بين حُوّارة وقُصرة .. مَوتٌ يُلاحِقُنا
فلسطيني يتفقد سياراته في حوارة بعد حرقها على يد المستوطنيين. تصوير نضال اشتيةصورة لمواطن يتفقد سيارته بعد حرقها على يد مستوطنين في حوارة. تصوير نضال اشتية
في سابقةٍ استعماريةٍ دَمّرت جرّافاتُ جَيش الاحتلال أحد المخابز في بلدة حُوّارة، مساء الخميس، 12 أكتوبر/تشرين الأول 2023، بعد أن داهم غُلاة المُستعمرين البلدة بالترافق مع حملة أطلقوها على وسائل التواصل الاجتماعي لحرق المحل والتحريض عليه، مُطالبين بذات الوقت بإبادة ومحو بلدة حوّارة بالكامل.
ليست الحادثة الأولى في بلدة حوّارة جنوب نابلس، ذلك أن القرية شهدت في الأسابيع والأشهر الماضية عدّة هجمات من غُلاة الاستعمار المُتطرفين فأُحرقت البيوت والمنشآت، وتمت مداهمة المحلات وأطلقت النيران على الأهالي والشّبان، غير أن حادثة تجريف المخبز وترديمه وتحطيم ما فيه كانت سابقة مُرعبة، ومما يؤسف له أن هذا الاعتداء لن يكون الأخيرة على بلدة حوّارة في ظل الصمت الرسمي من السلطة الفلسطينية، والانحياز الأمريكي الظالم لصالح كفّة الاحتلال، وإغماض العالم لعيونه عمّا يُرتكب بحق الفلسطينيين من جرائم بشعة قتلاً وعدواناً وتخريبًا ومصادرة للأراضي.
تبدأ هذه المستعمرة بنواة صغيرة تعتمد على تربية الأغنام أو الأبقار، وسرعان ما تتوسع بلا حدود أو ضوابط، وبقوة السلاح تسيطر هذه البؤرة على التلال والسهول بذريعة إيجاد مراعٍ لقطعان الماشية الخاصة بهم.
غير بَعيدٍ عن حُوّراة، كانت قرية قُصرة جنوب شرق نابلس أيضاً تودّع بألمٍ شهداء قتلهم مُسلحون من عصابات المُستعمرين الذين هاجموا القرية عصر يوم الأربعاء 11 أكتوبر/تشرين الأول 2023، حيث تقدم هؤلاء المسلحون نحو القرية، وبدأوا بمهاجمة المنازل مُحاولين إشعال النيران فيها، فتدافع شَباب القرية لصدهم ومنعهم، فوجدوا رصاص الموت ينتظرهم.
القتل المَحمي والمُغطّى
في منتصف تسعينيات القرن الماضي أقام عَقيدٌ مُتقاعد من جيش الاحتلال، في مستعمرة ايتمار المقامة في جنوب نابلس بين قرى يانون- بيت فوريك - عورتا ، وسرعان ما أنشأ مزرعة نموذجية سمّاها: تلال العالم، أو التلال الأبدية "جفعات عولم"، ثُمّ بدأ هذا المُستعمر بتجميع الفتية من الجنائيين وذوي الجُنح للعمل لديه في هذه المزرعة، ثم انضم إليه المتشددون دينياً من ذوي النّزعات الدّموية. ومع الوقت بدأ اسم العقيد أفري ران يتردد في الإعلام كمؤسس لظاهرة فتية التلال، وأحد روّاد استيطان التلال، ليقف بعدها أمام وسائل الإعلام الصهيونية مُنصّبًا نفسه امبراطور التلال، داعيًا دولته لتلحق به بالخدمات وأن لا تتأخر عن مدّها لحيث يصل "حذاءه"، وبذلك شَرَّعَ هذا المُتطرف أبواب التّغول الاستعماري في جنوب نابلس.
خلال سنوات من بدء مشروع مزرعة (أفري ران) كانت عشرات البؤر الاستعمارية قد تشكلت في منطقة جنوب شرق نابلس على امتداد الجغرافيا الواسعة من جنوب قرية قريوت حتى شمال قرية عورتا، وبدأ فتية التلال يكتبون بالرصاص والعدوان فصولًا جديدة من الحياة في هذه المنطقة، فظهرت بؤرة عديعاد، وجفعات أرنون (التلة 777)، والبؤرة جدعونيم، والتلة 836، والبؤرة كيدا. ثم انفرط العقد مع انتهاء الانتفاضة الثانية، حيث بدأت موجة الاستعمار المسعورة من العام 2007 حتى هذا العام، وصار لهؤلاء المستعمرين الكلمة على الأرض، كلمة تُحْمى بالنار والرصاص.
لقد خَطَّ (أفري ران) وفتية التلال نهجًا استعماريًا مُرعبًا في جنوب نابلس، وبدأت سياسة المرحلة تقوم على الاعتداء اليومي على الأهالي، عبر مهاجمة البيوت، وإطلاق النار على رُعاة الأغنام، ومهاجمة المُزراعين أثناء العمل في الأرض أو أثناء قطف الزيتون، فقتل محمد سليمان زلموط من بيت فوريك وهو يقطف الزيتون في العام 1998م، وقتل محمد حمدان من عقربا وهو يرعى أغنامه في الجبال، وانقلبت الحياة تدريجيًا إلى جحيم في محيط البؤر الاستعمارية الجديدة، وصار المُستعمر حُرَّ التصرف في التلال لأن قوة من الجيش تدعمه وتحميه وتوفر له طريقَ النّجاة دائمًا بعد كُلِّ اعتداء.
ثم بدأت تنتشر في محيط بؤر التلال ظاهرة الاستعمار الرعوي، وهدفت هذه الظاهرة الجديدة لاستعمار الأرض المفتوحة والتلال الرعوية والسيطرة عليها وعلى كل ما تحويه من خيرات ومقدرات، حيث تبدأ هذه المستعمرة بنواة صغيرة تعتمد على تربية الأغنام أو الأبقار، وسرعان ما تتوسع بلا حدود أو ضوابط، وبقوة السلاح تسيطر هذه البؤرة على التلال والسهول بذريعة إيجاد مراعٍ لقطعان الماشية الخاصة بهم. وكان جيش الاحتلال طوال الوقت شريكًا للمُستعمرين بإنشاء هذه البؤر وحمايتها.
وفي جنوب نابلس أيضًا وبالقرب من بلدة حوارة تلقف المتطرفون المتدينون وحاخاماتهم الفرصة وهذا التحول الرهيب في الضفة الغربية في ظل ملاحقة الفعل المُقاوم وتمسك السلطة الفلسطينية بمسار التسوية واتفاق أوسلو، فأنتجوا لنا عصابات منظمة من ذوي الميول المتطرفة والأشد عنفًا، فظهرت عصابات تدفيع الثمن، وقد بدأ نشاطها يأخذ شكل الفعل المنظم عام 2008 انطلاقًا من الاجتماع الذي عُقد في مستعمرة يتسهار بالقرب من بلدة حوّارة، إذ بدأ الصهاينة الأشد تطرفًا مهاجمة القرى والبلدات الفلسطينية، واعتدوا على الممتلكات وأحرقوا السيارات والحقوا الأضرار بدور العبادة (مساجد وكنائس)، وقاموا بتقطيع الأشجار وإتلاف المحاصيل وخطّوا الشعارات العنصرية والمسيئة؛ انتقامًا من العرب، ورفضًا لسياسة حكومتهم، ودفعًا لها لتغيير مواقفها من البؤر والمستعمرات غير القانونية حسب القانون الإسرائيلي، وقد صدرت فتاوى من كبار الحاخامات الصهاينة في ذلك الاجتماع تشجّعُ هؤلاء المتطرفين على قتل العرب وذبحهم، مع عدم التفريق بين الأطفال والكبار، وأن هذا الفعل هو واجب ديني على اليهود.
خلال هذه السنوات ومع توسع العنف الاستعماري ضد الفلسطينيين وممتلكاتهم ومنشآتهم التزمت دولة الاحتلال الصمت، ووفرت الغطاء لهؤلاء المُتطرفين، بل إن القضاء الصهيوني لم يُدنهم على جرائمهم التي رصدت وتم توثيقها، وقد شاهدنا مؤخرًا الحكم على براءة المستعمر الذي قتل الشاب قصي معطان من قرية برقة قضاء رام الله بتاريخ 4\8\2023م.
هذا هو الواقع الذي نعيشه في الضفة الغربية عمومًا، وفي المناطق المحاذية للمستعمرات الصهيونية، وليس في جنوب نابلس فحسب، فالطرقات التي يسيطر عليها جيش الاحتلال ويضبطها عبر عشرات الحواجز تقيّد حركتنا وتشلّها وتجعل من كل مدينة وقرية تجمعًا مَعزولًا عن مُحيطه، لتنطلق عصابات تدفيع الثمن وفتية التلال من المستعمرات ومن البؤر الناشئة لمهاجمة أطراف القرى والبلدات دون رادع أو خوفٍ من عقاب.
صرنا نسمع عن القتل والاعتداء اليومي من المُستمعرين في التجمعات الفلسطينية مثل: مسافر يطا، والتجمعات البدوية، وقرى سلفيت، والأغوار الفلسطينية، وعلى الطرقات الالتفافية، وصار الموت شبحاً عاصِفًا يُطارد بقاءنا في البلاد ويتربّص بنا بكل الدروب، فلا حِساب ولا عقاب للقاتل، وقد قيل قديمًا: من أمن العِقاب أساءَ الأدب.
أوسلو التي أضاعت كل شيء
تقول قيادة السلطة الفلسطينية بأنها تلتزم بالشرعية الدولية، وتتمسك بخيار السلام الذي اختارته منذ العام 1993، وتؤكد على لسان الرئيس محمود عباس بأن خيارها هو النضال السلمي لأجل إقامة الدولة.
أوسلو لم تُبقِ لنا مقاومة نَحتمي بها، ولا أقامت لنا دولة!، بل ضَيعتنا ومزقتنا وأعادتنا مائة عامٍ للوراء.
على الأرض هناك طريق آخر، وخيار مختلف للشريك المُفترض في عملية السلام التي تسعى لها السلطة الفلسطينية، حيث اختارت دولة الاحتلال طريقَ مُلاحقتنا وتضييق الخناق علينا في المناطق التي صُنّفت بأنها مناطق "ج" حسب اتفاق أوسلو، وخلال الثلاثين عامًا التي مضت من الاتفاقية صار وجود الاحتلال في هذه المناطق أمرًا واقعًا، ووجودنا طارئ غير قابل للاستدامة، ذلك أنّ هناك اتفاقية مُلزمة لنا من طرف واحد، فيما تنصلت دولة الاحتلال من كل استحقاقاتها بهذه الاتفاقية.
وتلخيصًا لما وصل إليه الحال بعد اتفاق أوسلو؛ يمكنني القول بأن أوسلو لم تُبقِ لنا مقاومة نَحتمي بها، ولا أقامت لنا دولة! بل ضَيعتنا ومزقتنا وأعادتنا مائة عامٍ للوراء، فعدنا للحال الذي كُنا عليه قبل تشكل الحدود السياسية لفلسطين أيام الاحتلال البريطاني.
نحن اليوم مواطنون عُزّل نعيش في تجمعات متناثرة لا تواصل جُغرافي طبيعي بينها، وذلك لسببين، الأول هو سياسة السلطة الفلسطينية التي لاحقت أية بوادرٍ لفعلٍ مُقاوم قيّدت الناس وحدّت من فاعليتهم، والسبب الثاني هو سياسة الدولة الاستعمارية التي عملت مؤسساتها وفق تكامل الأدوار لأجل السيطرة على الأرض؛ مُدركة بأن الفلسطيني بات أعزلًا وضعيفًا منزوع القدرة على المواجهة.
وكي لا أكون متجنيًا فإن أمامنا نموذج حُوارة - قُصرة؛ يُمكننا أن نُعيد مشاهدته بدل المرة ألف، غير أنّه من المُهم التنويه لمن يريد مُشاهدة نموذج قُصره - حُوّاره أن يبحث عن طريق بديلٍ ليتمكن من المشاهدة بعينه لأن جيش الاحتلال أقفل حاجز زعترة باتجاه بلدة حوارة وتركه للمستعمرين فحسب، وأنّ علينا البحث عن طرق بديلة للتنقل، وفي هذه الطرق البديلة مِنَ المُهم أن ننتبه لعدم إزعاج المُستعمرين كي لا يتم إطلاقُ النار علينا وقتلنا، كما حدث مع أهالي قرية قُصرة، ظهر يوم الخميس 12 أكتوبر/تشرين الأول 2023، على مدخل قرية الساوية إذ قَتَلَ الاحتلال أبًا وابنه، فأضافهم لشهداء القرية الذين قُتلوا في اليوم السابق.