة، وبناء على ذاكرته قرّر مسبقًا مقولة رئيس الوزراء الإسرائيلي ديفيد بن غوريون بأن "الكبار يموتون والصغار ينسون"، لكنّ نصيبه وقع في أن يحتلّ شعبًا يمتلك ذاكرة الفيلة والجمال، فالفيل مثلًا لا ينسى أبدًا الإساءة، فإن تعرّض للأذى فسيتذكّر وجه عدوه لسنوات، ويلف خرطومه على وسط ضاربه في أول فرصة ينالها ليقذفه أخيرًا في الهواء.
وبطبيعة الحال خرج الرئيس الأمريكي بايدن، داعمًا ومؤيدًا لإسرائيل، متباكيًا على جروحهم، وموشكًا على الانهيار أمام الكاميرات، ليهدّد المقاومة الفلسطينية ويهدّد بإنهائها جنبًا إلى جنب مع حليفه الذي لم يقدّم له دليلًا وحيدًا يؤكد صحة ادعاءاته من هذه الانتهاكات البشعة التي علّقها بعنق المقاومين، من قتل الأطفال واغتصاب النساء والتمثيل بالجثث. ولأن الفلسطيني حُر بطبيعة الحال، وصاحب حقٍّ في قضية نضاله، ردّت المقاومة بسرعة في فيديو بثته عبر الإعلام، لتؤكد إفراجها عن امرأة إسرائيلية وطفليها، وكان الفيديو واضحًا أن أحداثه جرت خلال النهار، أي قبل خطاب نتنياهو الدرامي، ليخرج المتحدث باسم البيت الأبيض على مضض عبر صحيفة "واشنطن بوست" بأنه "لا الرئيس بايدن ولا أي مسؤول أميركي رأى أي صور تؤكد صحة تقارير بشأن ذلك بشكل مستقل". يقصد رؤية صور لأطفال مقطعة رؤوسهم، واستكمل المتحدث "أن تصريحات بايدن بشأن الفظائع المزعومة استندت إلى مزاعم المتحدث باسم رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو وتقارير إعلامية إسرائيلية".
لا حرب دون انتهاكات لحقوق الإنسان في قاموس "إسرائيل"
إسرائيل التي اعتادت على التنكيل بالشعب الفلسطيني، وارتكاب أفظع الجرائم، رتبت كلمات خطابِها من سلسلة جرائمها، وخرجت إلى العالم الذي يُصدّق أي رواية معادية للشعوب العربية، والشعب الفلسطيني خصوصًا، لترمي على كاهلِنا ذنوبها وتوسّخ أيدينا بما اتسخت أيادي أبنائها به على مر عقود.
فمنذ انسحابها من قطاع غزة عام 2005، لم تتوانَ عن إشعال حروبِها الدموية في القطاع، لتخلف وراءها آلاف الشهداء، فالأعوام 2008، 2012، 2014، 2019، 2021، 2022، كانت أعوامًا كبيسة في ذاكرة أهالي غزة، وفرضًا لحالة من الدمار الواسع مع استخدام الأسلحة المحرّمة دوليا، وقصف المدنيين بما فيهم الأطفال والنساء والشيوخ، والتذرع بذرائع لا يصدّقها سوى المجتمع الدولي، مع دحض للرواية الفلسطينية، وما كان 2023 إلا ردًّا على جزء من سلسلة الحروب الإسرائيلية بحق غزة التي يحاصرها ويمنعُ أهلها من عيشِ أبسط حقوقهم في الحياة.
إسرائيل الضحية في عيون "المجتمع الدولي" لها تاريخٌ حافل في التنكيل بضحاياها
عام 1948، هُجّر حوالي 720 ألف فلسطيني من بين 900 ألف يعيشون في فلسطين، وفضحت الممارسات الإسرائيلية آنذاك ما بين تهجير، تنكيل، قتل، أسر واغتصاب، بالإضافة إلى تدمير القرى على رؤوس أهلها، وارتكاب مجازر مريعة، وقد ذكر المؤرخ والباحث الإسرائيلي إيلان بابيه في كتابه "التطهير العرقي في فلسطين" أن مجموعة من الجنود الإسرائيليين اقتحمت أحد المنازل فقتلت الأب وجرحت الأم واغتصبت الابنة، ضمن عدد من الوقائع التي لم تجد من يصدقها ويدافع عن ضحاياها.
واستعرض الكتاب تهجير الفلسطينيين قسرًا إلى مخيمات عربية، تحقيقًا لهدف واضح للحركة الصهيونية، ووفقا لبابيه فتهجير الفلسطينيين نتج عن تطهير عرقي مخطط لفلسطين، نفذه قادة الحركة الصهيونية، ضمن عمليات الطرد الممنهج لحوالي 500 قرية فلسطينية، بالإضافة إلى "الهجمات الإرهابية" التي نفذها بشكل رئيسي أفراد من "الإرجون" و"الهاجاناه" ضد المدنيين. ويشير بابيه إلى "خطة دالت" كدليل على عمليات التهجير المخطط لها، وهي خطة وضعتها منظمة "الهاجاناة" بين خريف عام 1947 وربيع عام 1948، تهدف إلى السيطرة على أكبر مساحة ممكنة من فلسطين وطرد أكبر عدد ممكن من الفلسطينيين وفرض سياسة الأمر الواقع على الأرض.
خطأ فني في موقع أرشيف الاحتلال يكشف عن تصريحات مروعة حول النكبة:
في عام 2022، تسبب خطأ فني في أرشيف دولة الاحتلال بالكشف عن تصريحات فظيعة لسياسيين إسرائيلييين إبان النكبة عام 1948، نشرتها وسائل إعلام إسرائيلية، حيث تضمنت وثائق تؤكد قيام أحد قادة الاحتلال بالصفح عن حالات اغتصاب تعرضت لها نساء فلسطينيات، فيما قال ديفيد بن غوريون فيها "إن قرى بأكملها يجب أن تُمسح عن وجه الأرض".
كانت النكبة حافلة بجرائم بشعة ارتكبت بحق الفلسطينيين العزل في بلداتهم وقراهم، حيث كانت العصابات الإسرائيلية تعمد إلى القتل والتهجير والتنكيل دون استثناء الأطفال والنساء والشيوخ
ووفقاً لصحيفة "هآرتس الإسرائيلية"، فإن خطأ فنياً كشف عن تصريحات لآهارون زيسلينغ، وهو سياسي إسرائيلي ووزير وأحد الموقعين على وثيقة إعلان استقلال إسرائيل، قال خلال اجتماع للحكومة المؤقتة كان يناقش أحداث النكبة "لنقل إن حالات اغتصاب وقعت في الرملة، يمكنني أن أصفح عن حالات الاغتصاب، لكنني لن أصفح عن الأعمال الأخرى".
فقد كانت النكبة حافلة بجرائم بشعة ارتكبت بحق الفلسطينيين العزل في بلداتهم وقراهم، حيث كانت العصابات الإسرائيلية تعمد إلى القتل والتهجير والتنكيل دون استثناء الأطفال والنساء والشيوخ من رصاصها، مخلفة مجازر حفرت بالذاكرة الفلسطينية، مثل التي وقعت في دير ياسين واستشهد فيها 254، التي تعمدت فيها قوات الاحتلال آنذاك بالتمثيل بالجثث، وإلقائها في بئر القرية، ومذبحة بيت دراس التي قتل فيها 260 وكذلك قرية أبو زريق في حيفا التي قتل معظم سكانها في ليلة واحدة وهو يشبه ما حدث بمدينة الرملة عام 1948. وفي ذاكرة النكبة الفلسطينية، عمد الغزاة في وقائع كثيرة إلى اغتصاب النساء والفتيات الفلسطينيات، وكانت واحدة من أبشعها اغتصابهن أمام رجال القرية قبل أن يوجهوا رصاصهم إلى صدور الجميع كما حدث بقرية الصفصاف في صفد عام 1948.
المؤرخ نافذ نزال، الذي أجرى مقابلات مع ناجين في مخيم عين الحلوة عام 1973، نقل عن أحد سكان القرية: "وبينما كنا نصطف، أمر بعض الجنود اليهود أربع فتيات بمرافقتهم لجلب المياه إلى الجنود. لكنهم أخذوهن، بدلاً من ذلك، إلى منازلنا الخالية واغتصبوهن. وقد عُصبت أعين نحو سبعين رجلاً منا وقتلوا رمياً بالرصاص، الواحد تلو الآخر، أمام أعيننا. ثم أخذ الجنود جثثهم وطرحوها على الغطاء الأسمنتي القائم فوق عين القرية، وجرفوا التراب ورموه فوقها".
وقد وضع رئيس أركان عصابة "هاغاناه" الإرهابية السابق، يسرائيل غاليلي، قائمة بالجرائم التي ارتكبتها العصابات الصهيونية في الصفصاف: "52 رجلاً رُبطوا بحبل وطُرحوا في بئر وأُطلق الرصاص عليهم، قُتل عشرة. النسوة بكين مسترحمات. 3 حالات اغتصاب.. فتاة في الرابعة عشرة من عمرها اغتُصبت. أربع نساء أُخريات قُتلن".
وشهادة أخرى من العدو يكتبها يوسف نحماني، الذي كان أحد كبار الضباط في "هاغاناه": "في الصفصاف، بعد أن رفع السكان علماً أبيض، قام الجنود بجمع وفصل الرجال والنساء، وقيدوا أيدي 50–60 من الفلاحين، وأطلقوا النار عليهم وقتلوهم ودفنوهم في حفرة. واغتصبوا أيضا عدة نساء".
كما ارتكبت مجزرة في قرية عين الزيتون شمال صفد، اعتبرها المؤرخ الإسرائيلي إيلان بابي بأنها "إحدى المجازر الثلاث الأكثر شهرة، وقال: "نساء القرية تعرضن للاغتصاب".
وفي كتاب من تأليف الصحافي الإسرائيلي هانس ليبْريخت، قال: "في نهاية أيار 1948، أمرتني الوحدة العسكرية التي كنت أخدم فيها ببناء محطة ضخ موقتة، وتحويل مجرى جدول القرية المهجورة، عين الزيتون، من أجل تزويد الكتيبة بالمياه. وكانت القرية مدمرة كلياً، وكان هناك بين الأنقاض جثث كثيرة. وعلى وجه التخصيص وجدنا الكثير من جثث النساء والأطفال والأطفال الرضّع بالقرب من الجامع الحالي، وأقنعت الجيش بإحراق الجثث".
أما قرية البرير قضاء غزة، التي هاجمتها المنظمات الصهيونية المسلحة وقصفتها بقذائف الهاون والرشاشات، فألحقت إصابات كثيرة بين السكان. ثم اقتحمت الدبابات القرية وسط إطلاق كثيف للنيران باتجاه من يسير في شوارعها، وحاصروا المدرسة والبيوت المجاورة لها، وقتلوا من وجدوه فيها، حتى قتلوا الجرحى. وكانت حصيلة المذبحة 55 شهيدًا. قال بدوره، أمنون نويمان (82 سنة) وهو عضو سابق في وحدة " البلماح" القوى الضاربة التابعة للهاجاناة، إنه سمع اعتراف أحد عناصر الهاجاناة التي أقر باشتراكه في المجزرة التي وقعت في القرية، وهو يشير لجثة فتاة قائلا إنه قتلها برصاصة في الرأس بعد أن اغتصبها، مشيرا إلى أن المعطيات أظهرت لاحقا أن تلك الفتاة تعرضت لعدة عمليات اغتصاب.
ومثل هذه الجرائم البشعة، يوجد الكثير من الضحايا الذين نُكّل بهم دون شهود، لكن الأرض ظلّت شاهدة على آخر صورة احتفظت بها عيونهم المفتوحة على مصرعيها وهم يصارعون عدوًّا لم يعرف الإنسانية إلا في خطاباته أمام كاميرا الغرب ومنصات المجتمع الدولي الذي يدّعي الحياد دون تطبيقه.